صفحة جزء
[ ص: 131 ] الخامسة : الصحيح أقسام : أعلاها ما اتفق عليه البخاري ومسلم ، ثم ما انفرد به البخاري ، ثم مسلم ، ثم على شرطهما ، ثم على شرط البخاري ، ثم مسلم ، ثم صحيح عند غيرهما .


( الخامسة : الصحيح أقسام ) متفاوتة بحسب تمكنه من شروط الصحة ، وعدمه ( أعلاها : ما اتفق عليه البخاري ومسلم .

ثم ما انفرد به البخاري ) ووجه تأخره عما اتفقا عليه اختلاف العلماء أيهما أرجح .

( ثم ) ما انفرد به ( مسلم .

ثم ) صحيح ( على شرطهما ) ولم يخرجه واحد منهما ، ووجه تأخره عما اتفقا عليه اختلاف العلماء أيهما أرجح ، ثم ما انفرد به مسلم ثم صحيح على شرطهما ولم يخرجه واحد منهما ، ووجه تأخره عما أخرجه أحدهما تلقي الأمة بالقبول له .

( ثم ) صحيح ( على شرط البخاري .

[ ص: 132 ] ثم ) صحيح على شرط ( مسلم .

ثم صحيح عند غيرهما ) مستوفى فيه الشروط السابقة .



[ تنبيهات ]

الأول : أورد على هذا أقسام : أحدها : المتواتر ، وأجيب بأنه لا يعتبر فيه عدالة ، والكلام في الصحيح بالتعريف السابق .

الثاني : المشهور ، قال شيخ الإسلام : وهو وارد قطعا : وأنا متوقف في رتبته ؛ هل هي قبل المتفق عليه أم بعده .

الثالث : ما أخرجه الستة ، وأجيب بأن من لم يشترط الصحيح في كتابه لا يزيد تخريجه للحديث قوة .

قال الزركشي : ويمنع بأن الفقهاء قد يرجحون بما لا مدخل له في ذلك الشيء كتقديم ابن العم الشقيق على ابن العم للأب ، وإن كان ابن العم للأم لا يرث ، قال العراقي : نعم ، ما اتفق الستة على توثيق رواته أولى بالصحة مما اختلفوا فيه وإن اتفق عليه الشيخان .

الرابع : ما فقد شرطا كالاتصال عند من يعده صحيحا .

الخامس : ما فقد تمام الضبط ونحوه مما ينزل إلى رتبة الحسن عند من يسميه صحيحا .

[ ص: 133 ] قال شيخ الإسلام : وعلى ذلك يقال : ما أخرجه الستة إلا واحدا منهم ، وكذا ما أخرجه الأئمة الذين التزموا الصحة ، ونحو هذا إلى أن تنتشر الأقسام فتكثر حتى يعسر حصرها .

[ التنبيه الثاني ]

قد علم مما تقدم أن أصح من صنف في الصحيح ابن خزيمة ثم ابن حبان ثم الحاكم ، فينبغي أن يقال : أصحها بعد مسلم ما اتفق عليه الثلاثة ، ثم ابن خزيمة وابن حبان أو والحاكم ، ثم ابن حبان والحاكم .

[ ثم ابن خزيمة فقط ] ، ثم ابن حبان فقط ، ثم الحاكم فقط ، إن لم يكن الحديث على شرط أحد الشيخين ، ولم أر من تعرض لذلك ، فليتأمل .

[ التنبيه الثالث ]

قد يعرض للمفوق ما يجعله فائقا ، كأن يتفقا على إخراج حديث غريب ، ويخرج مسلم أو غيره حديثا مشهورا ، أو مما وصفت ترجمته بكونها أصح الأسانيد ، ولا يقدح ذلك فيما تقدم ؛ لأن ذلك باعتبار الإجمال .

قال الزركشي : ومن هنا يعلم أن ترجيح كتاب البخاري على مسلم إنما المراد به ترجيح الجملة ، لا كل فرد من أحاديثه على كل فرد من أحاديث الآخر .

[ التنبيه الرابع ]

فائدة التقسيم المذكور تظهر عند التعارض والترجيح .

[ ص: 134 ] [ التنبيه الخامس ]

في تحقيق شرط البخاري ومسلم ، قال ابن طاهر : شرط البخاري ومسلم أن يخرجا الحديث المجمع على ثقة رجاله إلى الصحابي المشهور .

