نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية

الزيلعي - جمال الدين عبد الله بن يوسف الزيلعي

صفحة جزء
[ ص: 258 ] قال : ( وتنعقد الهبة بقوله وهبت ونحلت وأعطيت ) ; لأن الأول صريح فيه والثاني مستعمل فيه ، قال عليه الصلاة والسلام : { أكل أولادك نحلت مثل هذا }وكذلك الثالث ، يقال أعطاك الله ووهبك الله بمعنى واحد .

[ ص: 259 ] ( وكذا تنعقد بقوله أطعمتك هذا الطعام وجعلت هذا الثوب لك وأعمرتك هذا الشيء وحملتك على هذه الدابة إذا نوى بالحمل الهبة ) أما الأول ; فلأن الإطعام إذا أضيف إلى ما يطعم عينه يراد به تمليك العين ، بخلاف ما إذا قال أطعمتك هذه الأرض حيث تكون عارية ; لأن عينها لا تطعم فيكون المراد أكل غلتها ; وأما الثاني ; فلأن حرف اللام للتمليك ، وأما الثالث فلقوله عليه الصلاة والسلام : { فمن أعمر عمرى فهي للمعمر له ولورثته من بعده }وكذا إذا قال جعلت هذه الدار لك عمري لما قلنا وأما الرابع ; فلأن الحمل هو الإركاب حقيقة فيكون عارية لكنه يحتمل الهبة يقال حمل الأمير فلانا على فرس ويراد به التمليك فيحمل عليه عند نيته . ( ولو قال كسوتك هذا الثوب يكون هبة ) ; لأنه يراد به التمليك .

قال الله تعالى : { أو كسوتهم }ويقال كسا الأمير فلانا ثوبا : أي ملكه منه ( ولو قال [ ص: 260 ] منحتك هذه الجارية كانت عارية ) لما روينا من قبل ( ولو قال داري لك هبة سكنى أو سكنى هبة فهي عارية ) ; لأن العارية محكمة في تمليك المنفعة والهبة تحتملها وتحتمل تمليك العين فيحمل المحتمل على المحكم ( وكذا إذا قال عمري سكنى أو نحلي سكنى أو سكنى صدقة أو صدقة عارية أو عارية هبة ) لما قدمناه ( ولو قال هبة تسكنها فهي هبة ) ; لأن قوله تسكنها مشورة وليس بتفسير له وهو تنبيه على المقصود بخلاف قوله هبة سكنى ; لأنه تفسير له .


الحديث الثالث : حديث { أكل أولادك نحلت مثل هذا }؟ قلت : أخرجه الأئمة الستة عن { النعمان بن بشير ، قال : إن أباه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني نحلت ابني هذا غلاما كان لي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أكل ولدك نحلته مثل هذا ؟ قال : لا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فارجعه } ، زاد مسلم في لفظ : { أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء ؟ قال : بلى ، قال : فلا إذا }انتهى . أخرجه البخاري ، ومسلم في " الهبة " ، وأبو داود في " البيوع " ، والنسائي في " النحل " ، والترمذي ، وابن ماجه في " الأحكام " أخرجوه من غير وجه عن النعمان بن بشير بألفاظ مختلفة ، والمعنى واحد ، وفي لفظ للدارقطني : أن الذي نحله أبو النعمان للنعمان كان حائطا من نخل ، قال أبو عبيد القاسم بن سلام في " كتاب الأموال " : الحائط هو المخرف ذو النخل والشجر والزرع انتهى .

قال البيهقي في " المعرفة " : في الحديث دلالة على أمور : منها حسن الأدب في أن لا يفضل أحد بعض ولده على بعض [ ص: 259 ] في كل ، فيعرض في قلبه شيء يمنعه من بره ، لأن كثيرا من قلوب الناس جبلت على القصور في البر إذا أوثر عليه ; ومنها أن نحل الوالد بعض ولده دون بعض جائز ، وإلا لكان عطاؤه وتركه سواء ، قال الشافعي : وقد فضل أبو بكر عائشة بنحل ، وفضل عمر ابنه عاصما بشيء أعطاه ، وفضل عبد الرحمن بن عوف ولد أم كلثوم ; ومنها رجوع الوالد في هبته للولد انتهى .

ومذهب أحمد وجوب التساوي بين الولد ، وإن نحل بعضهم وجب الرجوع فيه ، أخذا بظاهر الحديث ، هكذا نقله ابن الجوزي في " التحقيق " ، واستدل للقائلين بعدم وجوبه بما رواه سعيد بن منصور حدثنا إسماعيل بن عياش عن سعيد بن يوسف عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { ساووا بين أولادكم في العطية ، فلو كنت مفضلا أحدا لفضلت النساء }انتهى .

ورواه ابن عدي ، وقال : لا أعلم يرويه عنه غير إسماعيل بن عياش ، وهو قليل الحديث ، ورواياته بإثبات الأسانيد لا بأس بها ، ولا أعرف له شيئا أنكر مما ذكرت من حديث عكرمة عن ابن عباس ، وذكره ابن حبان في " الثقات " ، قال في " التنقيح " : وسعيد بن يوسف تكلم فيه أحمد ، وابن معين ، والنسائي انتهى .

الحديث الرابع : قال عليه السلام : { من أعمر عمرى فهي للمعمر له ، ولورثته من بعده }; قلت : أخرجه الجماعة إلا البخاري عن جابر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ ص: 260 ] { من أعمر رجلا عمرى له ولعقبه ، فقد قطع }. قوله : حقه فيها لمن أعمر ولعقبه ، انتهى . وسيأتي قريبا

.

التالي السابق


الخدمات العلمية