نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية

الزيلعي - جمال الدين عبد الله بن يوسف الزيلعي

صفحة جزء
[ ص: 418 ] كتاب البيوع .

قال : ( البيع ينعقد بالإيجاب والقبول إذا كانا بلفظي الماضي ) مثل أن يقول أحدهما : بعت والآخر اشتريت ، لأن البيع إنشاء تصرف ، والإنشاء يعرف بالشرع ، والموضوع للإخبار قد استعمل فيه فينعقد به ، ولا ينعقد بلفظين : أحدهما : لفظ المستقبل ، والآخر : لفظ الماضي بخلاف النكاح وقد مر الفرق هناك ، وقوله رضيت بكذا أو أعطيتك بكذا أو خذه بكذا في معنى قوله : بعت واشتريت لأنه يؤدي معناه ، والمعنى هو المعتبر في هذه العقود ولهذا ينعقد بالتعاطي في النفيس والخسيس وهو الصحيح لتحقق المراضاة . قال : ( وإذا أوجب أحد المتعاقدين البيع فالآخر بالخيار إن شاء قبل في المجلس وإن شاء رد ) وهذا خيار القبول لأنه لو لم يثبت له الخيار يلزمه حكم البيع من غير رضاه ، وإذا لم يفد الحكم بدون قبول الآخر فللموجب أن يرجع عنه قبل قبوله لخلوه عن إبطال حق الغير ، وإنما يمتد إلى آخر المجلس لأن المجلس جامع المتفرقات فاعتبرت ساعاته ساعة واحدة دفعا للعسر وتحقيقا لليسر ، والكتاب كالخطاب وكذا الإرسال حتى اعتبر مجلس بلوغ الكتاب وأداء الرسالة ، وليس له أن يقبل في بعض المبيع ولا أن يقبل المشتري ببعض الثمن لعدم رضى الآخر بتفرق الصفقة إلا إذا بين ثمن كل واحد لأنه صفقات معنى . قال : ( وأيهما قام عن المجلس قبل القبول بطل الإيجاب ) لأن القيام دليل الإعراض والرجوع وله ذلك على ما ذكرناه ، وإذا حصل الإيجاب والقبول لزم [ ص: 419 ] البيع ولا خيار لواحد منهما إلا من عيب أو عدم رؤية . وقال الشافعي : يثبت لكل واحد منهما خيار المجلس لقوله عليه الصلاة والسلام : { المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا }ولنا أن في الفسخ إبطال حق الغير فلا يجوز ، والحديث محمول على خيار القبول وفيه إشارة إليه فإنهما متبايعان حالة المباشرة لا بعدها أو يحتمله فيحمل عليه والتفرق فيه تفرق الأقوال . قال : ( والأعواض المشار إليها لا يحتاج إلى معرفة مقدارها في جواز البيع ) لأن بالإشارة كفاية في التعريف وجهالة فيه لا تفضي إلى المنازعة ( والأثمان المطلقة لا تصح إلا أن تكون معروفة القدر والصفة ) لأن التسليم والتسلم واجب بالعقد وهذه الجهالة مفضية إلى المنازعة فيمتنع التسليم والتسلم ، وكل جهالة هذه صفتها تمنع الجواز ، هذا هو الأصل .


[ ص: 418 ] كتاب البيوع .

الحديث الأول : قال عليه السلام : { المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا }; قلت : روي من حديث ابن عمر ; ومن حديث حكيم بن حزام ; ومن حديث عبد الله بن عمرو ; ومن حديث سمرة بن جندب ; ومن حديث أبي برزة . [ ص: 419 ] أما حديث ابن عمر : فأخرجه الأئمة الستة في " كتبهم " عن نافع عن عبد الله بن عمر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { البيعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا ، إلا بيع الخيار }انتهى بلفظ " الصحيحين " ; وفي لفظ لهما : قال : { إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعا ، أو يخير أحدهما الآخر ، فإن خير أحدهما الآخر ، فتبايعا على ذلك ، فقد وجب البيع ، فإن تفرقا بعد أن يتبايعا ، ولم يترك واحد منهما البيع ، فقد وجب البيع } ، وفي لفظ لهما : { إذا تبايع المتبايعان بالبيع ، فكل واحد منهما بالخيار من بيعه ، ما لم يتفرقا ، أو يكون بيعهما على الخيار ، فإن كان بيعهما على خيار فقد وجب ، }وفي رواية لهما : فكان ابن عمر إذا بايع رجلا ، فأراد أن لا يقيله ، قام فمشى هنيهة ، ثم رجع إليه ، وفي لفظ لهما : قال : { كل بيعين لا بيع بينهما حتى يتفرقا ، إلا بيع الخيار }انتهى .

ولفظ أبي داود ، قال : { المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ، ما لم يتفرقا ، إلا بيع الخيار } ، انتهى . ولفظ الترمذي ، قال : { البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ، أو يختارا ، قال : فكان ابن عمر إذا ابتاع بيعا ، وهو قاعد قام ليجب له }انتهى . [ ص: 420 ] ولفظ النسائي ، قال : { المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا ، }انتهى .

وهو لفظ الكتاب ، ولفظ ابن ماجه ، قال : { إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا ، وكانا جميعا ، أو يخير أحدهما الآخر فإن خير أحدهما الآخر ، فتبايعا على ذلك ، فقد وجب البيع ، فإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك واحد منهما البيع ، فقد وجب البيع }انتهى .

وأما حديث حكيم بن حزام : فأخرجه الجماعة إلا ابن ماجه عن عبد الله بن الحارث عن حكيم بن حزام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما ، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما }.

قال مسلم : ولد حكيم بن حزام في جوف الكعبة ، وعاش مائة وعشرين سنة انتهى .

وأما حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : فأخرجه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، قالوا ثلاثتهم : حدثنا قتيبة بن سعيد عن الليث عن ابن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا ، إلا أن تكون صفقة خيار ، ولا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله }.

قال الترمذي : حديث حسن ; ورواه البيهقي في " سننه " بلفظ : { أيما رجل ابتاع من رجل بيعة ، فإن كل واحد منهما بالخيار حتى يتفرقا من مكانهما ، إلا أن تكون صفقة خيار }انتهى .

وأما حديث سمرة : فأخرجه ابن ماجه ، والنسائي عن قتادة عن الحسن عن سمرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ، }انتهى . [ ص: 421 ] وأما حديث أبي برزة : فأخرجه أبو داود عن حماد بن زيد عن جميل بن مرة { عن أبي الوضيء عباد بن نسيب ، قال : غزونا غزوة ، فنزلنا منزلا ، فباع صاحب لنا فرسا بغلام ، ثم أقاما بقية يومهما وليلتهما ، فلما أصبحا من الغد قام الرجل إلى فرسه يسرجه ، فندم ، فأتى الرجل وأخذه بالبيع ، فأبى الرجل أن يدفعه إليه ، فقال : بيني وبينك أبو بردة ، صاحب النبي صلى الله عليه وسلم فأتيا أبا بردة في ناحية العسكر ، فقالا له هذه القصة ، فقال : أترضيان أن أقضي بينكما بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : البيعان بالخيار ما لم يتفرقا }.

قال هشام بن حسان : حدث جميل أنه قال : { ما أراكما افترقتما }انتهى .

وأخرجه ابن ماجه مختصرا ، بدون القصة ، { البيعان بالخيار ما لم يتفرقا }انتهى قال المنذري في " مختصره " : ورجاله ثقات ، قال البيهقي في " المعرفة " : قال الشافعي : وقد حمل بعض الناس الحديث على التفرق في الكلام ، قال الشافعي : هذا محال لا يجوز في اللسان ; إنما يكونان قبل التساوم ، غير متساومين ، ثم يكونان متساومين قبل التبايع ، ثم يكونان بعد التساوم متبايعين ، ولا يقع عليهما اسم المتبايعين حتى يتبايعا ، ويتفرقا في الكلام على التبايع ، قال : ولو احتمل اللفظ ما قاله ، وما قلناه ، فالقول بقول راوي الحديث أولى ، لأن له فضل السماع ، والعلم باللسان ، وبما سمع ، هذا ابن عمر كان إذا اشترى شيئا يعجبه فارق صاحبه ، ثم مشى قليلا ، ورجع ، قال البيهقي : وزعم بعض من يسوي الأخبار على مذهبه أن ابن عمر قال : ما أدركته الصفقة حيا فهو من مال المبتاع ، فدل على أنه كان يرى تمام البيع بالقول ، قبل الفرقة ، قال : وهذا الذي ذكره ابن عمر لا ينافي مذهبه من ثبوت الخيار ، وقد قيل : إذا تفرقا ولم يختر واحد منهما انفسخ ، فقد علمنا انتقال الملك بالصفقة ، ثم كان هو يرى المبيع في يد البائع من ضمان المشتري ، وغيره يراه من ضمان البائع مع ثبوت الخيار فيه ، حتى يتفرقا ، أو يخيرا في قوله وقولنا ، ولو قبضه المبتاع في مدة الخيار حتى يكون من ضمانه في قولنا أيضا ، لم يمنع ثبوت الخيار كذلك إذا [ ص: 422 ] لم يقبضه عنده ، فإذا لم يمنع قولنا : إنه من ضمان البائع لزوم البيع لم يمنع قوله : إنه من ضمان المبتاع ثبوت الخيار ، قال : وزعم في حديث أبي برزة أنهما كانا قد تفرقا بأبدانهما ، لأن فيه أن الرجل قام يسرج فرسه ، وقول أبي برزة حين وجدهما متناكرين ، أحدهما يدعي البيع ، والآخر ينكره : ما أراكما تفرقتما ، أي الفرقة التي بها يتم البيع ، وهي الفرقة بالكلام ، فسوى الحديث هكذا على مذهبه ، ولم يعلم أنهما كانا باتا معا عند الفرس ، وحين قام البائع إلى فرسه ليسرجها لم يفترق بهما المجلس ، وفي رواية مسدد عن حماد بن زيد ، قال : { فأتى الرجل يعني المبتاع فأخذه بالمبيع } ، وفي رواية هشام عن جميل ، { أليس قد بعتنيها ؟ قال : ما لي في هذا البيع من حاجة ، قال : ليس لك ذلك ، لقد بعتني } ، فإنما تنازعا في لزوم البيع ، وليس في شيء من الروايات أن صاحبه أنكر البيع لا في الحال ، ولا حين أتيا أبا برزة ، فالزيادة في الحديث ليستقيم التأويل غير محمودة ، قال البيهقي : قال الشافعي عن بعضهم : روى أبو يوسف عن مطرف عن الشعبي أن عمر قال : البيع عن صفقة أو خيار ، قال الشافعي : وهذا لا يثبت عن عمر ، فإن في رواية الزعفراني أن عمر قال : المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولئن ثبت عنه فهو مجهول ومنقطع ، قال البيهقي : ومعنى ذلك أنه يروى عن مطرف ، فتارة عن الشعبي عن عمر ، وتارة عن عطاء بن أبي رباح عن عمر ; ورواه محمد بن عبد الرحمن عن نافع عن ابن عمر ، وقيل : عن شيخ من بني كنانة عن عمر ، وكل ذلك مجهول ومنقطع انتهى كلامه . .

التالي السابق


الخدمات العلمية