صفحة جزء
[ ص: 621 ] النوع الثلاثون :

المشهور من الحديث هو قسمان : صحيح وغيره ، ومشهور بين أهل الحديث خاصة وبينهم وبين غيرهم .

ومنه المتواتر المعروف في الفقه وأصوله ، ولا يذكره المحدثون ، وهو قليل لا يكاد يوجد في رواياتهم ، وهو ما نقله من يحصل العلم بصدقهم ضرورة عن مثلهم من أوله إلى آخره ، وحديث " من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار " متواتر ، لا حديث " إنما الأعمال بالنيات " .


( النوع الثلاثون : المشهور من الحديث ) .

قال ابن الصلاح : ومعنى الشهرة مفهوم ، فاكتفي بذلك عن حده .

وقال البلقيني : لم يذكر له ضابطا ، وفي كتب الأصول المشهورة : ويقال له المستفيض الذي تزيد نقلته على ثلاثة .

وقال شيخ الإسلام : المشهور ما له طرق محصورة بأكثر من اثنين ، ولم يبلغ حد التواتر ، سمي بذلك لوضوحه ، وسماه جماعة من الفقهاء المستفيض لانتشاره ، من فاض الماء يفيض فيضا .

ومنهم من غاير بينهما : بأن المستفيض يكون في ابتدائه وانتهائه سواء ، والمشهور أهم من ذلك ، ومنهم من عكس .

( هو قسمان : صحيح ، وغيره ) أي حسن وضعيف ، ( ومشهور بين أهل الحديث خاصة ، و ) مشهور ( بينهم وبين غيرهم ) من العلماء والعامة .

وقد يراد به ما اشتهر على الألسنة ، وهذا يطلق على ما له إسناد واحد فصاعدا ، [ ص: 622 ] بل ما لا يوجد له إسناد أصلا .

وقد صنف في هذا القسم الزركشي : " التذكرة في الأحاديث المشتهرة " ، وألفت فيه كتابا مرتبا على حروف المعجم استدركت فيه مما فاته الجم الغفير .

مثال المشهور على الاصطلاح وهو صحيح حديث : إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه .

وحديث : من أتى الجمعة فليغتسل .

ومثله الحاكم وابن الصلاح بحديث : إنما الأعمال بالنيات .

فاعترض : بأن الشهرة إنما طرأت له من عند يحيى بن سعيد ، وأول الإسناد فرد كما تقدم .

ومثاله وهو حسن حديث : " طلب العلم فريضة على كل مسلم " .

فقد قال المزي : إن له طرقا يرتقي بها إلى رتبة الحسن .

ومثاله وهو ضعيف : " الأذنان من الرأس " ، مثل به الحاكم .

[ ص: 623 ] ومثال المشهور عند أهل الحديث خاصة حديث أنس : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت شهرا بعد الركوع يدعو على رعل وذكوان .

أخرجه الشيخان من رواية سليمان التيمي ، عن أبي مجلز ، عن أنس .

وقد رواه عن أنس غير أبي مجلز ، وعن أبي مجلز غير سليمان ، وعن سليمان جماعة ، وهو مشهور بين أهل الحديث ، وقد يستغربه غيرهم ، لأن الغالب على رواية التيمي عن أنس كونها بلا واسطة .

ومثال المشهور عند أهل الحديث والعلماء والعوام : " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده " .

ومثال المشهور عند الفقهاء : " أبغض الحلال عند الله الطلاق " ، صححه الحاكم .

" من سئل عن علم فكتمه " الحديث ، حسنه الترمذي .

" لا غيبة لفاسق " ، حسنه بعض الحفاظ ، وضعفه البيهقي وغيره .

[ ص: 624 ] " لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد " ، ضعفه الحفاظ .

" استاكوا عرضا وادهنوا غبا واكتحلوا وترا " .

قال ابن الصلاح : بحثت عنه فلم أجد له أصلا ولا ذكرا في شيء من كتب الحديث .

ومثال المشهور عند الأصوليين : " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " ، صححه ابن حبان ، والحاكم بلفظ : " إن الله وضع " .

ومثال المشهور عند النحاة : " نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه " .

قال العراقي وغيره : لا أصل له ، ولا يوجد بهذا اللفظ في شيء من كتب الحديث .

ومثال المشهور بين العامة : " من دل على خير فله مثل أجر فاعله " ، أخرجه مسلم .

" مداراة الناس صدقة " ، صححه ابن حبان .

" البركة مع أكابركم " ، صححه ابن حبان والحاكم .

[ ص: 625 ] " ليس الخبر كالمعاينة " ، صححاه أيضا .

" المستشار مؤتمن " ، حسنه الترمذي .

" العجلة من الشيطان " ، حسنه الترمذي أيضا .

" اختلاف أمتي رحمة " .

" نية المؤمن خير من عمله " .

" من بورك له في شيء فليلزمه " .

