نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية

الزيلعي - جمال الدين عبد الله بن يوسف الزيلعي

صفحة جزء
فصل في الكفارة قال : ( ومن حلف على معصية مثل أن لا يصلي أو لا يكلم أباه أو ليقتلن فلانا ينبغي أن يحنث نفسه ويكفر عن يمينه ) لقوله عليه الصلاة والسلام : { من حلف على يمين ورأى غيرها خيرا منها فليأت بالذي هو خير ، ثم ليكفر عن يمينه }ولأن فيما قلنا تفويت البر إلى جابر وهو الكفارة ولا جابر للمعصية في ضده .


فصل في الكفارة .

الحديث الخامس : قال عليه السلام : { من حلف على يمين ، ورأى غيرها خيرا منها ، فليأت بالذي هو خير ، ثم ليكفر عن يمينه }; قلت : أخرجه مسلم عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من حلف على يمين ، فرأى غيرها خيرا منها ، فليأت الذي [ ص: 59 ] هو خير ، وليكفر عن يمينه }انتهى .

وأخرج البخاري ، ومسلم عن { عبد الرحمن بن سمرة ، قال : قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : يا عبد الرحمن إذا حلفت على يمين ، فرأيت غيرها خيرا منها ، فأت الذي هو خير ، وكفر عن يمينك ، }انتهى .

والمصنف استدل بهذا الحديث على استحباب الحنث ، والتكفير لمن حلف على معصية ، ولم أجده بلفظ : ثم ليكفر ، إلا عند الإمام أبي محمد قاسم بن ثابت بن حزم السرقسطي في " كتاب غريب الحديث " ، فقال : أخبرنا أبو العلاء ثنا علي بن معبد ثنا الوليد بن القاسم بن الوليد الهمداني أبو القاسم الكوفي ثنا يزيد بن كيسان أبو إسماعيل عن أبي حازم عن أبي هريرة { أن رجلا أعتم عنده ، فسأل صبيته أمهم الطعام ، فقالت : حتى يجيء أبوكم ، فنام الصبية ، فجاء أبوهم ، فقال : اشتهيت الصبية ; فقالت لا ، كنت أنتظر مجيئك ، فحلف أن لا يطعم ، ثم قال : بعد ذلك : أيقظيهم ، وجيئ بالطعام ، فسمى الله ، وأكل ، ثم غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بالذي صنع ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : من حلف على يمين ، فرأى خيرا منها ، فليأته ، ثم ليكفر عن يمينه }انتهى .

قال السرقسطي : اشتهيت أي أطعمتهم شهوتهم .

[ ص: 60 ] فائدة :

المقصود الأعظم من هذا الحديث الدليل على جواز تقديم الكفارة على الحنث ، وعدم الجواز ، والأول مذهب الشافعي ، والثاني مذهبنا ، واستنباط ذلك من تتبع ألفاظه ، واختلاف رواياته ، فنقول : اعلم أن هذا الحديث روي من حديث أبي هريرة ، وعبد الرحمن بن سمرة ، وأبي موسى الأشعري ، وعدي بن حاتم ، وروي عن كل منهم في لفظ الحنث قبل الكفارة ، وفي لفظ : الكفارة قبل الحنث ، قاله أبو داود في " سننه " .

فحديث أبي هريرة :

أخرجه مسلم : { من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها ، فليأت الذي هو خير ، وليكفر عن يمينه }; وفي لفظ له : فليكفر عن يمينه ، وليأت الذي هو خير .

وحديث عبد الرحمن :

أخرجاه أيضا بتقديم الكفارة على الحنث ، وانفرد البخاري بتقديم الحنث على الكفارة .

وحديث أبي موسى :

أخرجه البخاري ، ومسلم عن أبي بردة عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم . قال : إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين ، فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني ، وأتيت الذي هو خير ; }وفي لفظ لهما : إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني ، ووهم المنذري في " مختصر السنن " فقال : لم يذكره مسلم إلا باللفظ الأول يعني تقديم الكفارة بل ذكره باللفظ الآخر ، ولفظه : إلا أتيت الذي هو خير ، وتحللتها ، [ ص: 61 ] وفي لفظ : فليأتها وليكفر ; وزاد في رواية ، قال : إني والله ما نسيتها .

