الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الأثار

الحازمي - أبو بكر محمد بن موسى الحازمي الهمذاني

صفحة جزء
[ ص: 287 ] نسخ ذلك

أخبرني أبو مسلم محمد بن محمد بن الجنيد ، أخبرنا أبو نصر محمد بن أحمد بن محمد الصيرفي في كتابه ، أخبرنا محمد بن يونس بن شاذان ، أخبرنا محمد بن يعقوب ، أخبرنا الربيع ، أخبرنا الشافعي ، أخبرنا مالك بن أنس ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج في مرضه فأتى أبا بكر وهو قائم يصلي ، فاستأخر أبو بكر ، فأشار إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أن كما أنت ، فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جنب أبي بكر ، فكان أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس يصلون بصلاة أبي بكر .

ورواه الشافعي أيضا عن الثقة يحيى بن حسان ، عن حماد بن سلمة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة موصولا .

قرأت على أبي طالب الكتاني بواسط العراق ، أخبرك أحمد بن الحسن بن أحمد في كتابه ، أخبرنا الحسن بن محمد بن شاذان ، أخبرنا دعلج بن أحمد ، أخبرنا محمد بن علي ، حدثنا سعيد ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة قالت : لما ثقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء بلال يؤذنه بالصلاة ، فقال : مروا أبا بكر فليصل بالناس - وذكر الحديث - قالت : فلما دخل في الصلاة وجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نفسه خفة ، قالت : فقام يهادى بين رجلين ورجلاه تخطان في الأرض حتى دخل المسجد ، [ ص: 288 ] فلما سمع أبو بكر حسه ذهب ليتأخر ، فأومأ إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أن قم كما أنت ، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى جلس عن يسار أبي بكر ، قالت : فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بالناس جالسا ، وأبو بكر قائما ، يقتدي أبو بكر بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والناس يقتدون بصلاة أبي بكر .

هذا حديث صحيح ثابت متفق عليه ، أخرجه البخاري في الصحيح عن قتيبة ، عن أبي معاوية أيضا ، عن مسدد ، عن عبد الله بن داود الخريبي ، عن الأعمش ، وقال في حديثه : قام أبو بكر ، وقعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جنبه يصلي .

وأخرجه أيضا من حديث حفص بن غياث عن الأعمش ، وأخرجه مسلم عن يحيى بن يحيى ، عن أبي معاوية ، وعن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن وكيع ، وأبي معاوية ، وأخرجه أيضا من حديث عيسى بن يونس ، وعلي بن مسهر عن الأعمش بمعناه دون ذكر اليسار .

ومن ذهب إلى هذا الحديث قالوا : فهذا الفعل الذي رويناه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صحيح عنه ، ويكون ناسخا للحكم المتقدم ، وإليه أشار الشافعي ، قال : المستحب للإمام إذا لم يستطع القيام في الصلاة أن يستخلف ولا يؤم قاعدا ، ولما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما مرض استخلف في أكثر الصلوات ، وإنما صلى بنفسه دفعة واحدة .

[ ص: 289 ] قرأت على روح بن بدر بن ثابت الرازي ، أخبرك أبو الفتح أحمد بن محمد بن أحمد إذنا ، عن كتاب محمد بن موسى الصيرفي ، أخبرنا محمد بن يعقوب ، أخبرنا الربيع ، أخبرنا الشافعي قال : وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما قلت شيء منسوخ وناسخ ، فذكر حديث أنس وحديث عائشة ، وقد مضى ذكرهما ، ثم قال : وهذا ثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منسوخ بسنته ، وذلك أن أنس بن مالك يروي : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى جالسا من سقطة فرس ، وعائشة تروي ذلك ، وأبو هريرة يوافق روايتهما ، وأمر من خلفه في هذه العلة بالجلوس إذا صلى جالسا ، ثم يروى عن عائشة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في مرضه الذي مات فيه جالسا ، والناس خلفه قياما ، قال : وهي آخر صلاة صلاها بالناس ، بأبي وأمي - صلى الله عليه وسلم - حتى لقي الله تعالى ، وهذا لا يكون إلا ناسخا ، وفي الحديث دلالة على ذلك ، حيث أم عليه السلام وهو قاعد ، وفي بعض ألفاظ هذا الحديث : فأم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر وهو قاعد ، وأم أبو بكر الناس وهو قائم ، وليس المراد به أن أبا بكر كان إماما في تلك الصلاة على الحقيقة ؛ لأن الصلاة لا تصح بإمامين ، وإنما النبي - صلى الله عليه وسلم - كان الإمام ، وأبو بكر كان يبلغ الناس التكبير ، فسمي لذلك إماما .

وقال الشافعي أيضا في الرسالة : فلما كانت صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي مات فيه قاعدا والناس خلفه قياما ، استدللنا على أن أمره للناس بالجلوس في سقطته عن الفرس قبل مرضه الذي مات فيه ، [ ص: 290 ] وكانت صلاته في مرضه الذي مات فيه قاعدا والناس خلفه قياما ناسخة لأن يجلس الناس بجلوس الإمام .

وكان في ذلك دليل بما جاءت به السنة وأجمع عليه الناس ؛ من أن الصلاة قائما إذا أطاقها المصلي ، وقاعدا إذا لم يطق ، وأن ليس للمطيق القيام منفردا أن يصلي قاعدا .

فكانت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن صلى في مرضه قاعدا ، ومن خلفه قياما ، مع أنها ناسخة لسنته الأولى قبلها ، موافقة سنته في الصحيح والمريض ، وإجماع الناس : أن يصلي كل واحد منهما فرضه ، كما يصلي خلف الإمام الصحيح قاعدا والإمام المريض قائما .

وهكذا نقول : يصلي الإمام جالسا ، ومن خلفه من الأصحاء قياما ؛ فيصلي كل واحد فرضه ، ولو وكل غيره كان حسنا .

وقد أوهم بعض الناس فقال : لا يؤمن أحد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - جالسا ، واحتج بحديث رواه منقطع عن رجل مرغوب الرواية عنه ، لا يثبت بمثله حجة على أحد فيه : لا يؤمن أحد بعدي جالسا .

[ ص: 291 ] [ ص: 292 ] وأخبرني أبو المحاسن محمد بن علي الزاهد ، أخبرنا زاهر بن أبي عبد الرحمن ، أخبرنا أبو بكر البيهقي ، أخبرنا الحاكم أبو عبد الله ، أخبرنا الأصم ، أخبرنا الربيع ، أخبرنا الشافعي قال : وقد روى في هذا الصنف - يعني الصلاة خلف من يصلي جالسا - يغلط فيه بعض من ذهب إلى الحديث ، وذلك أن عبد الوهاب الثقفي ، أخبرنا عن يحيى بن سعيد ، عن أبي الزبير ، عن جابر : أنهم خرجوا يشيعونه وهو مريض فصلى جالسا ، وصلوا خلفه جلوسا .

قال : وأخبرنا الثقفي ، عن يحيى بن سعيد ، أن أسيد بن حضير فعل مثل ذلك .

قال الشافعي : وفي هذا ما يدل على أن الرجل يعلم الشيء عن رسول [ ص: 293 ] الله - صلى الله عليه وسلم - لا يعلم خلافه عنه ، فيقول بما علم ، ثم لا يكون في قوله بما علم وروى حجة على أحد ؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال قولا أو عمل عملا ينسخ العمل الذي قال به غيره وعمله ، وبسط الكلام في هذا ، وأراد أنهما إنما فعلا ذلك لأنه لم يبلغهما النسخ ، قال : وفي هذا دليل على أن علم الخاصة يوجد عند بعض ويغرب عن بعض ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية