صفحة جزء
[ ص: 589 ] فصل :

وينبغي أن يعظم شيخه ومن يسمع منه ؛ فذلك من إجلال العلم وأسباب الانتفاع ، ويعتقد جلالة شيخه ورجحانه ويتحرى رضاه ، ولا يطول عليه بحيث يضجره ، وليستشره في أموره وما يشتغل فيه ، وكيفية اشتغاله ، وينبغي له إذا ظفر بسماع أن يرشد إليه غيره ، فإن كتمانه لؤم يقع فيه جهلة الطلبة فيخاف على كاتمه عدم الانتفاع ، فإن من بركة الحديث إفادته ، ونشره يمن ، وليحذر كل الحذر من أن يمنعه الحياء والكبر من السعي التام في التحصيل وأخذ العلم ممن دونه في نسب أو سن أو غيره ، وليصبر على جفاء شيخه ، وليعتن بالمهم ، ولا يضيع وقته في الاستكثار من الشيوخ لمجرد اسم الكثرة ، وليكتب وليسمع ما يقع له من كتاب أو جزء بكماله ، ولا ينتخب فإن احتاج تولاه بنفسه ، فإن قصر عنه استعان بحافظ .


[ ص: 589 ] ( فصل :

وينبغي ) للطالب ( أن يعظم شيخه ومن يسمع منه ؛ فذلك من إجلال العلم وأسباب الانتفاع به ) .

وقد قال المغيرة : كنا نهاب إبراهيم كما نهاب الأمير .

وقال البخاري : ما رأيت أحدا أوقر للمحدثين من يحيى بن معين .

وفي الحديث : تواضعوا لمن تعلمون منه ؛ رواه البيهقي مرفوعا من حديث أبي هريرة وضعفه ، وقال : الصحيح وقفه على عمر .

وأورد في الباب حديث عبادة بن الصامت مرفوعا : ليس منا من لم يجل كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه ، رواه أحمد وغيره .

وأسند عن ابن عباس قال : وجدت عامة علم رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هذا الحي من الأنصار ، فإن كنت لآتي باب أحدهم فأقيل ببابه ، ولو شئت أن يؤذن لي عليه لأذن لي ، لقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن كنت أبتغي بذلك طيب نفسه .

[ ص: 590 ] وأسند عن أبي عبيد القاسم بن سلام قال : ما دققت على محدث بابه قط ، لقوله تعالى : ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم .

( ويعتقد جلالة شيخه ورجحانه ) على غيره ، فقد روى الخليلي في الإرشاد عن أبي يوسف القاضي قال : سمعت السلف يقولون : من لا يعرف لأستاذه لا يفلح .

( ويتحرى رضاه ) ، ويحذر سخطه ، ( ولا يطول عليه بحيث يضجره ) بل يقنع بما يحدثه به ، فإن الإضجار يغير الأفهام ويفسد الأخلاق ويحيل الطباع .

وقد كان إسماعيل بن أبي خالد من أحسن الناس خلقا ، فلم يزالوا به حتى ساء خلقه .

وروينا عن ابن سيرين أنه سأله رجل عن حديث وقد أراد أن يقوم ، فقال :


إنك إن كلفتني ما لم أطق ساءك ما سرك مني من خلق

قال ابن الصلاح : ويخشى على فاعل ذلك أن يحرم من الانتفاع .

قال : وروينا عن الزهري أنه قال : إذا طال المجلس كان للشيطان فيه نصيب .

( وليستشره في أموره ) التي تعرض له ، ( وما يشتغل فيه ، [ ص: 591 ] وكيفية اشتغاله ) ، وعلى الشيخ نصحه في ذلك .

( وينبغي له ) أي للطالب ( إذا ظفر بسماع ) لشيخ ( أن يرشد إليه غيره ) من الطلبة ، ( فإن كتمانه ) عنهم ( لؤم يقع فيه جهلة الطلبة ، فيخاف على كاتمه عدم الانتفاع ، فإن من بركة الحديث إفادته ) كما قال مالك ، ( ونشره يمن ) .

وقال ابن معين : من بخل بالحديث وكتم على الناس سماعهم لم يفلح ، وكذا قال إسحاق بن راهويه .

وقال ابن المبارك : من بخل بالعلم ابتلي بثلاث : إما أن يموت فيذهب علمه ، أو ينسى ، أو يتبع السلطان .

