نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية

الزيلعي - جمال الدين عبد الله بن يوسف الزيلعي

صفحة جزء
باب السلم :

عقد مشروع بالكتاب ، وهو آية المداينة ، فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما : أشهد أن الله تعالى أحل السلف المضمون ، وأنزل فيها أطول آية في كتابه وتلا قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه }الآية . [ ص: 528 ] وبالسنة وهو ما روي " { أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم }" والقياس وإن كان يأباه ولكنا تركناه بما رويناه . ووجه القياس أنه بيع المعدوم إذ المبيع هو المسلم فيه . [ ص: 529 ] قال : ( وهو جائز في المكيلات والموزونات ) لقوله عليه الصلاة والسلام : " { من أسلم منكم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم }" والمراد بالموزونات غير الدراهم والدنانير لأنهما أثمان والمسلم فيه لا بد أن يكون مثمنا فلا يصح السلم فيهما ; ثم قيل يكون باطلا ، وقيل ينعقد بيعا بثمن مؤجل تحصيلا لمقصود المتعاقدين بحسب الإمكان والعبرة في العقود للمعاني ، والأول أصح لأن التصحيح إنما يجب في محل أوجبا العقد فيه ولا يمكن ذلك .

قال : ( وكذا في المذروعات ) لأنه يمكن ضبطها بذكر الذرع والصفة والصنعة ، ولا بد منها لترتفع الجهالة فيتحقق شرط صحة السلم ، وكذا في المعدودات التي لا تتفاوت كالجوز والبيض لأن العددي المتقارب معلوم القدر مضبوط الوصف مقدور التسليم فيجوز السلم فيه والصغير والكبير فيه سواء باصطلاح الناس على إهدار التفاوت ، بخلاف البطيخ والرمان ، لأنه يتفاوت آحاده تفاوتا فاحشا وبتفاوت الآحاد في المالية يعرف العددي المتقارب . وعن أبي حنيفة رحمه الله : أنه لا يجوز في بيض النعامة لأنه يتفاوت آحاده في المالية ، ثم كما يجوز السلم فيها عددا يجوز كيلا . وقال زفر رحمه الله : لا يجوز كيلا لأنه عددي وليس بمكيل . وعنه أنه لا يجوز عددا أيضا للتفاوت ، ولنا أن المقدار مرة يعرف بالعدد وتارة بالكيل وإنما صار معدودا بالاصطلاح فصير مكيلا باصطلاحهما ; وكذا في الفلوس عددا . وقيل هذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. [ ص: 530 ] وعند محمد رحمه الله لا يجوز لأنهما أثمان ، ولهما أن الثمنية في حقهما باصطلاحهما فتبطل باصطلاحهما ولا تعود وزنيا ، وقد ذكرناه من قبل .


[ ص: 526 - 527 ] باب السلم

قوله : روي عن ابن عباس أنه قال : أشهد أن الله تعالى أحل السلف المضمون إلى أجل ، وأنزل فيه أطول آية في كتابه ، وتلا قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه }; قلت : رواه الحاكم في " المستدرك في تفسير سورة البقرة " عن أيوب عن قتادة عن أبي حسان الأعرج عن ابن عباس ، قال : أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله في الكتاب ، وأذن فيه ، قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه }الآية انتهى . وقال : حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه ، انتهى .

وكذلك رواه الشافعي في " مسنده " ، ومن طريق الشافعي رواه البيهقي في " المعرفة " ، ورواه عبد الرزاق في " مصنفه " أخبرنا معمر عن قتادة به ، ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه " حدثنا وكيع عن هشام عن قتادة به ، ورواه الطبراني في " معجمه " من حديث همام عن قتادة به ، ورأيت بعض مصنفي زماننا عزا هذا الحديث للبخاري ، وهو غلط ، ولم يخرج البخاري في " صحيحه " لأبي حسان الأعرج شيئا ، واسمه مسلم . [ ص: 528 ]

الحديث الأول : روي { أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان ، ورخص في السلم }; قلت : غريب بهذا اللفظ ، وقوله : ورخص في السلم هو من تمام الحديث ، لا من كلام المصنف ، صرح بذلك في كلامه ، وسيأتي في " الحديث الخامس " ، ولكن رأيت في " شرح مسلم " للقرطبي ما يدل على أنه عثر على هذا الحديث بهذا اللفظ ، فقال : ومما يدل على اشتراط الأجل في السلم الحديث الذي قال فيه : { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عندك ، ورخص في السلم }.

قال : لأن السلم لما كان بيع معلوم في الذمة كان بيع غائب ، فإن لم يكن فيه أجل كان هو البيع المنهي عنه ، وإنما استثنى الشرع السلم من بيع ما ليس عندك ، لأنه بيع تدعو الضرورة إليه لكل واحد من المتبايعين ، فإن صاحب رأس المال محتاج إلى أن يشتري التمر ، وصاحب التمر يحتاج إلى ثمنه لينفقه عليه ، فظهر أن صفقة السلم من المصالح الحاجية ، وقد سماه الفقهاء : " بيع المحاويج " ، فإذا كان حالا بطلت هذه الحكمة ، وارتفعت هذه المصلحة ، ولم يكن لاستثنائه من بيع ما ليس عندك فائدة ، انتهى كلامه . والذي يظهر أن هذا حديث مركب ، فحديث النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان أخرجه أصحاب السنن الأربعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " { لا يحل سلف وبيع ، ولا شرطان في بيع ، ولا ربح ما لم يضمن ، ولا بيع ما ليس عندك }" انتهى .

قال الترمذي : حديث حسن صحيح ، وأخرجوه أيضا عن { حكيم بن حزام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : لا تبع ما ليس عندك }" ، وحسنه الترمذي ، وقد تقدما في " خيار العيب " ، وأما الرخصة في السلم ، فأخرج الأئمة الستة في " كتبهم " عن أبي المنهال عن ابن عباس ، قال : { قدم النبي صلى الله عليه وسلم والناس يستلفون في الثمر السنتين والثلاث ، فقال : من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ، ووزن معلوم ، إلى أجل معلوم }; وأخرج البخاري عن { عبد الله بن أبي أوفى ، قال : إن كنا لنسلف على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم } ، وأبي بكر ، وعمر في الحنطة ، والشعير ، والتمر ، والزبيب ، وسألت ابن أبي أبزى فقال مثل ذلك ، انتهى . [ ص: 529 ]

الحديث الثاني : قال عليه السلام : " { من أسلف منكم فليسلف في كيل معلوم ، ووزن معلوم ، إلى أجل معلوم }" ; قلت : أخرجه الأئمة الستة في " كتبهم " عن أبي المنهال ، قال : سمعت ابن عباس يقول : { قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، وهم يسلفون في الثمار السنة ، والسنتين ، والثلاث ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم ، ووزن معلوم ، إلى أجل معلوم }" انتهى . ورواه أحمد في " مسنده بلفظ : { فلا يسلف إلا في كيل معلوم } ، قال البيهقي : قال الشافعي : معناه إذا أسلف أحدكم في كيل ، فليسلف في كيل معلوم ، وإن أسلف في وزن ، فليسلف في وزن [ ص: 530 ]

معلوم ، وإذا سمى أجلا ، فليسم أجلا معلوما ، انتهى .

التالي السابق


الخدمات العلمية