صفحة جزء
[ ص: 157 ] السادسة : من رأى في هذه الأزمان حديثا صحيح الإسناد في كتاب أو جزء لم ينص على صحته حافظ معتمد . قال الشيخ : لا يحكم بصحته لضعف أهلية أهل هذه الأزمان ، والأظهر عندي جوازه لمن تمكن وقويت معرفته .


( السادسة ) من مسائل الصحيح ( من رأى في هذه الأزمان حديثا صحيح الإسناد في كتاب أو جزء لم ينص على صحته حافظ معتمد ) في شيء من المصنفات المشهورة .

( قال الشيخ ) ابن الصلاح ( لا يحكم بصحته لضعف أهلية أهل هذه الأزمان ) قال : لأنه ما من إسناد من ذلك إلا ونجد في رجاله من اعتمد في روايته على ما في كتابه . عريا عما يشترط في الصحيح من الحفظ والضبط والإتقان .

قال في المنهل الروي : مع غلبة الظن أنه لو صح لما أهمله أئمة الأعصار المتقدمة ؛ لشدة فحصهم واجتهادهم ، قال المصنف ( والأظهر عندي جوازه لمن تمكن وقويت معرفته ) .

[ ص: 158 ] قال العراقي : وهو الذي عليه عمل أهل الحديث ، فقد صحح جماعة من المتأخرين أحاديث لم نجد لمن تقدمهم فيها تصحيحا ، فمن المعاصرين لابن الصلاح : أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الملك بن القطان صاحب كتاب الوهم والإيهام صحح فيه حديث ابن عمر : " أنه كان يتوضأ ونعلاه في رجليه ، ويمسح عليهما ، ويقول : كذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل " ، أخرجه البزار .

وحديث أنس : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرون الصلاة فيضعون جنوبهم ، فمنهم من ينام ثم يقوم إلى الصلاة ، أخرجه قاسم بن أصبغ .

ومنهم الحافظ ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي جمع كتابا سماه " المختارة " التزم فيه الصحة ، وذكر فيه أحاديث لم يسبق إلى تصحيحها ، وصحح الحافظ زكي الدين المنذري حديث بحر بن نصر عن ابن وهب عن مالك ، ويونس عن الزهري عن سعيد ، وأبي سلمة عن أبي هريرة ، في غفران ما تقدم من ذنبه وما تأخر .

ثم صحح الطبقة التي تلي هذه ، فصحح الحافظ شرف الدين الدمياطي حديث جابر : " ماء زمزم لما شرب له " .

ثم صحح طبقة بعد هذه ، فصحح الشيخ تقي الدين السبكي حديث ابن عمر في الزيادة .

قال : ولم يزل ذلك دأب من بلغ أهلية ذلك منهم ، إلا أن منهم من لا يقبل ذلك [ ص: 159 ] منهم ، وكذا كان المتقدمون ربما صحح بعضهم شيئا فأنكر عليه تصحيحه .

وقال شيخ الإسلام : قد اعترض على ابن الصلاح كل من اختصر كلامه ، وكلهم دفع في صدر كلامه من غير إقامة دليل ، ولا بيان تعليل ، ومنهم من احتج بمخالفة أهل عصره ومن بعده له في ذلك ، كابن القطان والضياء المقدسي والزكي المنذري ومن بعدهم ، كابن المواق والدمياطي والمزي ونحوهم ، وليس بوارد ؛ لأنه لا حجة على ابن الصلاح بعمل غيره ، وإنما يحتج عليه بإبطال دليل أو معارضته بما هو أقوى منه ، ومنهم من قال : لا سلف له في ذلك ، ولعله بناه على جواز خلو العصر من المجتهد ، وهذا إذا انضم إلى ما قبله من أنه لا سلف له فيما ادعاه ، وعمل أهل عصره ومن بعدهم على خلاف ما قال انتهض دليلا للرد عليه .

قال : ثم إن في عبارته مناقشات : منها قوله : فإنا لا نتجاسر ، ظاهره وأن الأولى ترك التعرض له لما فيه من التعب والمشقة ، وإن لم ينهض إلى درجة التعذر فلا يحسن قوله بعد ذلك : فقد تعذر .

ومنها : أنه ذكر مع الضبط الحفظ والإتقان ، وليست متغايرة .

ومنها : أنه قابل بعدم الحفظ مع وجود الكتاب ، فأفهم أنه يعيب من حدث [ ص: 160 ] من كتابه ويصوب من حدث عن ظهر قلبه ، والمعروف أن أئمة الحديث خلاف ذلك ، وحينئذ فإذا كان الراوي عدلا لكن لا يحفظ ما سمعه عن ظهر قلب واعتمد على ما في كتابه فحدث منه فقد فعل اللازم له ، فحديثه على هذه الصورة صحيح .

قال : وفي الجملة ما استدل به ابن الصلاح من كون الأسانيد ما منها إلا وفيه من لم يبلغ درجة الضبط المشترطة في الصحيح ، إن أراد أن جميع الإسناد كذلك فهو ممنوع ؛ لأن من جملته من يكون من رجال الصحيح ، وقل أن يخلو إسناد عن ذلك ، وإن أراد أن بعض الإسناد كذلك فمسلم ، لكن لا ينهض دليلا على التعذر ، إلا في جزء ينفرد بروايته من وصف بذلك .

