صفحة جزء
[ ص: 643 ] النوع الرابع والثلاثون :

ناسخ الحديث ومنسوخه . هو فن مهم صعب ، وكان للشافعي فيه يد طولى : وسابقة أولى ، وأدخل فيه بعض أهل الحديث ما ليس منه لخفاء معناه ، والمختار أن النسخ رفع الشارع حكما منه متقدما بحكم منه متأخر ؛ فمنه ما عرف بتصريح رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزورها " ، ومنه ما عرف بقول الصحابي : " كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار " ، ومنه ما عرف بالتاريخ ، ومنه ما عرف بدلالة الإجماع كحديث قتل شارب الخمر في الرابعة ، والإجماع لا ينسخ ولا ينسخ لكن يدل على ناسخ .


( النوع الرابع والثلاثون ) : ( ناسخ الحديث ومنسوخه ، وهو فن مهم ) .

فقد مر على علي قاص ، فقال : تعرف الناسخ من المنسوخ ؟ فقال : لا ، فقال : [ ص: 644 ] هلكت وأهلكت ؛ أسنده الحازمي في كتابه ، وأسند نحوه عن ابن عباس .

وأسند عن حذيفة ، أنه سئل عن شيء فقال : إنما يفتي من عرف الناسخ والمنسوخ ، قالوا : ومن يعرف ذلك ؟ قال ، عمر .

( صعب ) فقد روينا عن الزهري قال : أعيا الفقهاء وأعجزهم أن يعرفوا ناسخ الحديث من منسوخه .

( وكان للشافعي فيه يد طولى ، وسابقة أولى ) ؛ فقد قال الإمام أحمد لابن وارة وقد قدم من مصر : كتبت كتب الشافعي ؟ قال : لا ، قال : فرطت ، ما علمنا المجمل من المفسر ، ولا ناسخ الحديث من منسوخه حتى جالسنا الشافعي .

( وأدخل فيه بعض أهل الحديث ) ممن صنف فيه ( ما ليس منه لخفاء معناه ) أي النسخ وشرطه .

( والمختار ) في حده ( أن النسخ رفع الشارع حكما منه متقدما بحكم منه متأخر ) .

فالمراد برفع الحكم قطع تعلقه عن المكلفين ، واحترز به عن بيان المجمل ، وبإضافته للشارع عن إخبار بعض من شاهد النسخ من الصحابة ؛ فإنه لا يكون نسخا ، وإن لم يحصل التكليف به لمن لم يبلغه قبل ذلك إلا بإخباره .

[ ص: 645 ] وبالحكم عن رفع الإباحة الأصلية ؛ فإنه لا يسمى نسخا .

وبالتقدم عن التخصيص المتصل بالتكليف ، كالاستثناء ونحوه .

وبقولنا : بحكم منه متأخر ، عن رفع الحكم بموت المكلف ، أو زوال تكليفه بجنون ونحوه ، وعن انتهائه بانتهاء الوقت .

كقوله صلى الله عليه وسلم : " إنكم ملاقو العدو غدا ، والفطر أقوى لكم فأفطروا " ؛ فالصوم بعد ذلك اليوم ليس نسخا .

( فمنه ما عرف ) النسخ فيه ( بتصريح رسول الله صلى الله عليه وسلم ) بذلك ، ك ( " كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها " ) ، وكنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث فكلوا ما بدا لكم ، وكنت نهيتكم عن الظروف ، الحديث ، أخرجه مسلم عن بريدة .

( ومنه ما عرف بقول الصحابي : ك " كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار " ) رواه أبو داود والنسائي عن جابر .

وكقول أبي بن كعب : كان الماء من الماء رخصة في أول الإسلام ، ثم أمر بالغسل . رواه أبو داود والترمذي وصححه .

[ ص: 646 ] وشرط أهل الأصول في ذلك أن يخبر بتأخره ؛ فإن قال : هذا ناسخ لم يثبت به النسخ ، لجواز أن يقوله عن اجتهاد .

قال العراقي : وإطلاق أهل الحديث أوضح وأشهر ، لأن النسخ لا يصار إليه بالاجتهاد والرأي ، إنما يصار إليه عند معرفة التاريخ ، والصحابة أورع من أن يحكم أحد منهم على حكم شرعي بنسخ ، من غير أن يعرف تأخر الناسخ عنه ، وقد أطلق الشافعي ذلك أيضا .

( ومنه ما عرف بالتاريخ ) كحديث شداد بن أوس مرفوعا : " أفطر الحاجم والمحجوم " ؛ رواه أبو داود والنسائي .

ذكر الشافعي أنه منسوخ بحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم صائم ؛ أخرجه مسلم ؛ فإن ابن عباس إنما صحبه محرما في حجة الوداع سنة عشر ، وفي بعض طرق حديث شداد : أن ذلك كان زمن الفتح سنة ثمان .

( ومنه ما عرف بدلالة الإجماع : كحديث قتل شارب الخمر في الرابعة ) ، وهو ما رواه أبو داود والترمذي من حديث معاوية : من شرب الخمر فاجلدوه ، فإن عاد في الرابعة فاقتلوه .

قال المصنف في شرح مسلم : دل الإجماع على نسخه .

[ ص: 647 ] وإن كان ابن حزم خالف في ذلك فخلاف الظاهرية لا يقدح في الإجماع .

نعم : ورد نسخه في السنة أيضا ، كما قال الترمذي من رواية محمد بن إسحاق ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن شرب الخمر فاجلدوه ، فإن شرب في الرابعة فاقتلوه ، ثم أتي النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك برجل قد شرب في الرابعة فضربه ولم يقتله .

قال : وكذلك روى الزهري عن قبيصة بن ذؤيب عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا .

قال : فرفع القتل وكانت رخصة . انتهى .

وما علقه الترمذي أسنده البزار في مسنده .

وقبيصة ذكره ابن عبد البر في الصحابة وقال : ولد أول سنة من الهجرة ، وقيل عام الفتح .

فالمثال الصحيح لذلك ما رواه الترمذي من حديث جابر قال : كنا حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فكنا نلبي عن النساء ، ونرمي عن الصبيان .

قال الترمذي : أجمع أهل العلم أن المرأة لا يلبي عنها غيرها .

[ ص: 648 ] ثم الحديث لا يحكم عليه بالنسخ بالإجماع على ترك العمل به ، إلا إذا عرف صحته ؛ وإلا فيحتمل أنه غلط ، صرح به الصيرفي .

( والإجماع لا ينسخ ) أي لا ينسخه شيء ، ( ولا ينسخ ) هو غيره ، ( ولكن يدل على ناسخ ) أي على وجود ناسخ غيره .

التالي السابق


الخدمات العلمية