نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية

الزيلعي - جمال الدين عبد الله بن يوسف الزيلعي

صفحة جزء
قال : ( وعبدة الأوثان من العجم ) وفيه خلاف الشافعي رحمه الله . هو يقول : إن القتال واجب لقوله تعالى: { وقاتلوهم }إلا أنا عرفنا جواز تركه في حق أهل الكتاب بالكتاب ، وفي حق المجوس بالخبر فبقي من وراءهم على الأصل . ولنا : أنه يجوز استرقاقهم فيجوز ضرب الجزية عليهم إذ كل واحد منهما يشتمل على سلب النفس منهم ، فإنه يكتسب ويؤدي إلى المسلمين ونفقته في [ ص: 331 ] كسبه ( وإن ظهر عليهم قبل ذلك فهم ونساؤهم وصبيانهم فيء ) لجواز استرقاقهم ( ولا توضع على عبدة الأوثان من العرب ولا المرتدين ) لأن كفرهما قد تغلظ ، أما مشركو العرب فلأن النبي عليه الصلاة والسلام نشأ بين أظهرهم والقرآن نزل بلغتهم فالمعجزة في حقهم أظهر ، وأما المرتد فلأنه كفر بربه بعدما هدي للإسلام ووقف على محاسنه فلا يقبل من الفريقين إلا الإسلام أو السيف زيادة في العقوبة ، وعند الشافعي رحمه الله يسترق مشركو العرب ، وجوابه ما قلنا .

[ ص: 332 - 333 ] ( وإذا ظهر عليهم فنساؤهم وصبيانهم فيء ) لأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه استرق نسوان بني حنيفة وصبيانهم لما ارتدوا وقسمهم بين الغانمين ( ومن لم يسلم من رجالهم قتل ) لما ذكرنا . .


( وعبدة الأوثان من العجم الجزية ) قوله : روي أن أبا بكر رضي الله عنه استرق نسوان بني حنيفة وصبيانهم ، لما ارتدوا ، وقسمهم بين الغانمين ; قلت : روى الواقدي في " كتاب الردة " له : حدثني عبد العزيز بن أنس الطفري عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد ، فذكر وقعة اليمامة ، وهي قصة مسيلمة الكذاب ، وأصحابه بني حنيفة بطولها ، وفيها : أن أبا بكر رضي الله عنه أرسل إليهم خالد بن الوليد في جماعة من المسلمين ، فقتلهم ، وقتل مسيلمة ، وانهزم الباقون ، فتحصنوا في الحصون ، وقتل من المسلمين جماعة ، منهم أبو دجانة الأنصاري ، وجرح منهم خلق كثير ، وكانت مقتلة عظيمة ، إلى أن قال : وحدثني محمد بن صالح عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد ، قال : ثم إن خالد بن الوليد صالحهم على أن يأخذ منهم الصفراء ، والبيضاء ، والكراع ، والسلاح ، ونصف السبي ، ثم دخل حصونهم صلحا ، فأخرج السلاح ، والكراع ، والأموال ، والسبي ، فجمع السلاح على حدة ، والكراع على حدة ، والدراهم والدنانير على حدة ، ثم قسم السبي قسمين ، وأقرع على القسمين ، فخرج سهمه على أحدهما ، وفيه مكتوب : لله ، ثم جزأ الذي صار له من السبي على خمسة أجزاء ، وكتب على كل سهم منها : لله ، وجزأ الكراع هكذا ، ووزن الفضة والذهب ، فعزل الخمس من ذلك كله ، فقسم على الناس أربعة أخماس ، وأسهم للفرس سهمين ، ولصاحبه سهما ، وعزل الخمس حتى قدم به على أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، قال : وحدثني ابن أبي سبرة عن ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه ، قال : استعمل خالد بن الوليد على الخمس أبا نائلة ، ففرق منه أبو بكر في مواضع الخمس ما فرق ، قال : وحدثني أبو الزناد عن هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر الصديق ، قالت : قد رأيت [ ص: 334 ] أم محمد بن علي بن أبي طالب وكانت من سبي بني حنيفة فلذلك سمته الحنفية ، وسمي ابنها المذكور محمد بن الحنفية ، قال : وحدثني عبد الله بن نافع عن أبيه ، قال : كانت أم زيد بن عبد الله بن عمر من ذلك السبي انتهى .