" الخير عادة " .

" عرفوا ولا تعنفوا " .

" جبلت القلوب على حب من أحسن إليها " .

" أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم " ، وكلها ضعيفة .

[ ص: 626 ] " من عرف نفسه فقد عرف ربه " .

" كنت كنزا لا أعرف " .

" الباذنجان لما أكل له " .

" يوم صومكم يوم نحركم " .

" من بشرني بآذار بشرته بالجنة " .

وكلها باطلة لا أصل لها ، وكتابنا الذي أشرنا إليه كافل ببيان هذا النوع من الأحاديث والآثار والموقوفات بيانا شافيا ولله الحمد .

( ومنه ) أي من المشهور ( المتواتر المعروف في الفقه وأصوله ولا يذكره المحدثون ) باسمه الخاص المشعر بمعناه الخاص ، وإن وقع في كلام الخطيب ؛ ففي كلامه ما يشعر بأنه اتبع فيه غير أهل الحديث ؛ قاله ابن الصلاح .

قيل : وقد ذكره الحاكم ، وابن عبد البر ، وابن حزم .

وأجاب العراقي بأنهم لم يذكروه باسمه المشعر بمعناه ، بل وقع في كلامهم تواترا [ ص: 627 ] عنه صلى الله عليه وسلم كذا ، وأن الحديث الفلاني متواتر .

( وهو قليل لا يكاد يوجد في رواياتهم ، وهو ما نقله من يحصل العلم بصدقهم ضرورة ) بأن يكونوا جمعا لا يمكن تواطؤهم على الكذب ، ( عن مثلهم من أوله ) أي الإسناد ( إلى آخره ) ؛ ولذلك يجب العمل به من غير بحث عن رجاله ، ولا يعتبر فيه عدد معين في الأصح .

قال القاضي الباقلاني : ولا يكفي الأربعة ، وما فوقها صالح ، وتوقف في الخمسة .

وقال الإصطخري : أقله عشرة ، وهو المختار ، لأنه أول جموع الكثرة .

وقيل : اثنا عشر عدة نقباء بني إسرائيل .

وقيل : عشرون .

وقيل : أربعون .

وقيل : سبعون عدة أصحاب موسى عليه الصلاة والسلام .

وقيل : ثلاثمائة وبضعة عشر ، عدة أصحاب طالوت وأهل بدر ، لأن كل ما ذكر من العدد المذكور في الأدلة المذكورة أفاد العلم .

( وحديث من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار متواتر ) ، قال ابن الصلاح : رواه اثنان وستون من الصحابة .

وقال غيره : رواه أكثر من مائة نفس .

[ ص: 628 ] وفي شرح مسلم للمصنف : رواه نحو مائتين .

قال العراقي : وليس في هذا المتن بعينه ، ولكنه في مطلق الكذب ، والخاص بهذا المتن رواية بضعة وسبعين صحابيا : العشرة المشهود لهم بالجنة ، أسامة " قا " ، أنس بن مالك " خ م " ، أوس بن أوس " طب " ، البراء بن عازب " طب " ، بريدة " عد " ، جابر بن حابس " نع " ، جابر بن عبد الله " م " ، حذيفة بن أسد " طب " ، حذيفة بن اليمان " طب " ، خالد بن عرفطة " حم " ، رافع بن خديج " طب " ، زيد بن أرقم " حم " ، زيد بن ثابت " خل " ، السائب بن يزيد " طب " ، سعد بن المدحاس " خل " ، سفينة " عد " ، سليمان بن خالد الخزاعي " قط " ، سلمان الفارسي " قط " ، سلمة بن الأكوع " خ " ، صهيب بن سنان " طب " ، عبد الله بن أبي أوفى " قا " ، عبد الله بن زغب " نع " ، ابن الزبير " قط " ، ابن عباس " طب " ، ابن عمر " حم " ، ابن عمرو " خ " ، ابن مسعود " ت ن " ، عتبة بن غزوان " طب " ، العرس بن عميرة " طب " ، عفان بن حبيب " ك " ، عقبة بن عامر " حم " ، عمار بن ياسر " طب " ، عمران بن حصين " بز " ، عمرو بن حريث " طب " ، عمرو بن عبسة " طب " ، عمرو بن عوف " طب " ، عمرو بن مرة الجهني " طب " ، قيس بن سعد بن عبادة " حم " ، كعب بن قطبة " خل " ، معاذ بن جبل " طب " ، معاوية بن حيدة " خل " ، معاوية بن أبي سفيان " حم " ، المغيرة بن شعبة " نع " ، المنقع التميمي " خل " ، نبيط بن شريط " طب " ، واثلة بن الأسقع " عد " ، يزيد بن أسد " قط " ، يعلى بن مرة " مي " ، أبو أمامة " طب " ، أبو الحمراء " طب " ، أبو ذر " قط " ، أبو رافع " قط " ، أبو رمثة " قط " ، أبو سعيد الخدري " حم " ، أبو قتادة ، أبو قرصافة " عد " ، أبو كبشة الأنماري " خل " ، أبو موسى الأشعري " طب " ، أبو موسى الغافقي [ ص: 629 ] " حم " ، أبو ميمون الكردي " طب " ، أبو هريرة ، والد أبي العشراء الدارمي " خل " ، والد أبي مالك الأشجعي " بز " ، عائشة " قط " ، أم أيمن " قط " ، وقد أعلمت على كل واحد رمز من أخرج حديثه من الأئمة ؛ " حم " في مسنده لأحمد ، و " طب " للطبراني ، و " قط " للدارقطني ، و " عد " لابن عدي في " الكامل " ، و " بز " لمسند البزار ، و " قا " لابن قانع في معجمه ، و " خل " للحافظ يوسف بن خليل في كتابه الذي جمع فيه طرق هذا الحديث ، و " نع " لأبي نعيم ، و " مي " لمسند الدارمي ، و " ك " لمستدرك الحاكم ، و " ت " للترمذي ، و " ن " للنسائي ، و " خ م " للبخاري ومسلم . ( لا حديث " إنما الأعمال بالنيات " ) أي ليس بمتواتر كما تقدم تحقيقه في نوع الشاذ .

