نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية

الزيلعي - جمال الدين عبد الله بن يوسف الزيلعي

صفحة جزء
[ ص: 292 ] قال : ( ولا الاستئجار على الأذان والحج وكذا الإمامة وتعليم القرآن والفقه ) والأصل أن كل طاعة يختص بها المسلم لا يجوز الاستئجار عليه عندنا ، وعند الشافعي رحمه الله يصح في كل ما لا يتعين على الأجير ; لأنه استئجار على عمل معلوم غير متعين عليه فيجوز . ولنا قوله عليه الصلاة والسلام : { اقرءوا القرآن ولا تأكلوا به }. [ ص: 293 - 296 ]

وفي آخر ما عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى عثمان بن أبي العاص { وإن اتخذت مؤذنا فلا تأخذ على الأذان أجرا }; ولأن القربة متى حصلت وقعت عن العامل ، ولهذا تعتبر أهليته فلا يجوز له أخذ الأجر من غيره كما في [ ص: 297 ] الصوم والصلاة ; ولأن التعليم مما لا يقدر المعلم عليه إلا بمعنى من قبل المتعلم فيكون ملتزما ما لا يقدر على تسليمه فلا يصح ، وبعض مشايخنا استحسنوا الاستئجار على تعليم القرآن اليوم ; لأنه ظهر التواني في الأمور الدينية ، ففي الامتناع تضييع حفظ القرآن وعليه الفتوى . .


[ ص: 292 ] الحديث الرابع : قال عليه السلام : { اقرءوا القرآن ، ولا تأكلوا به }; قلت : روي من حديث عبد الرحمن بن شبل ; وأبي هريرة ; وعبد الرحمن بن عوف . فحديث عبد الرحمن بن شبل : رواه أحمد في " مسنده " حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن هشام الدستوائي حدثني يحيى بن أبي كثير عن أبي راشد الحبراني ، قال : قال عبد الرحمن بن شبل : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { اقرءوا القرآن ولا تأكلوا به ، ولا تجفوا عنه ، ولا تغلوا فيه ، ولا تستكثروا به }انتهى . وكذلك رواه إسحاق بن راهويه ، وابن أبي شيبة في " مصنفه في باب التراويح " حدثنا وكيع عن هشام الدستوائي به ، ورواه عبد الرزاق في " مصنفه " أخبرنا معمر عن يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلام عن جده أبي راشد الحبراني به ; ومن طريق عبد الرزاق رواه كذلك عبد بن حميد ، وإسحاق بن راهويه ، وأبو يعلى الموصلي في " مسانيدهم " ، وكذلك الطبراني في " معجمه " .

وأما حديث عبد الرحمن بن عوف : فأخرجه البزار في " مسنده " عن حماد بن يحيى عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه عبد الرحمن بن عوف مرفوعا ، نحوه سواء ، ثم قال : هذا خطأ ، أخطأ فيه حماد بن يحيى ، والصحيح عن يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سالم عن أبي راشد عن عبد الرحمن بن شبل عن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى . وأما حديث أبي هريرة :

فأخرجه ابن عدي في " الكامل " عن الضحاك بن نبراس البصري عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوه [ ص: 293 ] سواء ، وأسند عن ابن معين أنه قال في الضحاك بن نبراس هذا : ليس بشيء .

وعن النسائي قال : متروك الحديث . أحاديث الباب :

منها حديث القوس ، وقد روي من حديث عبادة بن الصامت ; ومن حديث أبي بن كعب .

فحديث عبادة ، له طريقان : أحدهما : أخرجه أبو داود في " البيوع " ، وابن ماجه في " التجارات " عن المغيرة بن زياد الموصلي عن عبادة بن نسي عن الأسود بن ثعلبة عن عبادة بن الصامت ، قال : { علمت ناسا من أهل الصفة القرآن ، فأهدى إلي رجل منهم قوسا ، فقلت : ليست بمال ، وأرمي بها في سبيل الله ، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فقال : إن أردت أن يطوقك الله طوقا من نار فاقبلها } ، انتهى . ورواه الحاكم في " المستدرك في البيوع " ، وقال : حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه انتهى .

قال صاحب " التنقيح " : والحاكم قد تناقض كلامه في المغيرة بن زياد ، فإنه صحح حديثه هنا . وقال في موضع آخر : المغيرة بن زياد صاحب مناكير ، لم يختلفوا في تركه . وهذا خطأ منه وتناقض ، والمغيرة يختلف فيه ، ووثقه ابن معين ، والعجلي ، وغيرهم ، وتكلم فيه أحمد ، والبخاري ، وأبو حاتم ، وغيرهم ، انتهى .

وقال ابن القطان في " كتابه " : الأسود بن ثعلبة مجهول الحال ، ولا نعرف روى عنه غير عبادة بن نسي ، والمغيرة بن زياد مختلف فيه انتهى .

وقال ابن حبان في " كتاب الضعفاء " : المغيرة بن زياد الموصلي يروي عن عطاء ، وعبادة بن نسي ، كنيته أبو هشام ، روى عنه الثوري ، ووكيع كان ينفرد عن الثقات ، بما لا يشبه حديث الأثبات لا يحتج بما خالف فيه الأثبات ، وإنما يحتج بما وافق فيه الثقات ، انتهى .

الطريق الثاني : أخرجه أبو داود عن ثقة عن بشر بن عبد الله بن يسار حدثني عبادة [ ص: 294 ] بن نسي عن جنادة بن أبي أمية عن عبادة بن الصامت قال : { كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قدم الرجل مهاجرا دفعه إلى رجل منا يعلمه القرآن ، فدفع إلي رجلا كان معي ، وكنت أقرأته القرآن ، فانصرفت يوما إلى أهلي ، فرأى أن عليه حقا ، فأهدى إلي قوسا ما رأيت أجود منها عودا ، ولا أحسن منها عطافا ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فاستفتيته ، فقال : جمرة بين كتفيك تقلدتها ، أو تعلقتها }انتهى .

وأخرجه الحاكم في " المستدرك في كتاب الفضائل " عن أبي المغيرة عبد القدوس بن الحجاج عن بشر بن عبد الله بن يسار به سندا ومتنا ، وقال : حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه .

وأما حديث أبي بن كعب : فأخرجه ابن ماجه في " التجارات " عن ثور بن يزيد حدثني عبد الرحمن بن سلم عن عطية الكلاعي عن { أبي بن كعب ، قال : علمت رجلا القرآن ، فأهدى إلي قوسا ، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن أخذتها أخذت قوسا من نار ، قال : فرددتها }انتهى .

قال البيهقي في " المعرفة في كتاب النكاح " : هذا حديث اختلف فيه على عبادة بن نسي ، فقيل : عنه عن جنادة بن أبي أمية عن عبادة بن الصامت ، وقيل : عنه عن الأسود بن ثعلبة عن عبادة ، وقيل : عن عطية بن قيس عن أبي بن كعب ، ثم إن ظاهره متروك عندنا ، وعندهم ، فإنه لو قبل الهدية ، وكانت غير مشروطة لم يستحق هذا الوعيد ، ويشبه أن يكون منسوخا بحديث ابن عباس ، وحديث الخدري ، وأبو سعيد الإصطخري من أصحابنا ، ذهب إلى جواز الأخذ فيه على ما لا يتعين فرضه على معلمه ، ومنعه فيما يتعين عليه تعليمه ، وحمل على ذلك اختلاف الآثار ; وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه كان يرزق المعلمين ، ثم أسند عن إبراهيم بن سعد عن أبيه أن عمر بن الخطاب كتب إلى بعض عماله : أن أعط الناس على تعليم القرآن انتهى كلامه .

وقال ابن القطان في " كتابه " : حديث أبي [ ص: 295 ] هذا روي من طرق ، وليس فيها شيء يلتفت إليه ، ذكرها بقي بن مخلد ، وغيره انتهى .

وقال في " التنقيح " : عبد الرحمن بن سلم ليس بالمشهور ، روى له ابن ماجه هذا الحديث الواحد ، وذكره شيخنا المزي في " الأطراف " ، وبينه وبين ثور خالد بن معدان ، وهو وهم منه انتهى كلامه .

{ حديث آخر } : رواه البيهقي في " شعب الإيمان " في آخر الباب التاسع عشر ، من حديث علي بن قادم الخزاعي عن سفيان الثوري عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من قرأ القرآن يتأكل به الناس جاء يوم القيامة ووجهه عظم ، ليس عليه لحم }انتهى .

وأسند عن حمزة الزيات أنه مر على باب قوم بالبصرة ، فاستسقى منهم ، فلما أخرج إليه الكوز رده ، فقيل له في ذلك ، فقال : أخشى أن يكون بعض صبيان هذه الدار قرأ علي فيكون ثوابي منه انتهى .

. { حديث آخر } : قال في " التنقيح " : قال عثمان بن سعيد الدارمي : ثنا عبد الرحمن بن يحيى بن إسماعيل بن عبد الله ثنا الوليد بن مسلم ثنا سعيد بن عبد العزيز عن إسماعيل بن عبيد الله عن أم الدرداء عن أبي الدرداء { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من أخذ قوسا على تعليم القرآن ، قلده الله قوسا من نار }انتهى .