أثر آخر للخصم : رواه الواقدي أيضا في الكتاب المذكور ، حدثنا معمر عن الزهري ، فذكر { قصة إسلام أهل حضرموت ، ويسمون أهل كندة وأنه وفد على النبي صلى الله عليه وسلم منهم ثمانية عشر رجلا أحدهم الأشعث بن قيس ، وأنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستعمل عليهم رجلا منهم ، فاستعمل عليهم زياد بن لبيد البياضي ، وكتب معه كتابا في فرائض الصدقات ، وصار معهم عاملا على حضرموت ، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وولي أبو بكر أرسل إلى زياد بكتاب يعلمه بذلك ، ويوصيه بالمسلمين ، ويسألهم أن يبايعوه ، فقرأ زياد عليهم الكتاب ، فنكصوا عن البيعة ، وارتدوا ، وممن نكص عن البيعة الأشعث ، إلا أنه لم يرتد ، فصاح زياد بن لبيد بأصحابه المسلمين ، فاجتمعوا إليه ، ووقع بينهم قتال شديد في ذلك اليوم ، قال : وحدثني جرير بن سليم الزرقي عن عثمان بن صفوان عن ابن أبي هند عن أبيه أبي هند ، قال : برز يومئذ منهم رجل فبرزت إليه ، وكان شجاعا ، قال : فتناولنا بالرمحين معظم النهار ، فلم يظفر أحدنا بصاحبه ، ثم صرنا إلى السيفين بقية النهار ، فلم يقدر أحدنا على الآخر ، ونحن فارسان ، فلما أمسوا تفرقوا ، وتوجه زياد إلى بيته ، بعد أن بعث عيونا في طلب غرتهم ، فجاءه واحد منهم ، فأخبره بغرة منهم ، فسار إليهم ليلا في مائة من أصحابه ، فإذا هم هدءوا وناموا ، فأغار عليهم ، فقتلهم ، وذبح ملوكهم وأشرافهم ، وبعث إلى أبي بكر يعلمه بذلك ، فكتب أبو بكر إلى المهاجر بن أبي أمية ، وكان عاملا على صنعاء ، استعمله النبي صلى الله عليه وسلم عليها ، أن يسير إلى زياد بمن حضره من المسلمين ، فلما قدم المهاجر على زياد اشتد [ ص: 335 ] أمرهما ، وحاصرا النجير أياما حصارا شديدا ، فلما جهدهم الحصار ، قال الأشعث بن قيس : والله إن الموت بالسيف لأهون من الموت بالجوع ، فدعوني أنزل إلى هؤلاء ، فآخذ لي ولكم الأمان منهم ، فقالوا له : افعل ، وأرسل الأشعث إلى زياد يسأله الأمان ، وأجابه ، فنزل إليه ، فأراد زياد قتله ، فقال له الأشعث : لا تقتلني ، وابعث لي إلى أبي بكر ، يرى في رأيه ، فإنه يكره قتل مثلي ، وأنا أفتح لك النجير ، فآمنه زياد على نفسه ، وأهله ، وماله ، وفتح له الأشعث النجير ، ودخل زياد إلى النجير ، فأخرج من مقاتلتهم خلقا كثيرا ، فعمد إلى أشرافهم ، وكانوا سبعمائة رجل ، فضرب أعناقهم في صعيد واحد ، وترك جثثهم للسباع ، لم يوار منها شيئا ، وسبى من مقاتليهم ثمانين رجلا ، وأخذ الذرية والنساء ، فعزلهم على حدة ، وبعث زياد بالجميع إلى أبي بكر ، وأرسل معهم الأشعث بن قيس في وثاق من حديد ، فلما دخل الأشعث على أبي بكر قال له أبو بكر : أنت الذي فعلت كذا وكذا ، وفعلت كذا وكذا ؟ يعدد له ذنوبه ، فقال له الأشعث : يا خليفة رسول الله ، دع عنك ما مضى ، واستقبل الأمور إذا أقبلت ، فوالله يا خليفة رسول الله ما كفرت بعد إسلامي ، ولكن شححت بمالي ، فقال له أبو بكر : ألست الذي تقول كذا وكذا ، وتقول كذا وكذا ؟ فقال الأشعث : نعم ، كل ذلك كان ، ولكن يا خليفة رسول الله قد تبت مما صنعت ، ورجعت إلى ما خرجت منه ، فأطلق أسري ، واستبقني لحربك ، وزوجني أختك ، فأطلقه أبو بكر ، وقبل توبته ، وزوجه أخته أم فروة ، بنت أبي قحافة ، قال : وقسم أبو بكر سبي النجير خمسة أخماس ، ففرق الخمس في الناس ، وترك أربعة أخماس ، قال : وقدم جماعة من أهل النجير يطلبون أن يفادوا سبيهم ، وقالوا : والله يا خليفة رسول الله ما رجعنا عن الإسلام ، ولكن شححنا بأموالنا ، وقد رجع من وراءنا إلى ما خرجوا منه ، وبايعوا لك راضين ، فقال : بعد ماذا ؟ بعد أن وطئتكم بالسيف ، قال الواقدي : وحدثني ربيعة بن عثمان عن مسلم بن جندب ، قال : لما كلم الوفد أبا بكر في أن يفادوا أسراهم ، أجابهم إلى ذلك ، وخطب الناس على المنبر : أيها الناس ردوا على هؤلاء القوم أسراهم ، لا يحل لأحد يؤمن بالله أن يغيب أحدا منهم ، وقد جعلنا الفداء على كل رأس منهم أربعمائة درهم ، قال : فجمع أبو بكر رضي الله عنهما تحصل من ذلك ، مع ما استخرجه زياد من حصن النجير من الأموال ، فجعله مغنما }انتهى .

