نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية

الزيلعي - جمال الدين عبد الله بن يوسف الزيلعي

صفحة جزء
قال : ( والإقرار ) ( أن يقر البالغ العاقل على نفسه بالزنا أربع مرات في أربعة [ ص: 99 ] مجالس عن مجالس المقر كلما أقر رده القاضي ) فاشتراط البلوغ والعقل ، لأن قول الصبي والمجنون غير معتبر ، أو هو غير موجب للحد ، واشتراط الأربع مذهبنا ، وعند الشافعي رحمه الله : يكتفى بالإقرار مرة واحدة اعتبارا بسائر الحقوق وهذا لأنه مظهر ، وتكرار الإقرار لا يفيد زيادة الظهور بخلاف زيادة العدد في الشهادة .

[ ص: 100 - 101 ] ولنا حديث ماعز رضي الله عنه فإنه عليه الصلاة والسلام أخر الإقامة إلى أن تم الإقرار منه أربع مرات في أربعة مجالس ، فلو ظهر بما دونها لما أخرها لثبوت الوجوب ، ولأن الشهادة اختصت فيه بزيادة العدد فكذا الإقرار إعظاما لأمر الزنا وتحقيقا لمعنى الستر ، ولا بد من اختلاف المجالس لما روينا ، ولأن لاتحاد [ ص: 102 ] المجلس أثرا في جمع المتفرقات ، فعنده يتحقق شبهة الاتحاد في الإقرار ، والإقرار قائم بالمقر فيعتبر اختلاف مجلسه دون مجلس القاضي .

[ ص: 103 - 106 ] والاختلاف بأن يرده القاضي كلما أقر فيذهب حيث لا يراه ثم يجيء فيقر هو المروي عن أبي حنيفة رحمه الله ، لأنه عليه الصلاة والسلام طرد ماعزا في كل مرة حتى توارى بحيطان المدينة .


الحديث الخامس :

في حديث ماعز أنه عليه السلام أخر إقامة الحد ، إلى أن تم الإقرار منه أربع مرات قلت : أخرجاه في " الصحيحين " عن أبي هريرة ، قال : { أتى رجل من المسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فناداه ، فقال : يا رسول الله ، إني زنيت ، فأعرض عنه فتنحى تلقاء وجهه ، فقال : يا رسول الله إني زنيت ، فأعرض عنه ، حتى ثنى ذلك أربع مرات ، فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أبك جنون ؟ قال : لا ، قال : فهل أحصنت ؟ قال : نعم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اذهبوا به فارجموه ، فرجمناه بالمصلى ، فلما أذلقته الحجارة هرب ، فأدركناه بالحرة ، فرجمناه }انتهى .

{ حديث آخر } :

أخرجه مسلم عن جابر بن سمرة ، قال : رأيت ماعز بن مالك حين جيء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل قصير أعضل ليس عليه رداء ، فشهد على نفسه أربع [ ص: 102 ] مرات أنه زنى ، فقال عليه السلام : فلعلك كذا ؟ قال : لا والله ، إنه قد زنى ، قال : فرجمه ، ثم خطب ، فقال : ألا كلما نفرنا في سبيل الله تخلف أحدهم ، له نبيب كنبيب التيس ، يمنح إحداهن الكثبة ، أما والله إن يمكني من أحدهم لأنكلنه انتهى .

{ حديث آخر } :

أخرجه مسلم أيضا عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، قال : { لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ماعز بن مالك ، فقال : أحق ما بلغني عنك ؟ قال : وما بلغك عني ؟ قال : بلغني أنك فجرت بأمة آل فلان ؟ قال : نعم ، فرده حتى شهد أربع مرات ، ثم أمر برجمه }انتهى .