أما الكتاب المشهور الغني بشهرته عن اعتبار الإسناد منا إلى مصنفه كالمسانيد والسنن ، مما لا يحتاج في صحة نسبتها إلى مؤلفها إلى اعتبار إسناد معين ، فإن المصنف منهم إذا روى حديثا ، ووجدت الشرائط فيه مجموعة ، ولم يطلع المحدث المتقن المطلع فيه على علة لم يمتنع الحكم بصحته ، ولو لم ينص عليها أحد من المتقدمين .

قال : ثم ما اقتضاه كلامه من قبول التصحيح من المتقدمين ورده من المتأخرين ، قد يسلتزم رد ما هو صحيح ، وقبول ما ليس بصحيح ، فكم من حديث حكم بصحته إمام متقدم اطلع المتأخر فيه على علة قادحة تمنع من الحكم بصحته ، ولا سيما إن كان ذلك المتقدم ممن لا يرى التفرقة بين الصحيح والحسن ، كابن خزيمة وابن حبان .

قال : والعجب منه كيف يدعي تعميم الخلل في جميع الأسانيد المتأخرة ، ثم يقبل تصحيح المتقدم ، وذلك التصحيح إنما يتصل للمتأخر بالإسناد الذي يدعي فيه [ ص: 161 ] الخلل ، فإن كان ذلك الخلل مانعا من الحكم بصحة الإسناد ، فهو مانع من الحكم بقبول ذلك التصحيح ، وإن كان لا يؤثر في الإسناد في مثل ذلك لشهرة الكتاب ، كما يرشد إليه كلامه ، فكذلك لا يؤثر في الإسناد المعين الذي يتصل به رواية ذلك الكتاب إلى مؤلفه ، وينحصر النظر في مثل أسانيد ذلك المصنف منه فصاعدا ، لكن قد يقوي ما ذهب إليه ابن الصلاح بوجه آخر ، وهو ضعف نظر المتأخرين بالنسبة إلى المتقدمين .

وقيل : إن الحامل لابن الصلاح على ذلك ، أن المستدرك للحاكم كتاب كبير جدا يصفو له منه تصحيح كثير ، وهو مع حرصه على جمع الصحيح غزير الحفظ كثير الاطلاع واسع الرواية ، فيبعد كل البعد أن يوجد حديث بشرائط الصحة لم يخرجه ، وهذا قد يقبل ، لكنه لا ينهض دليلا على التعذر .

قلت : والأحوط في مثل ذلك أن يعبر عنه بصحيح الإسناد ، ولا يطلق التصحيح لاحتمال علة للحديث خفيت عليه ، وقد رأيت من يعبر خشية من ذلك بقوله صحيح إن شاء الله تعالى .

وكثيرا ما يكون الحديث ضعيفا أو واهيا ، والإسناد صحيح مركب عليه ، فقد روى ابن عساكر في تاريخه من طريق علي بن فارس ثنا مكي بن بندار ثنا الحسن بن عبد الواحد القزويني ، ثنا هشام بن عمار ثنا مالك عن الزهري عن أنس [ ص: 162 ] مرفوعا : " خلق الله الورد الأحمر من عرق جبريل ليلة المعراج ، وخلق الورد الأبيض من عرقي ، وخلق الورد الأصفر من عرق البراق " . قال ابن عساكر : هذا حديث موضوع ، وضعه من لا علم له ، وركبه على هذا الإسناد الصحيح .

[ تنبيه ]

لم يتعرض المصنف ومن بعده كابن جماعة وغيره ممن اختصر ابن الصلاح ، والعراقي في الألفية والبلقيني ، وأصحاب النكت إلا للتصحيح فقط ، وسكتوا عن التحسين ، وقد ظهر لي أن يقال فيه : إن من جوز التصحيح فالتحسين أولى ، ومن منع فيحتمل أن يجوزه ، وقد حسن المزي حديث " طلب العلم فريضة " مع تصريح الحفاظ بتضعيفه ، وحسن جماعة كثيرون أحاديث صرح الحفاظ بتضعيفها ، ثم تأملت كلام ابن الصلاح فرأيته سوى بينه وبين التصحيح حيث قال : فآل الأمر إذا في معرفة الصحيح والحسن إلى الاعتماد على ما نص عليه أئمة الحديث في كتبهم إلى آخره .

وقد منع فيما سيأتي - ووافقه عليه المصنف وغيره - أن يجزم بتضعيف الحديث اعتمادا على ضعف إسناده ، لاحتمال أن يكون له إسناد صحيح غيره ، فالحاصل أن ابن الصلاح سد باب التصحيح والتحسين والتضعيف على أهل هذه الأزمان لضعف أهليتهم ، وإن لم يوافق على الأول ، ولا شك أن الحكم بالوضع أولى بالمنع قطعا إلا حيث لا يخفى ؛ كالأحاديث الطوال الركيكة التي وضعها القصاص ، أو ما فيه مخالفة للعقل أو الإجماع .

[ ص: 163 ] وأما الحكم للحديث بالتواتر أو الشهرة فلا يمتنع إذا وجدت الطرق المعتبرة في ذلك ، وينبغي التوقف عن الحكم بالفردية والغرابة ، وعن العزة أكثر .

التالي السابق


الخدمات العلمية