أثر آخر يشهد لمذهبنا : روى الواقدي في " كتاب الردة " أيضا حدثنا عبد الله بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده ، فذكر { قصة إسلام أهل دبا ، وأزد عمان ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 336 ] بعث عليهم حذيفة بن اليمان مصدقا ، وكتب معه فرائض الصدقات ، قال : فلما توفي النبي صلى الله عليه وسلم منعوا الصدقة ، وارتدوا ، فدعاهم حذيفة إلى التوبة ، فأبوا ، وأسمعوه شتم النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم حذيفة : أسمعوني في أبي وأمي ، ولا تسمعوني في النبي صلى الله عليه وسلم فأبوا إلا ذلك ، فكتب حذيفة إلى أبي بكر يخبره بذلك ، فاغتاظ غيظا شديدا ، وأرسل إليهم عكرمة بن أبي جهل في نحو ألفين من المسلمين ، فقاتلوهم حتى هزمهم ودخلوا مدينة دبا فتحصنوا فيها ، وحاصرهم المسلمون نحو شهر ، فلما جهدهم الحصار ، طلبوا الصلح ، فشرط عليهم حذيفة أن يخرجوا من المدينة عزلا ، من غير سلاح ، ففعلوا ، ودخل المسلمون حصنهم ، فقتل عكرمة من أشرافهم مائة رجل ، وسبى ذراريهم ، وأقام عكرمة بدبا عاملا عليها لأبي بكر ، وقدم حذيفة على أبي بكر بالسبي ، وكانوا سبعمائة نفر ، منهم ثلاثمائة مقاتل ، وأربعمائة من الذرية والنساء ، فيهم أبو المهلب أبو صفرة غلام لم يبلغ الحلم ، فسجنهم أبو بكر في دار رملة بنت الحارث ، واستشار فيهم ، فكان رأي المهاجرين قتلهم ، أو تفديتهم بإغلاء الفداء ، وكان رأي عمر أن لا قتل عليهم ، ولا فداء ، فلم يزالوا محبوسين حتى توفي أبو بكر ، فلما ولي عمر نظر في ذلك ، فقال : لا سبي في الإسلام ، وأرسلهم بغير فداء ، وقال : هم أحرار حيث أدركتموهم ، مختصر ، وقد قال : إن عمر لم يتحقق ردتهم ، يدل على ذلك في القصة أن أبا بكر لما استشار فيهم ، قال له عمر : يا خليفة رسول الله إنهم قوم مؤمنون ، وإنما شحوا بأموالهم ، قال : والقوم يقولون : والله ما رجعنا عن الإسلام ، وإنما شححنا بالمال ، فأبى أبو بكر أن يدعهم بهذا القول ، ولم يزالوا } ، الحديث . .

التالي السابق


الخدمات العلمية