قال العراقي : وليس ما قاله بجيد ؛ لأن النسائي ضعف جماعة أخرج لهم الشيخان أو أحدهما ، وأجيب بأنهما أخرجا من أجمع على ثقته إلى حين تصنيفهما ، فلا يقدح في ذلك تضعيف النسائي بعد وجود الكتابين .

وقال شيخ الإسلام : تضعيف النسائي إن كان باجتهاده أو نقله عن معاصر فالجواب ذلك ، وإن نقله عن متقدم فلا ، قال : ويمكن أن يجاب بأن ما قاله ابن طاهر هو الأصل الذي بنيا عليه أمرهما ، وقد يخرجان عنه لمرجح يقوم مقامه .

وقال الحاكم في علوم الحديث : وصف الحديث الصحيح أن يرويه الصحابي المشهور بالرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم وله راويان ثقتان ، ثم يرويه من أتباع التابعين الحافظ المتقن المشهور بالرواية ، وله رواة ثقات .

وقال في المدخل : الدرجة الأولى من الصحيح اختيار البخاري ومسلم ، وهو [ ص: 135 ] أن يروي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابي زائل عنه اسم الجهالة ، بأن يروي عنه تابعيان عدلان ، ثم يروي عنه التابعي المشهور بالرواية عن الصحابة وله راويان ثقتان ، ثم يرويه عنه من أتباع التابعين حافظ متقن وله رواة من الطبقة الرابعة ، ثم يكون شيخ البخاري أو مسلم حافظا مشهورا بالعدالة في روايته ، ثم يتداوله أهل الحديث بالقبول إلى وقتنا ، كالشهادة على الشهادة .

فعمم في علوم الحديث شرط الصحيح من حيث هو ، وخصص ذلك في المدخل بشرط الشيخين ، وقد نقض عليه الحازمي ما ادعى أنه شرط الشيخين بما في الصحيحين من الغرائب التي تفرد بها بعض الرواة .

وأجيب بأنه إنما أراد أن كل راو في الكتابين يشترط أن يكون له راويان ، لا أنه يشترط أن يتفقا في رواية ذلك الحديث بعينه .

قال أبو علي الغساني ونقله عياض عنه : ليس المراد أن يكون كل خبر روياه يجتمع فيه راويان عن صحابيه ثم عن تابعيه فمن بعده ، فإن ذلك يعز وجوده ، وإنما المراد أن هذا الصحابي وهذا التابعي روى عنه رجلان خرج بهما عن حد الجهالة .



قال شيخ الإسلام : وكأن الحازمي فهم ذلك من قول الحاكم : كالشهادة على الشهادة ؛ لأن الشهادة يشترط فيها التعدد ، وأجيب باحتمال أن يريد بالتشبيه بعض الوجوه لا كلها ، كالاتصال واللقاء وغيرهما .

وقال أبو عبد الله بن المواق : ما حمل الغساني عليه كلام الحاكم وتبعه عليه عياض [ ص: 136 ] وغيره ليس بالبين ، ولا أعلم أحدا روى عنهما أنهما صرحا بذلك ولا وجود له في كتابيهما ولا خارجا عنهما ، فإن كان قائل ذلك عرفه من مذهبهما بالتصفح لتصرفهما في كتابيهما فلم يصب ؛ لأن الأمرين معا في كتابيهما ، وإن كان أخذه من كون ذلك أكثريا في كتابيهما فلا دليل فيه على كونهما اشترطاه ، ولعل وجود ذلك أكثريا إنما هو لأن من روى عنه أكثر من واحد ، أكثر ممن لم يرو عنه إلا واحد من الرواة مطلقا ، لا بالنسبة إلى من خرج له منهم في الصحيحين . وليس من الإنصاف إلزامهما هذا الشرط من غير أن يثبت عنهما ذلك مع وجود إخلالهما به . لأنهما إذا صح عنهما اشتراط ذلك كان في إخلالهما به درك ، عليهما .

قال شيخ الإسلام : وهذا كلام مقبول وبحث قوي .

وقال في مقدمة شرح البخاري : ما ذكره الحاكم وإن كان منتقضا في حق بعض الصحابة الذين أخرج لهم إلا أنه معتبر في حق من بعدهم ، فليس في الكتاب حديث أصل من رواية من ليس له إلا راو واحد فقط .

وقال الحازمي ما حاصله : شرط البخاري أن يخرج ما اتصل إسناده بالثقات المتقنين الملازمين لمن أخذوا عنه ملازمة طويلة ، وأنه قد يخرج أحيانا عن أعيان الطبقة التي تلي هذه في الإتقان والملازمة لمن رووا عنه ، فلم يلزموه إلا ملازمة يسيرة ، وشرط مسلم أن يخرج حديث هذه الطبقة الثانية ، وقد يخرج حديث من لم يسلم من غوائل الجرح ، إذا كان طويل الملازمة لمن أخذه عنه ، كحماد بن سلمة في ثابت البناني وأيوب .

[ ص: 137 ] وقال المصنف : إن المراد بقولهم على شرطهما : أن يكون رجال إسناده في كتابيهما ؛ لأنه ليس لهما شرط في كتابيهما ولا في غيرهما .

قال العراقي : وهذا الكلام قد أخذه من ابن الصلاح ، حيث قال في المستدرك : أودعه ما ليس في واحد من الصحيحين مما رآه على شرط الشيخين ، وقد أخرجا عن رواته في كتابيهما .

قال : وعلى هذا عمل ابن دقيق العيد ، فإنه ينقل عن الحاكم تصحيحه لحديث على شرط البخاري مثلا ، ثم يعترض عليه بأن فيه فلانا ولم يخرج له البخاري ، وكذا فعل الذهبي في مختصر المستدرك .

قال : وليس ذلك منهم بجيد ، فإن الحاكم صرح في خطبة المستدرك بخلاف ما فهموه عنه ، فقال : وأنا أستعين الله تعالى على إخراج أحاديث رواتها ثقات قد احتج بمثلها الشيخان أو أحدهما .

فقوله : بمثلها ، أي بمثل رواتها ، لا بهم أنفسهم ، ويحتمل أن يراد بمثل تلك الأحاديث ، وإنما تكون مثلها إذا كانت بنفس رواتها ، وفيه نظر .



قال : وتحقيق المثلية أن يكون بعض من لم يخرج عنه في الصحيح مثل من خرج عنه فيه ، أو أعلى منه عند الشيخين ، وتعرف المثلية عندهما إما بنصهما على أن فلانا مثل فلان ، أو أرفع منه ، وقلما يوجد ذلك ، وإما بالألفاظ الدالة على مراتب التعديل ، كأن يقولا في بعض من احتجا به : ثقة أو ثبت أو صدوق أو لا [ ص: 138 ] بأس به أو غير ذلك من ألفاظ التعديل ، ثم يوجد عنهما أنهما قالا ذلك أو أعلى منه في بعض من لم يحتجا به في كتابيهما ، فيستدل بذلك على أنه عندهما في رتبة من احتجا به ؛ لأن مراتب الرواة معيار معرفتها ألفاظ الجرح والتعديل .

قال : ولكن هنا أمر فيه غموض لا بد من الإشارة إليه ، وذلك أنهم لا يكتفون في التصحيح بمجرد حال الراوي في العدالة والاتصال من غير نظر إلى غيره ، بل ينظرون في حاله مع من روى عنه في كثرة ملازمته له أو قلتها ، أو كونه في بلده ممارسا لحديثه ، أو غريبا من بلد من أخذ عنه ، وهذه أمور تظهر بتصفح كلامهم وعملهم في ذلك . انتهى كلامه .

وقال شيخ الإسلام : ما اعترض به شيخنا على ابن دقيق العيد والذهبي ليس بجيد ؛ لأن الحاكم استعمل لفظة مثل في أعم من الحقيقة والمجاز في الأسانيد والمتون ، دل على ذلك صنيعه ، فإنه تارة يقول : على شرطهما ، وتارة على شرط البخاري ، وتارة على شرط مسلم ، وتارة صحيح الإسناد ولا يعزوه لأحدهما . وأيضا فلو قصد بكلمة ( مثل ) معناها الحقيقي حتى يكون المراد ، واحتج بغيرها ممن فيهم من الصفات مثل ما في الرواة الذين خرجا عنهم ، لم يقل قط : على شرط البخاري ، فإن شرط مسلم دونه ، فما كان على شرطه فهو على شرطهما ؛ لأنه حوى شرط مسلم وزاد .

