الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الأثار

الحازمي - أبو بكر محمد بن موسى الحازمي الهمذاني

صفحة جزء
[ ص: 439 ] ومن كتاب العدة

ذكر عدة المتوفى عنها زوجها في غير أهلها ، واختلاف الناس فيها

أخبرني أبو الفضل صالح بن محمد التاجر ، أخبرنا الحسن بن أحمد ، أخبرنا أحمد بن عبد الله ، أخبرنا عبد الله بن محمد ، أخبرنا محمد بن عبد الله ، أخبرنا سليمان بن أيوب المروزي ، حدثنا الواقدي ، حدثني أبو بكر بن عبد الله ، عن يعقوب بن زيد بن طلحة ، عن أبيه قال : أول امرأة اعتدت من زوجها وحدت عليه جميلة بنت عبد الله بن أبي ، لما قتل زوجها حنظلة بن عامر بأحد ، سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : اعتدي في بيتك أربعة أشهر وعشرا ، وأمرها باجتناب الطيب ، وأخذ بذلك النساء اللاتي قتل أزواجهن بأحد ، وشكا نساء بني عبد الأشهل الوحشة في دورهن ؛ لفقد من قتل من أزواجهن ، فأمرهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتحدثن في بيت امرأة حتى يردن النوم ، فترجع كل امرأة منهن إلى بيتها .

هذا السند فيه مقال من جهة محمد بن عمر الواقدي وشيخه أبي بكر بن عبد الله وهو السبري ، غير أن الحديث محفوظ من غير هذا الوجه .

وقد اختلف أهل العلم في عدة المتوفى عنها زوجها في مسكنها حتى تنقضي عدتها وخروجها منه :

فقالت طائفة : تعتد حيث شاءت ، ولا بأس بانتقالها من مسكنها [ ص: 440 ] إلى مسكن آخر كما في هذا الحديث ، وروي نحو هذا القول عن علي بن أبي طالب ، وابن عباس ، وجابر بن عبد الله ، وعائشة أم المؤمنين ، وبه قال عطاء ، وجابر بن زيد ، والحسن البصري .

قلت : الاستدلال بالحديث الذي ذكرناه في جواز الانتقال لا يستقيم ؛ إذ ليس في الحديث ما يدل على ذلك ، إنما في الحديث إذن النبي - صلى الله عليه وسلم - لهن في الخروج نهارا إلى حالة النوم ، والنزاع في الانتقال ، لا في التردد ، وقد اتفق أكثر أهل العلم على جواز خروجها للحاجة ، وعلى هذا المساق يمكن الجمع بين الحديثين فلا وجه للمصير فيه إلى النسخ ، وإنما يتحقق النسخ في حديث فريعة ، ويأتي ذكره .

وقالت طائفة : ليس لها أن تخرج من مسكنها ، ولا تفارقه حتى يبلغ الكتاب أجله . وروي نحو ذلك عن عثمان بن عفان ، وابن مسعود ، وابن عمر ، وأم سلمة ، وبه قال مالك بن أنس ، والليث بن سعد ، والشافعي ، وأحمد ، وأهل الكوفة ، والثوري ، وأبو حنيفة وأصحابه ، وجوز هؤلاء خروجها نهارا للحاجة ، وذهبوا إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أذن لهن في الانتقال ، ثم نهى عنه .

دليل ذلك : قرأت على أبي العباس أحمد بن أحمد بن محمد ، أخبرنا جماعة قالوا : أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن أحمد ، أخبرنا أحمد بن الحسين القاضي ، أخبرنا أحمد بن محمد ابن الحافظ ، أخبرنا أحمد بن شعيب ، أخبرنا محمد بن العلاء ، أخبرنا ابن إدريس ، عن شعبة وابن جريج ، عن سعيد بن إسحاق ، عن زينب بنت كعب ، عن الفارعة بنت مالك : أن زوجها خرج في طلب أعلاج وكانت في دار قاصية ، فجاءت ومعها أخواها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكروا له فرخص لها حتى إذا رجعت دعاها ، فقال : اجلسي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله .

[ ص: 441 ] وأخبرني سفيان بن أبي عبد الله الثوري ، أخبرنا إبراهيم بن الحسن ، أخبرنا منصور بن الحسين ، أخبرنا أبو بكر بن المقري ، أخبرنا أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر ، قال الله - عز وجل - ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ) الآية ، وثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لفريعة بنت مالك بن سنان وكانت متوفى عنها : امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله .

وأجمع أهل العلم على أن عدة الحرة المسلمة التي ليست بحامل من وفاة زوجها أربعة أشهر وعشرا مدخولا بها أو غير مدخول بها ، صغيرة لم تبلغ ، أو كبيرة قد بلغت .

واختلفوا بعد اجتماعهم على أن عدة المتوفى عنها زوجها ، على ما ذكرناه في مقام المتوفى عنها زوجها ، في مسكنها حتى تنقضي عدتها ، وخروجها منه .

فقالت طائفة : عليها أن تبيت في منزلها حتى تنقضي عدتها ، هذا قول الليث بن سعد ، ومالك بن أنس ، وسفيان الثوري ، والشافعي ، [ ص: 442 ] وأحمد ، والنعمان ، وقد روينا أخبارا عن عثمان بن عفان ، وابن مسعود ، وابن عمر ، وأم سلمة تدل على ما قاله هؤلاء .

وقالت طائفة : تعتد حيث شاءت ، هذا قول عطاء ، وجابر بن زيد ، والحسن البصري ، وقد روينا هذا القول عن علي بن أبي طالب ، وابن عباس ، وجابر وعائشة .

وكان ابن عباس يذهب إلى أن المنسوخ هو الحكم الثاني .

أخبرناه أبو منصور بن شيرويه الحافظ ، أخبرنا عبد الرحمن بن أحمد ، أخبرنا أحمد بن الحسين ، أخبرنا أحمد بن محمد ، أخبرنا أحمد بن شعيب ، أخبرني محمد بن إسماعيل بن إبراهيم ، حدثنا يزيد ، حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، قال : قال عطاء ، عن ابن عباس : نسخت هذه الآية عدتها في أهلها ، فتعتد حيث شاءت ، وهو قول الله - عز وجل - : ( غير إخراج ) .

أخبرني محمد بن إبراهيم بن علي الفارسي ، أخبرنا يحيى بن عبد الوهاب بن محمد ، أخبرنا محمد بن أحمد الكاتب ، أخبرنا محمد بن إبراهيم الخازن ، أخبرنا المفضل بن محمد الجندي ، أخبرنا أبو حمة ، حدثنا موسى بن طارق ، ذكر ابن جريج ، ومالك ، وسفيان ، عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة ، عن عمته زينب بنت كعب بن عجرة ، عن فريعة بنت مالك أخت أبي سعيد الخدري ، أنها أخبرتها أن زوجها قتل عند طرف جبل يقال له : القدوم ، فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - تستأذنه في الانتقال ، قال ابن جريج ومالك : وكانت في مسكن ليس لزوجها ، فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشكت إليه قلة النفقة ، قالوا : فأذن لها ، فلما أدبرت دعاها فقال : امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله . ففعلت .

قال ابن جريج ومالك : ثم سألها عثمان بن عفان عن شأنها هذا فأخبرته ، فقضى به عثمان ، وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - : حتى يبلغ الكتاب أجله بعد إذنه لها في الانتقال إلى أهلها دليل على جواز وقوع نسخ الشيء قبل أن يفعل ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية