نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية

الزيلعي - جمال الدين عبد الله بن يوسف الزيلعي

صفحة جزء
[ ص: 344 - 349 ] ( ولا يجوز للولي إجبار البكر البالغة على النكاح ) خلافا للشافعي رحمه الله ، له الاعتبار بالصغيرة وهذا ; لأنها جاهلة بأمر النكاح لعدم التجربة ولهذا يقبض الأب صداقها بغير أمرها . [ ص: 350 ] ولنا أنها حرة مخاطبة فلا يكون للغير عليها ولاية الإجبار والولاية على الصغيرة لقصور عقلها وقد كمل بالبلوغ بدليل توجه الخطاب فصار كالغلام ، والتصرف في المال وإنما يملك الأب قبض الصداق برضاها دلالة ، ولهذا لا يملك مع نهيها .


أحاديث إجبار البكر البالغ : قال أصحابنا : ليس للولي إجبار البكر البالغة على النكاح ، وخالفهم الشافعي ، وأحمد . لأصحابنا حديث : أخرجه أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، وأحمد في " مسنده " [ ص: 350 ] عن حسين ثنا جرير عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس : { أن جارية بكرا أتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة ، فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم }انتهى . وحسين بن محمد المروزي أحد الثقات المخرج لهم في " الصحيحين " ، ورواه البيهقي ، وقال : أخطأ فيه جرير بن حازم على أيوب السختياني ، والمحفوظ عن أيوب عن عكرمة عن النبي مرسلا ; وقد رواه أبو داود عن محمد بن عبيد عن حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة مرسلا ، وقد رواه ابن ماجه من حديث زيد بن حبان عن أيوب موصولا وزيد مختلف في توثيقه ، قال ابن أبي حاتم في " علله " سألت أبي عن حديث حسين ، فقال : هو خطأ ، إنما هو كما روى الثقات حماد بن زيد ، وابن علية عن أيوب عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل ، وهو الصحيح ، فقلت له : الوهم ممن ؟ فقال : ينبغي أن يكون من حسين ، فإنه لم يروه عن جرير بن حازم غيره انتهى .

وقال في " التنقيح " : قال الخطيب البغدادي : قد رواه سليمان بن حرب عن جرير بن حازم أيضا ، كما رواه حسين ، فبرئت عهدته ، وزالت تبعته ; ثم رواه بإسناده ، قال : رواه أيوب بن سويد هكذا عن الثوري عن أيوب موصولا ، وكذلك رواه معمر بن سليمان عن زيد بن حبان عن أيوب انتهى .

قال ابن القطان في كتابه : حديث ابن عباس هذا حديث صحيح ، قال : وليست هذه خنساء بنت خذام التي زوجها أبوها ، وهي ثيب ، فكرهته ، فرد عليه السلام نكاحه ; رواه البخاري ، فإن تلك ثيب ، وهذه بكر ، وهما ثنتان ، والدليل على أنهما ثنتان ما أخرجه الدارقطني عن ابن عباس { أن النبي صلى الله عليه وسلم رد نكاح بكر ، وثيب أنكحهما أبوهما وهما كارهتان }انتهى . قلت : أخرج النسائي في " سننه " حديث خنساء ، وفيه أنها كانت بكرا ، رواه عن [ ص: 351 ] عبد الله بن يزيد عن { خنساء ، قالت : أنكحني أبي وأنا كارهة ، وأنا بكر ، فشكوت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : لا تنكحها وهي كارهة ، }انتهى .

قال عبد الحق في " أحكامه " : وقع في كتاب النسائي أنها كانت بكرا ، والصحيح أنها كانت ثيبا ، كما رواه البخاري انتهى .

قال ابن القطان : وتزوجت خنساء بمن هويته ، وهو أبو لبابة بن عبد المنذر ، صرح به في " سنن ابن ماجه " ، فولدت له السائب بن أبي لبابة ، فأما الجارية البكر فهي غير الخنساء ، روى حديثها ابن عمر ، وابن عباس ، وجابر ، وعائشة ، عند أبي داود ، منها حديث ابن عباس انتهى .

{ حديث آخر } : أخرجه مسلم عن نافع بن جبير عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " { البكر تستأمر في نفسها ، وإذنها صماتها }" انتهى . قال ابن الجوزي في " التحقيق " : إنما قال ذلك ليطيب قلبها .

{ حديث آخر } : أخرجه الدارقطني عن شعيب بن أبي إسحاق عن الأوزاعي عن عطاء عن جابر { أن رجلا زوج ابنته ، وهي بكر من غير أمرها ، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم ففرق بينهما ، }انتهى .

قال الدارقطني : هذا وهم من شعيب ، والصحيح أنه مرسل ، وقال في " التنقيح " : وقال أبو علي الحافظ : لم يسمعه الأوزاعي من عطاء ، والحديث في الأصل مرسل لفظا ، إنما رواه الثقات عن الأوزاعي عن إبراهيم بن مرة عن عطاء عن النبي مرسل : وقد روي من أوجه أخرى ضعيفة عن أبي الزبير عن جابر .

{ حديث آخر } : أخرجه الدارقطني عن الوليد بن مسلم ، قال : قال ابن أبي ذئب : أخبرني نافع عن ابن عمر { أن رجلا زوج ابنته بكرا ، فكرهت ذلك ، فرد النبي صلى الله عليه وسلم نكاحها } ، وفي رواية أخرى ، قال : { كان النبي صلى الله عليه وسلم ينتزع النساء من أزواجهن ثيبا وأبكارا بعد أن يزوجهن الآباء إذا كرهن ذلك }انتهى قال ابن الجوزي : لم يسمعه ابن أبي ذئب من نافع ، إنما سمعه من عمر بن حسين ، وسئل أحمد عن هذا الحديث ، فقال : باطل انتهى .

وقال في " التنقيح " : سئل الدارقطني عن هذا الحديث ، فقال : يرويه [ ص: 352 ] صدقة بن عبد الله . والوليد بن مسلم عن ابن أبي ذئب عن عمر بن حسين عن نافع عن ابن عمر بلفظ آخر ، وبين فيه أن ابن أبي ذئب سمعه من نافع ، وأتى به بطوله على الصواب ، وكذلك رواه محمد بن إسحاق ، وعبد العزيز بن المطلب عن عمر . ومن قال فيه : عمر بن علي بن حسين فقد وهم ، وقد رواه يونس بن بكير عن ابن إسحاق عن نافع ، والصحيح عن ابن إسحاق عن عمر بن حسين عن نافع ، وفي هذه الأحاديث بيان أن التزويج كان من قدامة بن مظعون أخي عثمان بن مظعون لأبيه ، وهو عمها ، وهو أصح ممن قال : زوجها أبوها ; لأن ابن عمر كان إنما تزوجها بعد وفاة أبيها عثمان بن مظعون ، وهو خال ابن عمر انتهى كلامه .

{ حديث آخر } : أخرجه الدارقطني عن إسحاق بن إبراهيم ثنا عبد الملك الذماري عن سفيان عن هشام صاحب الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن ابن عباس { أن النبي صلى الله عليه وسلم رد نكاح بكر وثيب أنكحهما أبوهما ، وهما كارهتان ، فرد النبي صلى الله عليه وسلم نكاحهما }انتهى .

قال في " التنقيح " : إسحاق بن إبراهيم هذا ، هو ابن جوتي الطبري ، وهو ضعيف ، لكنه لم يتفرد به عن الذماري ، فقد رواه البيهقي من حديث أبي سلمة مسلم بن محمد بن عمار الصنعاني عن الذماري ; قال الدارقطني : وهم فيه الذماري عن الثوري ، والصواب عن يحيى عن المهاجر عن عكرمة مرسلا ، قال البيهقي : فهو في " جامع الثوري " ، كما ذكره الدارقطني مرسلا ، وكذلك رواه عامة أصحابه عنه ، وكذلك رواه غير الثوري عن هشام انتهى .

{ حديث آخر } : أخرجه النسائي ، وأحمد عن عبد الله بن بريدة عن عائشة ، قالت : { جاءت فتاة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي من خسيسته ، قال : فجعل الأمر إليها ، فقالت : إني قد أجزت ما صنع أبي ، ولكن أردت أن تعلم النساء أن ليس إلى الآباء من الأمر شيء } ، قال البيهقي : هذا مرسل ، ابن بريدة ، لم يسمع من عائشة ، وإن صح ، فإنما جعل الأمر إليها لوضعها في غير كفء انتهى . [ ص: 353 ] قلت : هكذا رواه النسائي : حدثنا زياد بن أيوب عن علي بن غراب عن كهمس بن الحسن عن عبد الله بن بريدة ; ورواه ابن ماجه في " سننه " حدثنا هناد بن السري ثنا وكيع عن كهمس بن الحسن عن ابن بريدة عن أبيه ، قال : جاءت فتاة ، الحديث ، سواء ، وينظر مسند أحمد ; قال ابن الجوزي : وجمهور الأحاديث في ذلك محمول على أنه زوج من غير كفء وقولها : زوجني ابن أخيه ، يكون ابن عمها .

أحاديث الخصوم : واحتج الشافعي ، وأحمد ، بما أخرجه مسلم في " صحيحه " عن نافع بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم : { الثيب أحق بنفسها من وليها ، والبكر يستأمرها أبوها في نفسها }; قال ابن الجوزي في " التحقيق " . ووجه الدليل أنه قسم النساء قسمين : ثيبا ، وأبكارا ; ثم خص الثيب بأنها أحق من وليها ، مع أنها هي والبكر اجتمعا في ذهنه ، فلو أنها كالثيب في ترجح حقها على حق الولي ، لم يكن لإفراد الثيب بهذا معنى ، وصار هذا كقوله : في سائمة الغنم الزكاة ، فإن قالوا : قد رواه مسلم أيضا بلفظ : { الأيم أحق بنفسها }; والأيم : هي التي لا زوج لها ، بكرا كانت ، أو ثيبا ; قلنا : المراد بالأيم أيضا الثيب ; لأنه لما ذكر البكر ، علم أنه أراد الثيب ، إذ ليس قسم ثالث .

قال في " التنقيح " : لا دلالة في هذا الحديث على أن البكر ليست أحق بنفسها ، إلا من جهة المفهوم ; والحنفية لا يقولون به ، ثم على تقدير القول به كما هو الصحيح لا حجة فيه على إجبار كل بكر ; لأن المفهوم لا عموم له ، فيمكن حمله على من هي دون البلوغ ; ثم إن هذا المفهوم قد خالفه منطوقه ، وهو قوله : والبكر تستأذن ، والاستئذان مناف للإجبار ، وإنما وقع التفريق في الحديث بين الثيب والبكر ; لأن الثيب تخطب إلى نفسها ، فتأمر الولي بتزويجها ، والبكر تخطب إلى وليها ، فيستأذنها ، ولهذا فرق بينهما ، في كون الثيب إذنها الكلام ، والبكر إذنها الصمات ; لأن البكر لما كانت تستحي أن تتكلم في أمر نكاحها ، لم تخطب إلى نفسها ، والثيب تخطب إلى نفسها ، لزوال حياء البكر عنها ، فتتكلم بالنكاح ، وتأمر وليها أن يزوجها ، فلم يقع التفريق في الحديث بين الثيب والبكر [ ص: 354 ] لأجل الإجبار ، وعدمه ، والله أعلم انتهى كلامه .

أحاديث الخصوم : قال أصحابنا : يملك الولي إجبار الثيب الصغيرة على النكاح ، وخالفهم الشافعي ، وأحمد ، لهما حديث ابن عباس المتقدم مرفوعا : { الثيب أحق بنفسها من وليها }; رواه مسلم .

وحديث أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا { لا تنكح الثيب حتى تستأمر } ، رواه مسلم .

وحديث خنساء بنت خذام أن أباها زوجها وهي كارهة ، وكانت ثيبا . فرد النبي صلى الله عليه وسلم نكاحه انتهى . انفرد به البخاري .

{ حديث آخر } : أخرجه أبو داود ، والنسائي عن عبد الرزاق ثنا معمر عن صالح بن كيسان عن نافع بن جبير عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " { ليس للولي مع الثيب أمر }" انتهى .

ورواه الدارقطني وقال : لم يسمعه صالح من نافع ، إنما سمعه من عبد الله بن الفضل عنه ، اتفق على ذلك ابن إسحاق ، وسعيد بن سلمة عن صالح ، وكأن معمرا أخطأ فيه ; قال النيسابوري : والذي عندي أن معمرا أخطأ فيه ، قال النسائي : لعل صالح بن كيسان سمعه من عبد الله بن الفضل ، ثم رواه من طريق إسحاق عن صالح بن كيسان عن عبد الله بن الفضل ، ورواه ابن حبان في " صحيحه " فقال : ذكر الخبر المدحض قول من زعم أن هذا الخبر تفرد به عبد الله بن الفضل عن نافع بن جبير بن مطعم ، ثم ذكره من رواية صالح عن نافع ، ولم يصنع شيئا ، قال صالح : إنما سمعته من [ ص: 355 ] عبد الله بن الفضل انتهى .

التالي السابق


الخدمات العلمية