وروى الخطيب في ذلك بسنده عن ابن عباس رفعه : إخواني تناصحوا في العلم ، ولا يكتم بعضكم بعضا ، فإن خيانة الرجل في علمه أشد من خيانته في ماله .

قال الخطيب : ولا يحرم الكتم عمن ليس بأهل أو لا يقبل الصواب إذا أرشد إليه أو نحو ذلك ، وعلى ذلك يحمل ما نقل عن الأئمة من الكتم .

وقد قال الخليل لأبي عبيدة : لا تردن على معجب خطأ فيستفيد منك علما ، ويتخذك به عدوا .

[ ص: 592 ] ( وليحذر كل الحذر من أن يمنعه الحياء أو الكبر من السعي التام في التحصيل وأخذ العلم ممن دونه في نسب أو سن أو غيره ) .

فقد ذكر البخاري عن مجاهد قال : لا ينال العلم مستحي ولا مستكبر .

وقال عمر بن الخطاب : من رق وجهه دق علمه .

وقالت عائشة : نعم النساء نساء الأنصار ، لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين .

وقال وكيع : لا ينبل الرجل من أصحاب الحديث حتى يكتب عمن هو فوقه وعمن هو مثله وعمن هو دونه .

وكان ابن المبارك يكتب عمن هو دونه ، فقيل له ، فقال : لعل الكلمة التي فيها نجاتي لم تقع لي .

وروى البيهقي عن الأصمعي قال : من لم يحتمل ذل التعليم ساعة [ ص: 593 ] بقي في ذل الجهل أبدا .

وروي أيضا عن عمر قال : لا تتعلم العلم لثلاث ، ولا تتركه لثلاث ، لا تتعلم لتماري به ، ولا ترائي به ، ولا تباهي به ، ولا تتركه حياء من طلبه ، ولا زهادة فيه ، ولا رضا بجهالة .

( وليصبر على جفاء شيخه ، وليعتن بالمهم ، ولا يضيع وقته في الاستكثار من الشيوخ لمجرد اسم الكثرة ) وصيتها ؛ فإن ذلك شيء لا طائل تحته .

قال ابن الصلاح : وليس من ذلك قول أبي حاتم : إذا كتبت فقمش ، وإذا حدثت ففتش .

قال العراقي : كأنه أراد : اكتب الفائدة ممن سمعتها ، ولا تؤخر حتى تنظر هل هو أهل للأخذ عنه أم لا ؟ فربما فات ذلك بموته أو سفره أو غير ذلك ؛ فإذا كان وقت الرواية أو العمل ففتش حينئذ .

ويحتمل أنه أراد استيعاب الكتاب ، وترك انتخابه ، أو استيعاب ما عند الشيخ وقت التحمل ، ويكون النظر فيه حال الرواية .

قال : وقد يكون قصد المحدث تكثير طرق الحديث وجمع أطرافه فتكثر بذلك [ ص: 594 ] شيوخه ولا بأس به .

فقد قال أبو حاتم : لو لم نكتب الحديث من ستين وجها ما عقلناه .

( وليكتب وليسمع ما يقع له من كتاب أو جزء بكماله ولا ينتخب ) فربما احتاج بعد ذلك إلى رواية شيء منه لم يكن فيما انتخبه فيندم .

وقد قال ابن المبارك : ما انتخبت على عالم قط إلا ندمت .

وقال : ما جاء من منتق خير قط .

وقال ابن معين : صاحب الانتخاب يندم ، وصاحب المشج لا يندم .

( فإن احتاج إليه ) أي إلى الانتخاب لكون الشيخ مكثرا ، وفي الرواية عسرا ، أو كون الطالب غريبا لا يمكنه طول الإقامة ( تولاه بنفسه ) ، وانتخب عواليه وما تكرر من رواياته ، وما لا يجده عند غيره ( فإن قصر عنه ) لقلة معرفته ( استعان ) عليه ( بحافظ ) .

قال ابن الصلاح : ويعلم في الأصل على أول إسناد الأحاديث المنتخبة بخط عريض أحمر ، أو بصاد ممدودة أو بطاء ممدودة ، أو نحو [ ص: 595 ] ذلك ؛ وفائدته سهولة الكشف لأجل المعارضة أو لاحتمال ذهاب الفرع فيرجع إليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية