نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية

الزيلعي - جمال الدين عبد الله بن يوسف الزيلعي

صفحة جزء
باب الشهادة على الزنا والرجوع عنها

قال : ( وإذا شهد الشهود بحد متقادم لم يمنعهم عن إقامته بعدهم عن الإمام لم تقبل شهادتهم إلا في حد القذف خاصة وفي الجامع الصغير : وإذا شهد عليه الشهود بسرقة أو بشرب خمر أو بزنا بعد حين لم يؤخذ به وضمن السرقة ) والأصل فيه أن الحدود الخالصة حقا لله تعالى تبطل بالتقادم خلافا للشافعي رحمه الله .

هو يعتبرها بحقوق العباد وبالإقرار الذي هو إحدى الحجتين .

ولنا أن الشاهد مخير بين حسبتين : أداء الشهادة والستر ، فالتأخير إن كان لاختيار الستر فالإقدام على الأداء بعد ذلك لضغينة هيجته أو لعداوة حركته فيتهم فيها ، وإن كان التأخير لا للستر يصير فاسقا آثما فتيقنا بالمانع ، بخلاف الإقرار ; لأن الإنسان لا يعادي نفسه فحد الزنا وشرب الخمر والسرقة خالص حق [ ص: 149 ] الله تعالى حتى يصح الرجوع عنها بعد الإقرار فيكون التقادم فيه مانعا ، وحد القذف فيه حق العبد لما فيه من دفع العار عنه ، ولهذا لا يصح رجوعه بعد الإقرار ، والتقادم غير مانع في حقوق العباد ، ولأن الدعوى فيه شرط فيحمل تأخيرهم على انعدام الدعوى ، فلا يوجب تفسيقهم بخلاف حد السرقة ، لأن الدعوى ليست بشرط للحد لأنه خالص حق الله تعالى على ما مر ، وإنما شرطت للمال ولأن الحكم يدار على كون الحد حقا لله تعالى فلا يعتبر وجود التهمة في كل فرد ، ولأن السرقة تقام على الاستسرار على غرة من المالك ، فيجب على الشاهد إعلامه ، وبالكتمان يصير فاسقا آثما ، ثم التقادم كما يمنع قبول الشهادة في الابتداء يمنع الإقامة بعد القضاء عندنا خلافا لزفر رحمه الله ، حتى لو هرب بعدما ضرب بعض الحد ، ثم أخذ بعدما تقادم الزمان لا يقام عليه الحد ، لأن الإمضاء من القضاء في باب الحدود .

واختلفوا في حد التقادم وأشار في الجامع الصغير إلى ستة أشهر فإنه قال بعد حين ، وهكذا أشار الطحاوي ، وأبو حنيفة رحمه الله لم يقدر على ذلك وفوضه إلى رأي القاضي في كل عصر .

وعن محمد رحمه الله أنه قدره بشهر ، لأن ما دونه عاجل وهو رواية عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله ، وهو الأصح ، وهذا إذا لم يكن بين القاضي وبينهم مسيرة شهر ، أما إذا كان تقبل شهادتهم لأن المانع بعدهم عن الإمام فلا تتحقق التهمة ، والتقادم في حد الشرب كذلك عند محمد رحمه الله ، وعندهما يقدر بزوال الرائحة على ما [ ص: 150 ] يأتي في بابه إن شاء الله تعالى .


باب الشهادة على الزنا خال قوله : وإن نقص عدد الشهود عن أربعة حدوا ، لأنهم قذفة قلت : فيه أثر رواه الإمام القاسم بن ثابت السرقسطي في " كتاب غريب الحديث " حدثنا إبراهيم بن حميد ثنا أبو الحسن ثنا الفضل بن دكين ثنا الوليد ثنا أبو الطفيل ، قال : أقبل رهط معهم امرأة حتى نزلوا مكة ، فخرجوا لحوائجهم ، وتخلف رجل مع المرأة ، فلما رجعوا وجدوه بين [ ص: 149 ] رجليها ، وعلى مكة يومئذ نافع بن عبد الحارث الخزاعي ، فشهد ثلاثة منهم أنهم رأوه يهب فيها ، كما يهب المرود في المكحلة وقال الرابع : لم أر المرود في المكحلة ، ولكن رأيت استه يضرب استها ، ورجلاها عليه ، كأذني الحمار ، فكتب نافع إلى عمر ، فكتب إليه عمر : إن شهد الرابع بما شهد الثلاثة فارجمهما ، إن كانا أحصنا ، وإلا فاجلدهما ، وإن لم يشهد إلا بما قال ، فاجلد الشهود الثلاثة ، وخل سبيل المرأة انتهى .

وقال : الهب الاهتزاز .

[ ص: 150 ] أثر آخر :

أخرجه الحاكم في " المستدرك في فضائل المغيرة بن شعبة " عن أبي عتاب سهل بن حماد ثنا أبو كعب صاحب الحرير عن عبد العزيز بن أبي بكرة ، قال : كنا جلوسا عند باب الصغير الذي في المسجد أبو بكرة ، وأخوه نافع ، وشبل بن معبد فجاء المغيرة بن شعبة يمشي في ظلال المسجد والمسجد يومئذ من قصب ، والمغيرة يومئذ أمير البصرة ، أمره عليها عمر بن الخطاب فانتهى إلى أبي بكرة ، فسلم عليه ، فقال له أبو بكرة : أيها الأمير ليس لك ذلك ، اجلس في بيتك ، وابعث إلي من شئت ، فتحدث معه ، قال : يا أبا بكرة ولا بأس ، ثم دخل المغيرة من باب الأصغر ، حتى تقدم إلى باب أم جميل امرأة من قيس فدخل عليها ، فقال أبو بكرة : والله لا صبر لي على هذا ، ثم بعث غلاما [ ص: 151 ] له ، وقال له : ارق الغرفة ، وانظر من الكوة ، فذهب ، فنظر ، فلم يلبث أن رجع ، فقال : وجدتهما في لحاف فقال أبو بكرة للقوم : قوموا معي ، فقاموا ، فبدأ أبو بكرة ، فنظر ، ثم استرجع ، ثم قال لأخيه : انظر ، فنظر ، قال له : ما رأيت ؟ قال : الزنا محصنا ، ثم قال لشبل : انظر ، فنظر ، فقال مثل ذلك ، ثم قال : يا زياد ، انظر ، فنظر ، فقال مثل ذلك ، فقال : أشهد الله عليكم ؟ قالوا : نعم ، ثم كتب أبو بكرة إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بما رأى ، فبعث عمر أبا موسى الأشعري أميرا على البصرة أن يرسل إليه المغيرة ، ومعه أبو بكرة ، وشهوده ، فلما قدم أبو موسى أرسل بالمغيرة ، وأبي بكرة ، [ ص: 152 ] وشهوده وقال للمغيرة : ويل لك إن كان مصدوقا عليك ، وطوبى لك إن كان مكذوبا عليك ، فلما قدموا على عمر ، قال لأبي بكرة : هات ما عندك ، قال أشهد أني رأيت الزنا محصنا ، ثم تقدم أخوه نافع ، فقال : نحو ذلك ، ثم تقدم شبل بن معبد البجلي ، فقال : نحو ذلك ، ثم تقدم زياد ، فقال له : ما رأيت ؟ قال : رأيتهما في لحاف ، وسمعت نفسا عاليا ، ولا أدري ما وراء ذلك ، فكبر عمر ، وفرح إذ نجا المغيرة ، وضرب القوم الحد ، إلا زيادا انتهى .

وسكت عنه .

طريق آخر :

رواه عبد الرزاق في " تفسيره " أخبرنا محمد بن مسلم عن [ ص: 153 ] إبراهيم بن ميسرة عن ابن المسيب ، قال : شهد على المغيرة بن شعبة ثلاثة نفر بالزنا ، ونكل زياد ، فحد عمر الثلاثة ، ثم سألهم أن يتوبوا ، فتاب اثنان ، فقبلت شهادتهما ، وأبى أبو بكرة أن يتوب ، فكانت شهادته لا تقبل حتى مات ، وعاد مثل النصل من العبادة انتهى .

طريق آخر :

أخرجه الطبراني في " معجمه " عن عبد الرزاق ثنا الثوري عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي ، قال : شهد أبو بكرة ، ونافع ، وشبل بن معبد على المغيرة [ ص: 154 ] بن شعبة أنهم نظروا إليه كما ينظرون إلى المرود في المكحلة ، ونكل زياد ، فقال عمر : هذا رجل لا يشهد إلا بحق ، ثم جلدهم عمر الحد انتهى .

ورواه ابن سعد في " الطبقات في ترجمة المغيرة " أخبرنا الواقدي حدثني معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب ، فذكره بلفظ عبد الرزاق ، وزاد : قال : وكان ذلك سنة سبعة عشر ، ثم ولاه [ ص: 155 ] عمر بعد ذلك الكوفة ، يعني المغيرة انتهى .

التالي السابق


الخدمات العلمية