تنبيهات

الأول : قال شيخ الإسلام : ما ادعاه ابن الصلاح من عزة المتواتر ، وكذا ما ادعاه غيره من العدم ممنوع ؛ لأن ذلك نشأ عن قلة الاطلاع على كثرة الطرق ، وأحوال الرجال ، وصفاتهم المقتضية لإبعاد العادة أن يتواطئوا على الكذب ، أو يحصل منهم اتفاقا .

قال : ومن أحسن ما يقرر به كون المتواتر موجودا وجود كثرة في الأحاديث ، أن الكتب المشهورة المتداولة بأيدي أهل العلم شرقا وغربا المقطوع عندهم بصحة نسبتها إلى مؤلفيها ، إذا اجتمعت على إخراج حديث ، وتعددت طرقه تعددا تحيل العادة تواطؤهم على الكذب ؛ أفاد العلم اليقيني بصحته إلى قائله .

قال : ومثل ذلك في الكتب المشهورة كثير .

قلت : قد ألفت في هذا النوع كتابا لم أسبق إلى مثله سميته : " الأزهار المتناثرة [ ص: 630 ] في الأخبار المتواترة " مرتبا على أبواب ، أوردت فيه كل حديث بأسانيد من خرجه . وطرقه .

ثم لخصته في جزء لطيف سميته : " قطف الأزهار " ، اقتصرت فيه على عزو كل طريق لمن أخرجها من الأئمة ، وأوردت فيه أحاديث كثيرة .

منها : حديث الحوض من رواية نيف وخمسين صحابيا .

وحديث المسح على الخفين من رواية سبعين صحابيا .

وحديث رفع اليدين في الصلاة من رواية نحو خمسين .

وحديث : نضر الله امرأ سمع مقالتي من رواية نحو ثلاثين .

وحديث : نزل القرآن على سبعة أحرف ، من رواية سبع وعشرين .

وحديث : من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة ، من رواية عشرين .

وكذا حديث : كل مسكر حرام .

وحديث : بدأ الإسلام غريبا .

وحديث سؤال منكر ونكير .

[ ص: 631 ] وحديث : كل ميسر لما خلق له .

وحديث : المرء مع من أحب .

وحديث : إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة .

وحديث : بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة .

كلها متواترة ، في أحاديث جمة أودعناها كتابنا المذكور ، ولله الحمد .

الثاني : قد قسم أهل الأصول المتواتر إلى :

لفظي : وهو ما تواتر لفظه .

ومعنوي : وهو أن ينقل جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب وقائع مختلفة تشترك في أمر ، يتواتر ذلك القدر المشترك .

كما إذا نقل رجل عن حاتم مثلا أنه أعطى جملا ، وآخر أنه أعطى فرسا ، وآخر أنه أعطى دينارا ، وهلم جرا ؛ فيتواتر القدر المشترك بين أخبارهم ، وهو الإعطاء ، لأن وجوده مشترك من جميع هذه القضايا .

قلت : وذلك أيضا يتأتى في الحديث ، فمنه ما تواتر لفظه كالأمثلة السابقة ، ومنه ما تواتر معناه كأحاديث رفع اليدين في الدعاء .

فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم نحو مائة حديث ، فيه رفع يديه في الدعاء ، وقد جمعتها في جزء لكنها في قضايا مختلفة ؛ فكل قضية منها لم تتواتر ، والقدر المشترك فيها وهو [ ص: 632 ] الرفع عند الدعاء ، تواتر باعتبار المجموع .

التالي السابق


الخدمات العلمية