صفحة جزء
[ ص: 96 ] وهما أصح الكتب بعد القرآن ، والبخاري أصحهما وأكثرهما فوائد ، وقيل : مسلم أصح ، والصواب الأول .


( وهما أصح الكتب بعد القرآن العزيز ) قال ابن الصلاح : وأما ما رويناه عن الشافعي من أنه قال : ما أعلم في الأرض كتابا أكثر صوابا من كتاب مالك ، وفي لفظ عنه : ما بعد كتاب الله أصح من موطأ مالك ، فذلك قبل وجود الكتابين .

( والبخاري أصحهما ) أي المتصل فيه دون التعاليق والتراجم ( وأكثرهما فوائد ) لما فيه من الاستنباطات الفقهية ، والنكت الحكمية وغير ذلك .

( وقيل مسلم أصح ، والصواب الأول ) وعليه الجمهور ؛ لأنه أشد اتصالا وأتقن رجالا ، وبيان ذلك من وجوه : أحدها : أنالذين انفرد البخاري بالإخراج لهم دون مسلم أربعمائة وبضعة [ ص: 97 ] وثلاثون رجلا ، المتكلم فيهم بالضعف منهم ثمانون رجلا ، والذين انفرد مسلم بالإخراج لهم دون البخاري ستمائة وعشرون ، المتكلم فيهم بالضعف منهم مائة وستون .

ولا شك أن التخريج عمن لم يتكلم فيه أصلا أولى من التخريج عمن تكلم فيه ، إن لم يكن ذلك الكلام قادحا .

ثانيها : إن الذين انفرد بهم البخاري ممن تكلم فيه لم يكثر من تخريج أحاديثهم ، وليس لواحد منهم نسخة كثيرة أخرجها كلها أو أكثرها إلا ترجمة عكرمة عن ابن عباس ، بخلاف مسلم فإنه أخرج أكثر تلك النسخ كأبي الزبير عن جابر ، وسهيل عن أبيه ، والعلاء بن عبد الرحمن عن أبيه ، وحماد بن سلمة عن ثابت ، وغير ذلك .

ثالثها : إن الذين انفرد بهم البخاري ممن تكلم فيهم أكثرهم من شيوخه الذين لقيهم وجالسهم وعرف أحوالهم ، واطلع على أحاديثهم عرف جيدها من غيره ، بخلاف مسلم فإن أكثر من تفرد بتخريج حديثه ممن تكلم فيه ممن تقدم عن عصره من التابعين فمن بعدهم ، ولا شك أن المحدث أعرف بحديث شيوخه

[ وبصحيح حديثهم من ضعيفه ] ممن تقدم عنهم .

رابعها : إن البخاري يخرج عن الطبقة الأولى البالغة في الحفظ والإتقان ، ويخرج عن طبقة تليها في التثبت وطول الملازمة اتصالا وتعليقا ، ومسلم يخرج عن هذه الطبقة أصولا كما قرره الحازمي .

خامسها : إن مسلما يرى أن للمعنعن حكم الاتصال إذا تعاصرا وإن لم يثبت اللقى ، والبخاري لا يرى ذلك حتى يثبت كما سيأتي ، وربما أخرج الحديث الذي [ ص: 98 ] لا تعلق له بالباب أصلا ، إلا ليبين سماع راو من شيخه لكونه أخرج له قبل ذلك معنعنا .

سادسها : إن الأحاديث التي انتقدت عليهما نحو مائتي حديث وعشرة أحاديث كما سيأتي أيضا ، اختص البخاري منها بأقل من ثمانين ، ولا شك أن ما قل الانتقاد فيه أرجح مما كثر .

وقال المصنف في شرح البخاري : من أخص ما يرجح به كتاب البخاري اتفاق العلماء على أن البخاري أجل من مسلم ، وأصدق بمعرفة الحديث ودقائقه ، وقد انتخب علمه ولخص ما ارتضاه في هذا الكتاب .

وقال شيخ الإسلام : اتفق العلماء على أن البخاري أجل من مسلم في العلوم ، وأعرف بصناعة الحديث ، وأن مسلما تلميذه وخريجه ، ولم يزل يستفيد منه ويتبع آثاره ، حتى قال الدارقطني : لولا البخاري ما راح مسلم ولا جاء .

