صفحة جزء
[ ص: 92 ] الثانية : أول مصنف في الصحيح المجرد ، صحيح البخاري ، ثم مسلم


( الثانية ) من مسائل الصحيح ( أول مصنف في الصحيح المجرد صحيح ) الإمام محمد بن إسماعيل ( البخاري ) ، والسبب في ذلك ما رواه عنه إبراهيم بن معقل النسفي قال : كنا عند إسحاق بن راهويه فقال : لو جمعتم كتابا مختصرا لصحيح سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : فوقع ذلك في قلبي ، فأخذت في جمع الجامع الصحيح .

وعنه أيضا قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأنني واقف بين يديه وبيدي مروحة أذب عنه ، فسألت بعض المعبرين فقال لي : أنت تذب عنه الكذب ، فهو الذي [ ص: 93 ] حملني على إخراج الجامع الصحيح . قال : وألفته في بضع عشرة سنة .

وقد كانت الكتب قبله مجموعة ممزوجا فيها الصحيح بغيره ، وكانت الآثار في عصر الصحابة وكبار التابعين غير مدونة ولا مرتبة ، لسيلان أذهانهم وسعة حفظهم ، ولأنهم كانوا نهوا أولا عن كتابتها ، كما ثبت في صحيح مسلم ؛ خشية اختلاطها بالقرآن ، ولأن أكثرهم كان لا يحسن الكتابة ، فلما انتشر العلماء في الأمصار وكثر الابتداع من الخوارج والروافض دونت ممزوجة بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين وغيرهم .

فأول من جمع ذلك : ابن جريج بمكة ، وابن إسحاق أو مالك بالمدينة ، والربيع بن صبيح أو سعيد بن أبي عروبة أو حماد بن سلمة بالبصرة ، وسفيان الثوري بالكوفة ، والأوزاعي بالشام ، وهشيم بواسط ، ومعمر باليمن ، وجرير بن عبد الحميد بالري ، وابن المبارك بخراسان .

قال العراقي وابن حجر : وكان هؤلاء في عصر واحد فلا ندري أيهم سبق .

وقد صنف ابن أبي ذئب بالمدينة موطأ أكبر من موطأ مالك ، حتى قيل لمالك : ما الفائدة في تصنيفك ؟ قال : ما كان لله بقي .

[ ص: 94 ] قال شيخ الإسلام : وهذا بالنسبة إلى الجمع بالأبواب ، أما جمع حديث إلى مثله في باب واحد فقد سبق إليه الشعبي ، فإنه روي عنه أنه قال : هذا باب من الطلاق جسيم ، وساق فيه أحاديث ، ثم تلا المذكورين كثير من أهل عصرهم إلى أن رأى بعض الأئمة أن تفرد أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ، وذلك على رأس المائتين ، فصنف عبيد الله بن موسى العبسي الكوفي مسندا ، وصنف مسدد البصري مسندا ، وصنف أسد بن موسى الأموي مسندا . وصنف نعيم بن حماد الخزاعي المصري مسندا ، ثم اقتفى الأئمة آثارهم ، فقل إمام من الحفاظ إلا وصنف حديثه على المسانيد كأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وعثمان بن أبي شيبة وغيرهم . اهـ .

قلت : وهؤلاء المذكورون في أول من جمع ، كلهم في أثناء المائة الثانية ، وأما ابتداء تدوين الحديث فإنه وقع على رأس المائة في خلافة عمر بن عبد العزيز بأمره ، ففي صحيح البخاري في أبواب العلم : وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم : انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاكتبه فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء .

وأخرجه أبو نعيم في تاريخ أصبهان بلفظ : كتب عمر بن عبد العزيز إلى الآفاق : انظروا حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاجمعوه .

قال في فتح الباري : يستفاد من هذا ابتداء تدوين الحديث النبوي ، ثم أفاد أن أول من دونه بأمر عمر بن عبد العزيز : ابن شهاب الزهري .

[ ص: 95 ] تنبيه

قول المصنف : " المجرد " زيادة على ابن الصلاح ، احترز بها عما اعترض عليه به ، من أن مالكا أول من صنف الصحيح ، وتلاه أحمد بن حنبل وتلاه الدارمي ، قال العراقي : والجواب أن مالكا لم يفرد الصحيح بل أدخل فيه المرسل والمنقطع والبلاغات ، ومن بلاغاته أحاديث لا تعرف ، كما ذكره ابن عبد البر ، فلم يفرد الصحيح إذن ، وقال مغلطاي : لا يحسن هذا جوابا ، لوجود مثل ذلك في كتاب البخاري .



قال شيخ الإسلام : كتاب مالك صحيح عنده وعند من يقلده على ما اقتضاه نظره من الاحتجاج بالمرسل والمنقطع وغيرهما ، لا على الشرط الذي تقدم التعريف به . قال : والفرق بين ما فيه من المنقطع وبين ما في البخاري أن الذي في الموطأ هو كذلك مسموع لمالك غالبا ، وهو حجة عنده ، والذي في البخاري قد حذف إسناده عمدا لقصد التخفيف إن كان ذكره في موضع آخر موصولا ، أو لقصد التنويع إن كان على غير شرطه ليخرجه عن موضوع كتابه ، وإنما يذكر ما يذكر من ذلك تنبيها واستشهادا واستئناسا وتفسيرا لبعض آيات ، وغير ذلك مما سيأتي عند الكلام على التعليق .

فظهر بهذا أن الذي في البخاري لا يخرجه عن كونه جرد فيه الصحيح بخلاف الموطأ ، وأما ما يتعلق بمسند أحمد والدارمي فسيأتي الكلام فيه في نوع الحسن عند ذكر المسانيد .

[ ص: 96 ] ( ثم ) تلا البخاري في تصنيف الصحيح : ( مسلم ) بن الحجاج تلميذه ، قال العراقي : وقد اعترض هذا بقول أبي الفضل أحمد بن سلمة : كنت مع مسلم بن الحجاج في تأليف هذا الكتاب سنة خمس ومائتين ، وهذا تصحيف إنما هو خمسين بزيادة الياء والنون ؛ لأن في سنة خمس كان عمر مسلم سنة ، بل لم يكن البخاري صنف إذ ذاك ، فإن مولده سنة أربع وتسعين ومائة .

التالي السابق


الخدمات العلمية