نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية

الزيلعي - جمال الدين عبد الله بن يوسف الزيلعي

صفحة جزء
قال : ( وإذا جعل الواقف غلة الوقف لنفسه أو جعل الولاية إليه جاز عند أبي يوسف ) قال رضي الله عنه : ذكر فصلين : شرط الغلة لنفسه وجعل الولاية إليه . أما الأول فهو جائز عند أبي يوسف ، ولا يجوز على قياس قول محمد رحمه الله ، وهو قول هلال الرازي وبه قال الشافعي رحمه الله ، وقيل : إن الاختلاف بينهما بناء على الاختلاف في اشتراط القبض والإفراز ، وقيل : هي مسألة مبتدأة والخلاف فيما إذا شرط البعض لنفسه في حياته وبعد موته للفقراء ، وفيما إذا شرط الكل لنفسه في حياته وبعد موته للفقراء سواء ; ولو وقف وشرط البعض أو الكل لأمهات أولاده ومدبر يه ما داموا أحياء ، فإذا ماتوا فهو للفقراء والمساكين فقد قيل يجوز بالاتفاق وقد قيل هو على الخلاف أيضا ، وهو الصحيح لأن اشتراطه لهم في حياته كاشتراطه لنفسه . وجه قول محمد رحمه الله أن الوقف تبرع على وجه التمليك بالطريق الذي قدمناه ، فاشتراطه البعض أو الكل لنفسه يبطله ، لأن التمليك من نفسه لا يتحقق فصار كالصدقة المنفذة وشرط بعض بقعة المسجد لنفسه . ولأبي يوسف رحمه الله ما روي { أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يأكل من صدقته } ، والمراد منها صدقته الموقوفة ، ولا يحل الأكل منها إلا بالشرط فدل على صحته ، ولأن الوقف إزالة الملك إلى الله تعالى على وجه القربة على ما بيناه ، فإذا شرط [ ص: 413 ] البعض أو الكل لنفسه فقد جعل ما صار مملوكا لله تعالى لنفسه ، لا أن يجعل ملك نفسه لنفسه . وهذا جائز كما إذا بني خانا أو سقاية أو جعل أرضه مقبرة وشرط أن ينزله أو يشرب منه أو يدفن فيه ، ولأن مقصوده القربة وفي الصرف إلى نفسه ذلك ; قال عليه الصلاة والسلام : { نفقة الرجل على نفسه صدقة }ولو شرط الواقف أن يستبدل به أرضا أخرى إذا شاء ذلك فهو جائز عند أبي يوسف ، وعند محمد رحمه الله الوقف جائز والشرط باطل ولو شرط الخيار لنفسه في الوقف ثلاثة أيام جاز الوقف ، والشرط عند أبي يوسف ، وعند محمد رحمه الله الوقف باطل ، وهذا بناء على ما ذكرنا . وأما فصل الولاية فقد نص فيه على قول أبي يوسف وهو قول هلال أيضا وهو ظاهر المذهب وذكر هلال في وقفه ، وقال أقوام : إن شرط الواقف الولاية لنفسه كانت له ولاية ، وإن لم يشترط لم تكن له ولاية . قال مشايخنا : الأشبه أن يكون هذا قول محمد رحمه الله لأن من أصله أن التسليم إلى القيم شرط لصحة الوقف فإذا سلم لم يبق له ولاية فيه . ولنا أن المتولي إنما يستفيد الولاية من جهته بشرطه ، فيستحيل أن لا يكون له الولاية ، وغيره يستفيد الولاية منه ولأنه أقرب الناس إلى هذا الوقف فيكون أولى بولايته كمن اتخذ مسجدا يكون أولى بعمارته ونصب المؤذن فيه ، وكمن أعتق عبدا كان الولاء له لأنه أقرب الناس [ ص: 414 ] إليه ، ولو أن الواقف شرط ولايته لنفسه وكان الواقف غير مأمون على الوقف فللقاضي أن ينزعها من يده نظرا للفقراء ، كما له أن يخرج الوصي نظرا للصغار وكذا إذا شرط أن ليس لسلطان ولا لقاض أن يخرجها من يده ويوليها غيره لأنه شرط مخالف لحكم الشرع فبطل .


[ ص: 410 - 412 ] الحديث الرابع : روي { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأكل من صدقته }.

قال المصنف : والمراد وقفه ; قلت : غريب أيضا ، وفي مصنف ابن أبي شيبة في " باب الأحاديث التي اعترض بها على أبي حنيفة " حدثنا ابن عيينة عن ابن طاوس عن أبيه أخبرني حجر المدري ، قال { في صدقة النبي صلى الله عليه وسلم : يأكل منها أهلها بالمعروف غير المنكر }انتهى . [ ص: 413 ]

الحديث الخامس قال عليه السلام : { نفقة الرجل على نفسه صدقة }; قلت : روي من حديث المقدام بن معدي كرب ; ومن حديث الخدري ; ومن حديث جابر ; ومن حديث أبي أمامة .

أما حديث المقدام : فأخرجه ابن ماجه في " التجارات " عن إسماعيل بن عياش عن بحير بن سعيد عن خالد بن معدان عن المقدام بن معدي كرب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { ما من كسب الرجل كسب أطيب من عمل يديه ، وما أنفق الرجل على نفسه ، وأهله ، وولده ، وخادمه فهو له صدقة }انتهى .

وأخرجه النسائي في " عشرة النساء " عن بقية عن [ ص: 414 ] بحير به ، بلفظ : { ما أطعمت نفسك فهو لك صدقة ، وما أطعمت زوجتك فهو لك صدقة ، وما أطعمت ولدك فهو لك صدقة ، وما أطعمت خادمك فهو لك صدقة }انتهى .

وأما حديث الخدري : فأخرجه ابن حبان في " صحيحه " في النوع الأول ، من القسم الأول عن دراج أبي السمح أن أبا الهيثم حدثه عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { أيما رجل كسب مالا من حلال ، فأطعم نفسه وكساها ، فمن دونه من خلق الله ، فإن له به زكاة }انتهى .

ورواه الحاكم في " المستدرك في كتاب الأطعمة " [ ص: 415 ] إلا أنه قال : فإنه له زكاة ، وقال : صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه انتهى .

وأما حديث جابر : فرواه الحاكم أيضا " في أواخر البيوع " ، وكذلك الدارقطني في " سننه في البيوع " عن محمد بن حماد بن ماهان ثنا عيسى بن إبراهيم البركي ثنا عبد الحميد بن الحسن الهلالي ثنا محمد بن المنكدر عن جابر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { كل معروف صدقة ، وما أنفق الرجل على نفسه وأهله فهو له صدقة ، وما وقى به عرضه فهو صدقة ، وما أنفق المؤمن من نفقة ، فإن خلفها على الله ضامن ، إلا ما كان في بنيان أو معصية } ، فقلت لمحمد بن المنكدر : ما يعني { وقى به عرضه }قال : أن يعطي الشاعر ، وذا اللسان المتقى انتهى .

قال الحاكم : حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه . [ ص: 416 ] وأما حديث أبي أمامة : فأخرجه الطبراني في " معجمه " عن بشر بن نمير عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من أنفق على نفسه نفقة فهي له صدقة ، ومن أنفق على امرأته وأهله وولده ، فهو له صدقة } ، انتهى .

وروى ابن عدي في " الكامل " ، وأعله ببشر بن نمير ، وضعفه عن جماعة ، ووافقهم على ضعفه ; وروى مسلم في " صحيحه في الزكاة " عن أبي الزبير عن جابر { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل : ابدأ بنفسك ، فتصدق عليها ، فإن فضل شيء فلأهلك ، فإن فضل عن أهلك شيء ، فلذي قرابتك ، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء ، فهكذا وهكذا }انتهى .

وأخرج أصحاب السنن عن المقبري عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . [ ص: 417 ] { تصدقوا ، فقال رجل : عندي دينار ، قال : تصدق به على نفسك ، قال : عندي دينار آخر ، قال : تصدق به على زوجتك ، قال : عندي دينار آخر ، قال : تصدق به على ولدك ، قال : عندي دينار آخر ، قال : تصدق به على خادمك ، قال : عندي دينار آخر ، قال : أنت أبصر }انتهى . ورواه ابن حبان في " صحيحه " ، والحاكم في " المستدرك " ، وصحح إسناده .

التالي السابق


الخدمات العلمية