تنبيه

عبارة ابن الصلاح : وروينا عن أبي علي النيسابوري شيخ الحاكم أنه قال : ما تحت أديم السماء كتاب أصح من كتاب مسلم ، فهذا وقول من فضل من شيوخ المغرب كتاب مسلم على كتاب البخاري ، إن كان المراد به أن كتاب مسلم يترجح بأنه لم يمازجه غير الصحيح فإنه ليس فيه بعد خطبته إلا الحديث الصحيح مسرودا غير ممزوج بمثل ما في كتاب البخاري ، فهذا لا بأس [ ص: 99 ] به ، ولا يلزم منه أن كتاب مسلم أرجح فيما يرجع إلى نفس الصحيح ، وإن كان المراد أن كتاب مسلم أصح صحيحا فهو مردود على من يقوله . اهـ .

قال شيخ الإسلام ابن حجر : قول أبي علي ليس فيه ما يقتضي تصريحه بأن كتاب مسلم أصح من كتاب البخاري ، خلاف ما يقتضيه إطلاق الشيخ محيي الدين في مختصره ، وفي مقدمة شرح البخاري له ، وإنما يقتضي نفي الأصحية عن غير كتاب مسلم عليه ، أما إثباتها له فلا ؛ لأن إطلاقه يحتمل أن يريد ذلك ، ويحتمل أن يريد المساواة ، كما في حديث : " ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر " ، فهذا لا يقتضي أنه أصدق من جميع الصحابة ولا من الصديق ، بل نفى أن يكون فيهم أصدق منه ، فيكون فيهم من يساويه .

ومما يدل على أن عرفهم في ذلك الزمان ماش على قانون اللغة أن أحمد بن حنبل قال : ما بالبصرة أعلم - أو قال أثبت - من بشر بن المفضل ، أما مثله فعسى ، قال : ومع احتمال كلامه ذلك فهو منفرد ، سواء قصد الأول أو الثاني .

قال : وقد رأيت في كلام الحافظ أبي سعيد العلائي ما يشعر بأن أبا علي لم يقف على صحيح البخاري ، قال : وهذا عندي بعيد ، فقد صح عن بلديه وشيخه أبي بكر بن خزيمة أنه قال : ما في هذه الكتب كلها أجود من كتاب محمد بن إسماعيل . وصح عن بلديه ورفيقه أبي عبد الله بن الأخرم أنه قال : قلما يفوت البخاري ومسلما من الصحيح .

[ ص: 100 ] قال : والذي يظهر لي من كلام أبي علي أنه قدم صحيح مسلم لمعنى آخر غير ما يرجع إلى ما نحن بصدده من الشرائط المطلوبة في الصحة ، بل لأن مسلما صنف كتابه في بلده بحضور أصوله في حياة كثير من مشايخه ، فكان يتحرز في الألفاظ ويتحرى في السياق ، بخلاف البخاري ، فربما كتب الحديث من حفظه ، ولم يميز ألفاظ رواته ؛ ولهذا ربما يعرض له الشك ، وقد صح عنه أنه قال : رب حديث سمعته بالبصرة فكتبته بالشام ، ولم يتصد مسلم لما تصدى له البخاري من استنباط الأحكام وتقطيع الأحاديث ، ولم يخرج الموقوفات .

قال : وأما ما نقله عن بعض شيوخ المغاربة ، فلا يحفظ عن أحد منهم تقييد الأفضلية بالأصحية ، بل أطلق بعضهم الأفضلية ، فحكى القاضي عياض عن أبي مروان الطبني - بضم المهملة وسكون الموحدة ، ثم نون - قال : كان بعض شيوخي يفضل صحيح مسلم على صحيح البخاري . قال : وأظنه عنى ابن حزم .

فقد حكى القاسم التجيبي في فهرسته عنه ذلك ، قال : لأنه ليس فيه بعد الخطبة إلا الحديث السرد ، وقال مسلمة بن قاسم القرطبي من أقران الدارقطني : لم يصنع أحد مثل صحيح مسلم ، وهذا في حسن الوضع وجودة الترتيب لا في الصحة .

التالي السابق


الخدمات العلمية