وحديث عدي بن حاتم :

رواه مسلم أيضا باللفظين ، فرواية تقديم الكفارة فيها حجة للشافعي ، لأنه معطوف بالفاء ، والفاء للتعقيب ، وعنه ثلاثة أجوبة : أحدها : أن ذلك يقتضي وجوب تقديم الكفارة على الحنث ، وهم لا يقولون به ; الثاني : أنهم معارضون برواية تقديم الحنث ، ولذلك عقد لها النسائي " باب الكفارة بعد الحنث " .

وقد تقوى رواية تقديم الكفارة بفعل بعض الصحابة ، أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عمر ، وسلمان ، وأبي الدرداء كانوا يكفرون قبل الحنث ; وأخرج عن الحسن ، وابن سيرين نحوه الثالث : أنه عقب الجملتين ، والواو بينهما لا تقتضي ترتيبا ، كما قيل ذلك في " آية الوضوء " ، بقي الإشكال في رواية تقديم الكفارة مع العطف بثم ، وهذه الرواية وقعت في ثلاثة أحاديث : أحدها : من رواية عبد الرحمن بن سمرة ، والثاني : من رواية عائشة ، والثالث : من رواية أم سلمة .

فحديث عبد الرحمن بن سمرة :

رواه أبو داود ، والنسائي ، قال أبو داود : حدثنا يحيى بن خلف ; وقال النسائي : حدثنا محمد بن يحيى القطيعي ، كلاهما عن عبد الأعلى بن عبد الأعلى عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن عبد الرحمن بن سمرة { عن النبي صلى الله عليه وسلم : يا عبد الرحمن إذا حلفت على يمين ، فرأيت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك ، ثم آت الذي هو خير ، }انتهى وهذا سند صحيح .

وحديث عائشة :

أخرجه الحاكم في " المستدرك " عن محمد بن عبد الرحمن الطفاوي ثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ، قالت : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حلف على يمين لا يحنث ، حتى أنزل الله تعالى كفارة اليمين ، فقال : لا أحلف على يمين ، فأرى غيرها خيرا منها ، إلا كفرت عن يميني . ثم أتيت الذي هو خير ، }انتهى .

[ ص: 62 ] وقال : صحيح على شرط الشيخين ، وهذا في " البخاري " عن عائشة أن أبا بكر كان إذا حلف ، إلى آخره ، بتقديم الحنث ، وعطف الكفارة بالواو .

وحديث أم سلمة :

أخرجه الطبراني في " معجمه " عنها { أن عبدا لها استعتقها ، فقالت : لا أعتقها الله من النار إن أعتقته ، فمكثت ما شاء الله ، ثم قالت : سبحان الله سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من حلف على يمين ، فرأى خيرا منها ، فليكفر عن يمينه ، ثم ليفعل الذي هو خير ، فأعتقت العبد ، ثم كفرت عن يمينها }انتهى .

وهذا فيه نظر ، لأنها قدمت الحنث ، وينبغي أن يراجع من نسخة أخرى ، وهذه الأحاديث معارضة بحديث تقديم الحنث ، مع العطف بثم ، وقد تقدم ، أو يقال : إن هذه الأحاديث تقتضي وجوب تقديم الكفارة ، وهم لا يقولون به ، والله أعلم ; وعجبت من البخاري كيف ترجم في كتابه " باب الكفارة قبل الحنث " ، فذكر فيها حديث أبي موسى بلفظ : إني لا أحلف على يمين ، فأرى غيرها خيرا منها ، إلا أتيت الذي هو خير .

وتحللتها ، وحديث عبد الرحمن بن سمرة بلفظ : فأت الذي هو خير ، وكفر عن يمينك ، وكلاهما غير مطابق ، والرواية الأخرى عنده في الحديثين ، فلا يحتاج أن يشير إليها في " الترجمة " .

فائدة :

وقع في مسلم عن أبي موسى إني لا أحلف على يمين أرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير ، من غير ذكر الكفارة ، وكذا فيه عن عدي بن حاتم : من حلف على يمين ، ثم رأى غيرها خيرا منها ، فليأت الذي هو خير ، ويحمل ذلك على أحاديث الكفارة ، لكن وقع عند أبي داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا : { ومن حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها ، فليدعها ، وليأت الذي هو خير ، فإن تركها [ ص: 63 ] كفارتها ، }مختصر .

قال أبو داود : الأحاديث كلها عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها : وليكفر عن يمينه ، إلا ما لا يعبأ به انتهى .

ورواه البيهقي ، وقال : إنه لم يثبت ، قال : وعن أبي هريرة نحوه ، ولم يثبت أيضا ، انتهى .

التالي السابق


الخدمات العلمية