صفحة جزء
[ ص: 651 ] النوع السادس والثلاثون :

معرفة مختلف الحديث وحكمه . هذا فن من أهم الأنواع ، ويضطر إلى معرفته جميع العلماء من الطوائف ، وهو أن يأتي حديثان متضادان في المعنى ظاهرا فيوفق بينهما أو يرجح أحدهما ، وإنما يكمل له الأئمة الجامعون بين الحديث والفقه ، والأصوليون الغواصون على المعاني ، وصنف فيه الإمام الشافعي ، ولم يقصد - رحمه الله - استيفاءه ، بل ذكر جملة ينبه بها على طريقه ، ثم صنف فيه ابن قتيبة فأتى بأشياء حسنة وأشياء غير حسنة ، لكون غيرها أقوى وأولى ، وترك معظم المختلف .

ومن جمع ما ذكرنا لا يشكل عليه إلا النادر في الأحيان ، والمختلف قسمان : أحدهما : يمكن الجمع بينهما : فيتعين ويجب العمل بهما .

والثاني : لا يمكن بوجه ، فإن علمنا أحدهما ناسخا قدمناه ، وإلا عملنا بالراجح كالترجيح بصفات الرواة وكثرتهم في خمسين وجها .


( النوع السادس والثلاثون : معرفة مختلف الحديث وحكمه : هذا فن من أهم الأنواع ، ويضطر إلى معرفته جميع العلماء من الطوائف ، وهو أن يأتي حديثان متضادان في المعنى ظاهرا ، فيوفق بينهما ، أو يرجح أحدهما ) [ ص: 652 ] فيعمل به دون الآخر ، ( وإنما يكمل له الأئمة الجامعون بين الحديث والفقه ، والأصوليون الغواصون على المعاني ) الدقيقة .

( وصنف فيه الإمام الشافعي ) وهو أول من تكلم فيه ، ( ولم يقصد رحمه الله استيفاءه ) ، ولا إفراده بالتأليف ( بل ذكر جملة منه ) في كتاب " الأم " ، ( ينبه بها على طريقه ) أي الجمع في ذلك .

( ثم صنف فيه ابن قتيبة ، فأتى فيه بأشياء حسنة ، وأشياء غير حسنة ) قصر فيها باعه ، ( لكون غيرها أولى وأقوى ) منها ، ( وترك معظم المختلف ) .

ثم صنف في ذلك ابن جرير ، والطحاوي كتابه مشكل الآثار .

وكان ابن خزيمة من أحسن الناس كلاما فيه ، حتى قال : لا أعرف حديثين متضادين ؛ فمن كان عنده فليأتني به لأؤلف بينهما .

( ومن جمع ما ذكرنا ) من الحديث ، والفقه ، والأصول ، والغوص على المعاني الدقيقة ، ( لا يشكل عليه ) من ذلك ( إلا النادر في الأحيان ، والمختلف قسمان : أحدهما : يمكن الجمع بينهما ) بوجه صحيح ، ( فيتعين ) ولا يصار إلى التعارض ولا النسخ ، ( ويجب العمل بهما ) .

[ ص: 653 ] ومن أمثلة ذلك في أحاديث الأحكام : حديث : إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث .

وحديث : خلق الله الماء طهورا لا ينجسه إلا ما غير طعمه أو لونه أو ريحه .

فإن الأول ظاهره طهارة القلتين ، تغير أم لا ، والثاني : ظاهره طهارة غير المتغير ، سواء كان قلتين أم أقل ، فخص عموم كل منهما بالآخر .

وفي غيرها : حديث : " لا يوردن ممرض على مصح " ، " وفر من المجذوم فرارك من الأسد " ، مع حديث : " لا عدوى ولا طيرة " ، وكلها صحيحة .

وقد سلك الناس في الجمع مسالك :

أحدها : أن هذه الأمراض لا تعدي بطبعها ، لكن الله تعالى جعل مخالطة المريض بها للصحيح سببا لإعدائه مرضه ، وقد يتخلف ذلك عن سببه ، كما في غيره من الأسباب ، وهذا المسلك هو الذي سلكه ابن الصلاح .

الثاني : أن نفي العدوى باق على عمومه ، والأمر بالفرار من باب سد الذرائع ، [ ص: 654 ] لئلا يتفق للذي يخالطه شيء من ذلك بتقدير الله تعالى ; ابتداء لا بالعدوى المنفية ، فيظن أن ذلك بسبب مخالطته ، فيعتقد صحة العدوى ، فيقع في الحرج ، فأمر بتجنبه حسما للمادة ، وهذا المسلك هو الذي اختاره شيخ الإسلام .

الثالث : أن إثبات العدوى في الجذام ونحوه مخصوص من عموم نفي العدوى ، فيكون معنى قوله : لا عدوى أي إلا من الجذام ونحوه ، فكأنه قال : لا يعدي شيء شيئا إلا فيما تقدم تبييني له أنه يعدي ؛ قاله القاضي أبو بكر الباقلاني .

الرابع : أن الأمر بالفرار رعاية لخاطر المجذوم ، لأنه إذا رأى الصحيح تعظم مصيبته ، وتزداد حسرته ، ويؤيده حديث : لا تديموا النظر إلى المجذومين ؛ فإنه محمول على هذا المعنى ، وفيه مسالك أخر .

( و ) القسم ( الثاني : لا يمكن ) الجمع بينهما ( بوجه ؛ فإن علمنا أحدهما ناسخا ) بطريقة مما سبق ( قدمناه ، وإلا عملنا بالراجح ) منهما ، ( كالترجيح بصفات الرواة ) أي كون رواة أحدهما أتقن وأحفظ ، ونحو ذلك مما سيذكر ، ( وكثرتهم ) في أحد الحديثين ( في خمسين وجها ) من المرجحات ، ذكرها الحازمي في كتابه " الاعتبار في الناسخ والمنسوخ " ، ووصلها غيره إلى أكثر من مائة ، كما استوفى ذلك العراقي في نكته .

[ ص: 655 ] وقد رأيتها منقسمة إلى سبعة أقسام :

الأول : الترجيح بحال الراوي ، وذلك بوجوه :

أحدها : كثرة الرواة ، كما ذكر المصنف ، لأن احتمال الكذب والوهم على الأكثر أبعد من احتماله على الأقل .

ثانيها : قلة الوسائط ، أي علو الإسناد حيث الرجال ثقات ، لأن احتمال الكذب والوهم فيه أقل .

ثالثها : فقه الراوي ، سواء كان الحديث مرويا بالمعنى أو اللفظ ؛ لأن الفقيه إذا سمع ما يمتنع حمله على ظاهره بحث عنه حتى يطلع على ما يزول به الإشكال ؛ بخلاف العامي .

رابعها : علمه بالنحو ، لأن العالم به يتمكن من التحفظ عن مواقع الزلل مما لا يتمكن منه غيره .

خامسها : علمه باللغة .

سادسها : حفظه ، بخلاف من يعتمد على كتابه .

سابعها : أفضليته في أحد الثلاثة ، بأن يكونا فقيهين ، أو نحويين ، أو حافظين ، وأحدهما في ذلك أفضل من الآخر .

ثامنها : زيادة ضبطه ، أي اعتناؤه بالحديث واهتمامه به .

تاسعها : شهرته ، لأن الشهرة تمنع الشخص من الكذب كما تمنعه من ذلك التقوى .

عاشرها إلى العشرين : كونه ورعا ، أو حسن الاعتقاد ، أي غير مبتدع ، أو جليسا لأهل الحديث أو غيرهم من العلماء ، أو أكثر مجالسة لهم ، أو ذكرا ، أو حرا ، [ ص: 656 ] أو مشهور النسب ، أو لا لبس في اسمه بحيث يشاركه فيه ضعيف ، وصعب التمييز بينهما ، أو له اسم واحد ، ولذلك أكثر ولم يختلط ، أو له كتاب يرجع إليه .

حادي عشرينها : أن تثبت عدالته بالإخبار ، بخلاف من تثبت بالتزكية ، أو العمل بروايته ، أو الرواية عنه إن قلنا بهما .

ثاني عشرينها إلى سابع عشرينها : أن يعمل بخبره من زكاه ، ومعارضه لم يعمل به من زكاه ، أو يتفق على عدالته . أو يذكر سبب تعديله . أو يكثر مزكوه ، أو يكونوا علماء ، أو كثيري الفحص عن أحوال الناس .

ثامن عشرينها : أن يكون صاحب القصة ، كتقديم خبر أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم في الصوم لمن أصبح جنبا على خبر الفضل بن العباس في منعه ؛ لأنها أعلم منه .

تاسع عشرينها : أن يباشر ما رواه الثلاثون تأخر إسلامه .

وقيل : عكسه ، لقوة أصالة المتقدم ومعرفته .

وقيل : إن تأخر موته إلى إسلام المتأخر لم يرجح بالتأخير ، لاحتمال تأخر روايته عنه ، وإن تقدم أو علم أن أكثر رواياته متقدمة على رواية المتأخر رجح .

الحادي والثلاثون إلى الأربعين : كونه أحسن سياقا واستقصاء لحديثه ، أو أقرب مكانا ، أو أكثر ملازمة لشيخه ، أو سمع من مشايخ بلده ، أو مشافها مشاهدا لشيخه حال الأخذ ، أو لا يجيز الرواية بالمعنى ، أو الصحابي من أكابرهم ، أو علي رضى الله تعالى عنه وهو في الأقضية ، أو معاذ وهو في الحلال والحرام ، أو زيد وهو [ ص: 657 ] في الفرائض ، أو الإسناد حجازي ، أو رواته من بلد لا يرضون التدليس .

القسم الثاني : الترجيح بالتحمل ، وذلك بوجوه :

أحدها : الوقت ، فيرجح منهم من لم يتحمل الحديث إلا بعد البلوغ على من كان بعض تحمله قبله ، أو بعضه بعده ، لاحتمال أن يكون هذا مما قبله . والمتحمل بعده أقوى لتأهله للضبط .

ثانيها وثالثها : أن يتحمل بحدثنا ، والآخر عرضا ، أو عرضا والآخر كتابة ، أو مناولة أو وجادة .

القسم الثالث : الترجيح بكيفية الرواية ، وذلك بوجوه :

أحدها : تقديم المحكي بلفظه على المحكي بمعناه ، والمشكوك فيه على ما عرف أنه مروي بالمعنى ، ثانيها : ما ذكر فيه سبب وروده على ما لم يذكر فيه ؛ لدلالته على اهتمام الراوي به حيث عرف سببه .

ثالثها : أن لا ينكره راويه ولا يتردد فيه .

رابعها إلى عاشرها : أن تكون ألفاظه دالة على الاتصال ، كحدثنا وسمعت ، أو اتفق على رفعه أو وصله ; أو لم يختلف في إسناده أو لم يضطرب لفظه ، أو روى بالإسناد وعزى ذلك لكتاب معروف ، أو عزيز ، والآخر مشهور .

القسم الرابع : الترجيح بوقت الورود وذلك بوجوه :

أحدها وثانيها : بتقديم المدني على المكي ، والدال على علو شأن المصطفى عليه الصلاة والسلام على الدال على الضعف كـ ( بدأ الإسلام غريبا ) ، ثم شهرته : فيكون الدال على العلو متأخرا .

[ ص: 658 ] ثالثها : ترجيح المتضمن للتخفيف ، لدلالته على التأخر ، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يغلظ في أول أمره زجرا عن عادات الجاهلية ، ثم مال للتخفيف .

كذلك قال صاحب الحاصل ، والمنهاج ، ورجح الآمدي وابن الحاجب وغيرهما عكسه ؛ وهو تقديم المتضمن للتغليظ وهو الحق ، لأنه صلى الله عليه وسلم جاء أولا بالإسلام فقط ، ثم شرعت العبادات شيئا فشيئا .

رابعها : ترجيح ما تحمل بعد الإسلام على ما تحمل قبله ، أو شك ، لأنه أظهر تأخرا .

خامسها وسادسها : ترجيح غير المؤرخ على المؤرخ بتاريخ متقدم ، وترجيح المؤرخ بمقارب بوفاته صلى الله عليه وسلم على غير المؤرخ .

قال الرازي : والترجيح بهذه الستة أي إفادتها للرجحان غير قوية .

القسم الخامس : الترجيح بلفظ الخبر ، وذلك بوجوه :

أحدها إلى الخامس والثلاثين : ترجيح الخاص على العام ، والعام الذي لم يخصص على المخصص ؛ لضعف دلالته بعد التخصيص على باقي أفراده ، والمطلق على ما ورد على سبب ، والحقيقة على المجاز ، والمجاز المشبه للحقيقة على غيره ، والشرعية على غيرها ، والعرفية على اللغوية ، والمستغني على الإضمار . وما يقبل فيه اللبس ، وما اتفق على وضعه لمسماه ، والمومي للعلة ، والمنطوق ، ومفهوم الموافقة على المخالفة ، والمنصوص على حكمه مع تشبيهه بمحل آخر ، والمستفاد عمومه من الشرط والجزاء على النكرة المنفية ، أو من الجمع المعرف على ( من ) و ( ما ) ، أو من الكل ؛ وذلك [ ص: 659 ] من الجنس المعرف ، وما خطابه تكليفي على الوضعي ، وما حكمه معقول المعنى ، وما قدم فيه ذكر العلة ، أو دل الاشتقاق على حكمه ، والمقارن للتهديد ، وما تهديده أشد ، والمؤكد بالتكرار والفصيح ، وما بلغة قريش ، وما دل على المعنى المراد بوجهين فأكثر ، وبغير واسطة ، وما ذكر معه معارضة ، كـ ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ) ، والنص والقول ، وقول قارنه العمل ، أو تفسير الراوي ، وما قرن حكمه بصفة على ما قرن باسم ، وما فيه زيادة .

القسم السادس : الترجيح بالحكم وذلك بوجوه :

أحدها : تقديم الناقل على البراءة الأصلية على المقرر لها .

وقيل : عكسه .

ثانيها : تقديم الدال على التحريم على الدال على الإباحة والوجوب .

ثالثها : تقديم الأحوط .

رابعها : تقديم الدال على نفي الحد .

القسم السابع : الترجيح بأمر خارجي كتقديم ( ما ) وافقه ظاهر القرآن ، أو سنة أخرى ، أو ما قبل الشرع ، أو القياس ، أو عمل الأمة أو الخلفاء الراشدين ، أو معه مرسل آخر ، أو منقطع ، أو لم يشعر بنوع قدح في الصحابة ، أو له نظير متفق على حكمه ، أو اتفق على إخراجه الشيخان .

فهذه أكثر من مائة مرجح ، وثم مرجحات أخر لا تنحصر ومثارها غلبة الظن .

[ ص: 660 ] فوائد

الأولى : منع بعضهم الترجيح في الأدلة ، قياسا على البينات ، وقال : إذا تعارضا لزم التخيير أو الوقف .

وأجيب : بأن مالكا يرى ترجيح البينة على البينة ، ومن لم ير ذلك يقول : البينة مستندة إلى توقيفات تعبدية ؛ ولهذا لا تقبل إلا بلفظ الشهادة .

الثانية : إن لم يوجد مرجح لأحد الحديثين توقف عن العمل به حتى يظهر .

الثالثة : التعارض بين الخبرين إنما هو لخلل في الإسناد بالنسبة إلى ظن المجتهد ، وأما في نفس الأمر فلا تعارض .

الرابعة : ما سلم من المعارضة فهو محكم ، وقد عقد له الحاكم في " علوم الحديث " بابا وعده من الأنواع . وكذا شيخ الإسلام في " النخبة " .

قال الحاكم : ومن أمثلته : حديث : إن أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يشبهون بخلق الله .

وحديث : لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول .

وحديث : إذا وضع العشاء ، وأقيمت الصلاة فابدءوا بالصلاة .

وحديث : لا شغار في الإسلام .

[ ص: 661 ] قال : وقد صنف فيه عثمان بن سعيد الدارمي كتابا كبيرا .

التالي السابق


الخدمات العلمية