قال : ووراء ذلك كله أن يروى بإسناد ملفق من رجالهما كسماك عن عكرمة عن ابن عباس ، فسماك على شرط مسلم فقط ، وعكرمة انفرد به البخاري والحق أن هذا ليس على شرط واحد منهما .



وأدق من هذا أن يرويا عن أناس ثقات ضعفوا في أناس مخصوصين ، من غير حديث [ ص: 139 ] الذين ضعفوا فيهم ، فيجيء عنهم حديث من طريق من ضعفوا فيه ، برجال كلهم في الكتابين أو أحدهما فنسبته أنه على شرط من خرج له غلط ، كأن يقال في هشيم عن الزهري : كل من هشيم والزهري أخرجا له ، فهو على شرطهما ، فيقال : بل ليس على شرط واحد منهما ؛ لأنهما إنما أخرجا لهشيم من غير حديث الزهري ، فإنه ضعف فيه ؛ لأنه كان رحل إليه فأخذ منه عشرين حديثا ، فلقيه صاحب له وهو راجع فسأله روايته ، وكان ثم ريح شديدة فذهبت بالأوراق من يد الرجل ، فصار هشيم يحدث بما علق منها بذهنه ، ولم يكن أتقن حفظها فوهم في أشياء منها ، ضعف في الزهري بسببها .

وكذا همام ضعيف في ابن جريج مع أن كلا منهما أخرجا له ، لكن لم يخرجا له عن ابن جريج شيئا ، فعلى من يعزو إلى شرطهما أو شرط واحد منهما أن يسوق ذلك السند بنسق رواية من نسب إلى شرطه ولو في موضع من كتابه .

وكذا قال ابن الصلاح في شرح مسلم : من حكم لشخص بمجرد رواية مسلم عنه في صحيحه بأنه من شرط الصحيح فقد غفل وأخطأ ، بل ذلك متوقف على النظر في كيفية رواية مسلم عنه ، وعلى أي وجه اعتمد عليه .

[ تتمة ]

ألف الحازمي كتابا في شروط الأئمة ذكر فيه شرط الشيخين وغيرهما فقال : [ ص: 140 ] مذهب من يخرج الصحيح أن يعتبر حال الراوي العدل في مشايخه وفيمن روى عنهم وهم ثقات أيضا ، وحديثه عن بعضهم صحيح ثابت يلزمه إخراجه ، وعن بعضهم مدخول لا يصح إخراجه إلا في الشواهد والمتابعات ، وهذا باب فيه غموض ، وطريقه معرفة طبقات الرواة عن راوي الأصل ومراتب مداركهم .



ولنوضح ذلك بمثال : وهو أن تعلم أن أصحاب الزهري مثلا على خمس طبقات ولكل طبقة منها مزية على التي تليها وتفاوت : فمن كان في الطبقة الأولى فهي الغاية في الصحة ، وهو غاية مقصد البخاري ، كمالك وابن عيينة ، ويونس وعقيل الأيليين وجماعة .

والثانية شاركت الأولى في العدالة ، غير أن الأولى جمعت بين الحفظ والإتقان وبين طول الملازمة للزهري بحيث كان منهم من يلازمه في السفر ويلازمه في الحضر كالليث بن سعد والأوزاعي والنعمان بن راشد .

والثانية لم تلازم الزهري إلا مدة يسيرة ، فلم تمارس حديثه وكانوا في الإتقان دون الطبقة الأولى ، كجعفر بن برقان وسفيان بن حسين السلمي وزمعة بن صالح المكي ، وهم شرط مسلم .

والثانية : جماعة لزموا الزهري مثل أهل الطبقة الأولى ، غير أنهم لم يسلموا من غوائل الجرح ، فهم بين الرد والقبول ، كمعاوية بن يحيى الصدفي وإسحاق بن يحيى الكلبي ، والمثنى بن الصباح ، وهم شرط أبي داود والنسائي .

[ ص: 141 ] والرابعة : قوم شاركوا الثالثة في الجرح والتعديل ، وتفردوا بقلة ممارستهم لحديث الزهري ؛ لأنهم لم يلازموه كثيرا ، وهم شرط الترمذي .

والخامسة : نفر من الضعفاء والمجهولين لا يجوز لمن يخرج الحديث على الأبواب أن يخرج حديثهم إلا على سبيل الاعتبار والاستشهاد ، عند أبي داود فمن دونه ، فأما عند الشيخين فلا .

التالي السابق


الخدمات العلمية