{ حديث آخر } :

أخرجه مسلم أيضا عن بريدة قال : { كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء ماعز بن مالك ، فقال : يا رسول الله إني زنيت ، وأنا أريد أن تطهرني ، فقال عليه السلام : ارجع ، فلما كان من الغد أتاه أيضا فاعترف عنده بالزنا ، فقال له : ارجع ، ثم عاد الثالثة ، فاعترف عنده بالزنا ، ثم رجع الرابعة فاعترف ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فحفر له حفرة فجعل فيها إلى صدره ، ثم أمر الناس فرجموه }.

قال بريدة : كنا نتحدث أصحاب نبي الله أن ماعزا لو جلس في رحله بعد اعترافه ثلاث مرات لم يطلبه ، وإنما رجمه عند الرابعة انتهى .

وعند أبي داود ، والنسائي فيه : قال : كنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نتحدث أن الغامدية ، وماعز بن مالك لو رجعا بعد اعترافهما لم يطلبهما ، وإنما رجمهما بعد الرابعة انتهى .

{ حديث آخر } :

أخرجه البخاري ، ومسلم عن جابر بن عبد الله { أن رجلا من أسلم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واعترف بالزنا ، فأعرض عنه ، ثم اعترف ، فأعرض عنه ، حتى شهد على نفسه أربع شهادات ، فقال له عليه السلام : أبك جنون ؟ قال : لا ، قال : هل أحصنت ؟ قال : نعم ، فأمر به فرجم } ، زاد البخاري : فقال له النبي صلى الله عليه وسلم خيرا ، وصلى عليه انتهى . أخرجاه عن أبي سلمة عن جابر ، وسيأتي في " حديث الصلاة على الغامدية " .

[ ص: 103 ] حديث آخر } :

أخرجه أبو داود ، والنسائي ، وأحمد في " مسنده " عن هشام بن سعد ، أخبرني يزيد بن نعيم بن هزال عن أبيه ، قال : { كان ماعز بن مالك في حجر أبي ، فأصاب جارية من الحي ، فقال له أبي : ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما صنعت ، لعله يستغفر لك ، وإنما يريد بذلك رجاء أن يكون له مخرج ، فأتاه فقال : يا رسول الله إني زنيت فأقم علي كتاب الله ، فأعرض عنه ، إلى أن أتاه الرابعة ، فقال له : إنك قد قلتها أربع مرات ، فبمن ؟ قال : بفلانة ، قال : هل ضاجعتها ، قال : نعم ، قال : هل باشرتها ؟ قال : نعم ، قال : هل جامعتها ؟ قال نعم ، فأمر به فرجم ، فوجد مس الحجارة ، فخرج يشتد ، فلقيه عبد الله بن أنيس ، فنزع له بوظيف بعير ، فقتله ، وذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : هلا تركتموه لعله يتوب فيتوب الله عليه }انتهى .

وزاد فيه أحمد : قال هشام : فحدثني يزيد بن نعيم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له حين رآه : والله يا هزال لو كنت سترته بثوبك لكان خيرا لك مما صنعت به ، قال في " التنقيح " : إسناده صالح ، وهشام بن سعد روى له مسلم ، وقد تكلم فيه من قبل حفظه ، ويزيد بن نعيم روى له مسلم أيضا ، وذكره ابن حبان في " الثقات " ، وأبو نعيم ذكره في " الثقات " أيضا ، وهو مختلف في صحبته ، فإن لم تثبت صحبته ، فآخر هذا الحديث مرسل انتهى .

{ حديث آخر } :

رواه أحمد في " مسنده " حدثنا يزيد بن هارون ثنا الحجاج بن أرطاة عن عبد الملك بن مغيرة عن عبد الله بن المقدام عن ابن شداد عن { أبي ذر ، قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه رجل ، فقال : إنه زنى ، فأعرض عنه ، ثم ثنى ، ثم ثلث ، ثم ربع ، فأمرنا فحفرنا له ، فرجم }انتهى .

قال في " التنقيح " : وحجاج فيه كلام ، وعبد الملك هو الطائفي ، وثقه ابن حبان ، وروى له الترمذي حديثا ، وعبد الله بن المقدام بن المورد طائفي أيضا ، لم يذكره ابن أبي حاتم بجرح انتهى .

{ حديث آخر } :

رواه أحمد ، وإسحاق بن راهويه في " مسنديهما " ، وابن أبي شيبة في " مصنفه " حديث وكيع عن إسرائيل عن جابر عن عامر عن عبد الرحمن بن أبزى عن أبي بكر ، قال : { أتى ماعز بن مالك النبي صلى الله عليه وسلم فاعترف ، وأنا عنده مرة ، فرده ، ثم جاء [ ص: 104 ] فاعترف عنده الثانية ، فرده ، ثم جاء ، فاعترف عنده الثالثة ، فرده ، قال : فقلت له : إن اعترفت الرابعة رجمك ، قال : فاعترف الرابعة فحبسه ، ثم سأل عنه ، فقالوا : لا نعلم إلا خيرا ، فأمر به فرجم }انتهى .

أحاديث الخصوم :

فيه حديث العسيف ، أخرجه البخاري ، ومسلم عن أبي هريرة ، وزيد بن خالد الجهني أنهما قالا : إن { رجلا من الأعراب أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله ، فقال الخصم الآخر ، وهو أفقه منه : نعم اقض بيننا بكتاب الله ، وأذن لي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قل قال : إن ابني هذا كان عسيفا على هذا ، فزنى بامرأته ، وإني أخبرت أن على ابني الرجم ، فافتديت منه بمائة شاة ووليدة ، فسألت أهل العلم ، فأخبروني أن على ابني جلد مائة ، وتغريب عام ، وأن على امرأة هذا الرجم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله ، الوليدة والغنم رد عليك ، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام ، واغد يا أنيس على امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها ، قال : فغدا عليها ، فاعترفت ، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت }انتهى .

وفي لفظ لهما : وجلد ابنه مائة ، وغربه عاما ، قالوا : فعلق رجمها باعترافها ، ولم يشترط الأربع .

{ حديث آخر } :

وهو حديث الغامدية ، أخرجه مسلم عن بريدة في حديث ماعز ، قال : { أتت امرأة من غامد من الأزد ، فقالت : يا رسول الله طهرني ، قال : ويحك ارجعي ، فاستغفري الله ، وتوبي ، قالت : أتريد أن تردني ، كما رددت ماعزا ؟ قال : وما ذاك ، قالت : إني حبلى من الزنا ، فقال لها : حتى تضعي ما في بطنك ، قال : فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت ، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : قد وضعت الغامدية ، قال : إذا لا نرجمها ، وندع ولدها صغيرا ، ليس له من يرضعه ، فقام رجل من الأنصار ، فقال : إلي رضاعه يا نبي الله ، فرجمها }انتهى .

قالوا : وليس فيه إقرارها أربع مرات ، قالوا : وإنما رد النبي صلى الله عليه وسلم ماعزا أربع مرات ، لأنه عليه السلام ظن أن في عقله شيئا ، لا لكونه [ ص: 105 ] شرطا في وجوب الحد ، قالوا : وقد جاء في " صحيح مسلم " عن جابر بن سمرة ، قال : { أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل قصير أشعث ذي عضلات ، عليه إزار ، وقد زنى ، فرده مرتين ، ثم أمر به فرجم } ، وفيه أيضا عن أبي سعيد الخدري أنه اعترف بالزنا ثلاث مرات ، قالوا : وهذا يضعف القول باشتراط الأربع ، والجواب : أما حديث العسيف ، فمعناه : واغد يا أنيس على امرأة هذا ، فإن اعترفت ، الاعتراف المعهود بالتردد أربع مرات وأما حديث الغامدية : فالراوي قد يختصر الحديث ، ولا يلزم من عدم الذكر عدم الوقوع ، وأيضا فقد ورد في بعض طرقه أنه ردها أربع مرات ، أخرجه البزار في " مسنده " عن زكريا بن سليم ثنا شيخ من قريش عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه ، فذكره ، وفيه أنها أقرت بالزنا أربع مرات ، وهو يردها ، ثم قال لها : اذهبي حتى تلدي ، الحديث ، ويراجع ، وأما قولهم : إنه عليه السلام رد ماعزا أربع مرات ، لأنه ظن أن بعقله شيئا ، فليس بشيء ، لأنه عليه السلام سأل عن عقله بعد اعترافه الرابعة ، كما تقدم في حديث أبي هريرة وحديث جابر المخرجين في " الصحيحين " ، فلو كان تكرار الأربعة إنما هو لاختبار عقله ، لما كان في السؤال عنه بعد الرابعة فائدة وكيف وقد رده عليه السلام بعد أن أخبر بعقله ، كما أورده مسلم من حديث بريدة ، أن { ماعزا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فرده ، ثم أتاه الثانية من الغد ، فرده ، ثم أرسل إلى قومه ، هل تعلمون بعقله بأسا ؟ فقالوا : ما نعلمه إلا وفي العقل ، من صالحينا ، فأتاه الثالثة ، فأرسل إليهم أيضا ، فسأل عنه ، فأخبروه أنه لا بأس به ، ولا بعقله ، فلما كان الرابعة حفر له حفرة ورجمه } ، مختصر .

فظهر من هذا أن الأربعة معتبرة ، ويؤيد ذلك ما تقدم عند أبي داود في حديث هزال أنه عليه السلام ، قال لماعز : إنك قد قلتها أربع مرات ، وفي لفظ له عن ابن عباس : إنك شهدت على نفسك أربع مرات وفي لفظ لابن أبي شيبة : أليس أنك قد قلتها أربع مرات ؟ فرتب الرجم على الأربع ، وإلا فمن المعلوم أنه قالها أربع مرات ، ويدل عليه ما تقدم في " مسند أحمد " عن أبي بكر أنه قال له بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم بعد اعترافه ثلاث مرات : إن اعترفت الرابعة رجمك ، وهذا أصرح في الدلالة على اشتراط الأربع ، لولا أن في إسناده جابرا الجعفي وأما قولهم : إنه ورد في " الصحيح " أنه رده مرتين ، وثلاث مرات ، فالجواب أنه رده مرتين بعد مرتين ، واختصر الراوي منها مرتين ، يدل على ذلك ما أخرجه أبو داود ، [ ص: 106 ] والنسائي عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس ، قال : { أتي النبي صلى الله عليه وسلم بماعز بن مالك فاعترف مرتين ، فقال : اذهبوا به ، ثم قال ردوه ، فاعترف مرتين ، حتى اعترف أربعا ، فقال : اذهبوا به ، فارجموه }انتهى .

فتبين بهذا أن المرتين المذكورتين في " الصحيح " هما من الأربع ، وكذلك رواية الثلاث ، أي معها رابعة ، وتتفق بذلك الأحاديث ، والله أعلم .

الحديث السادس : روي أنه عليه السلام طرد ماعزا في كل مرة حتى توارى عليه بحيطان المدينة قلت : غريب بهذا اللفظ ، وبمعناه ما رواه ابن حبان في " صحيحه " من حديث أبي هريرة ، قال : { جاء ماعز بن مالك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن الأبعد زنى ، فقال له : ويلك ، وما يدريك ما الزنا ؟ فأمر به ، فطرد وأخرج ثم أتاه الثانية ، فقال مثل ذلك ، فأمر به فطرد ، وأخرج ، ثم أتاه الثالثة ، فقال له مثل ذلك ، فأمر به ، فطرد ، وأخرج ، ثم أتاه الرابعة ، فقال مثل ذلك ، قال : أدخلت وأخرجت ؟ قال : نعم ، فأمر [ ص: 107 ] به أن يرجم } ، مختصر .

التالي السابق


الخدمات العلمية