وقال : ليس فيه إلا عبد الرحمن هذا ، قال ابن أبي حاتم : روي عنه أبي ، وسألته عنه ، فقال : صدوق ، ما بحديثه بأس ، وقال البيهقي : ضعيف ، وبقية السند صحيح ، روى مسلم في " صحيحه " عن الوليد بن مسلم بهذا السند في الصوم في السفر انتهى كلامه .

وذكر ابن الجوزي في الباب حديثا آخر من رواية ابن عباس مرفوعا : { لا تستأجروا المعلمين } ، وفي إسناده أحمد بن عبد الله الهروي ، قال : وهو دجال يضع الحديث ، وهذا من صنعه ، ووافقه صاحب " التنقيح " على ذلك ، والله أعلم .

أحاديث الخصوم في الرخصة : أخرج البخاري ، ومسلم عن أبي المتوكل عن أبي سعيد الخدري ، قال : { بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ، فأتينا على رجل لديغ في جبينه ، فداووه فلم ينفعه شيء ، فقال بعضهم : لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا بكم ، لعله يكون عندهم شيء ينفع ، فأتونا ، فقالوا : أيها الرهط إن سيدنا لديغ ، فابتغينا له كل شيء ، فلم ينفعه ، فهل عندكم من شيء ؟ فقال بعضهم : نعم ، والله إني لأرقي ، لكن والله لقد [ ص: 296 ] استضفناكم فلم تضيفونا ، لا نرقي حتى تجعلوا لنا جعلا ، فصالحوهم على قطيع من الغنم ، فانطلق ، فجعل يتفل عليه ، ويقرأ : { الحمد لله رب العالمين }يعني فاتحة الكتاب حتى برأ ، فكأنما نشط من عقال ، فقام يمشي ما به قلبة ، فوفوهم جعلهم ، فقال بعضهم : اقتسموا ، فقال الذي رقى : لا تفعلوا حتى نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنذكر له الذي كان ، فننظر ما يأمرنا به ، فغدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له ذلك ، فقال : أصبتم ، اقتسموا ، واضربوا لي معكم بسهم }انتهى .

{ حديث آخر } : أخرجه البخاري في " كتاب الطب " عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس { أن نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مروا بماء فيهم لديغ ، أو سليم ، فعرض لهم رجل من أهل الماء ، فقال : هل فيكم من راق ؟ فإن في الماء رجلا لديغا ، أو سليما ، فانطلق رجل منهم ، فقرأ بفاتحة الكتاب ، على شاء ، فجاء بالشاء إلى الصحابة ، فكرهوا ذلك ، وقالوا : أخذت على كتاب الله أجرا حتى قدموا المدينة ، فقالوا : يا رسول الله أخذ على كتاب الله أجرا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله }انتهى .

ووهم ابن الجوزي في " التحقيق " فعزاه " للصحيحين " ، وهو من مفردات البخاري ، نبه عليه صاحب " التنقيح " ، قال ابن الجوزي : وقد أجاب أصحابنا عن هذين الحديثين بثلاثة أجوبة : أحدها : أن القوم كانوا كفارا ، فجاز أخذ أموالهم ، والثاني أن حق الضيف واجب ، ولم يضيفوهم ; والثالث : أن الرقية ليست بقربة محضة ، فجاز أخذ الأجرة عليها ، انتهى .

قال القرطبي في " شرح مسلم " : ولا نسلم أن جواز الأجر في الرقى ، يدل على جواز التعليم بالأجر ، والحديث إنما هو في الرقية ، والله أعلم .

الحديث الخامس : { وفي آخر ما عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن أبي العاص : وإن اتخذت مؤذنا فلا تأخذ على الأذان أجرا }; قلت : أخرجه أصحاب السنن الأربعة ، بطرق [ ص: 297 ] مختلفة ، فأبو داود ، والنسائي عن حماد بن سلمة عن سعيد الجريري عن أبي العلاء عن مطرف بن عبد الله عن عثمان بن أبي العاص ، قال : { قلت : يا رسول الله اجعلني إمام قومي ، قال : أنت إمامهم ، واتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا }انتهى .

وكذلك رواه أحمد في " مسنده " ، والحاكم في " المستدرك " ، وقال : على شرط مسلم انتهى .

وأخرجه الترمذي ، وابن ماجه عن أشعث بن سوار عن الحسن عن عثمان بن أبي العاص ، قال : { إن من آخر ما عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتخذ مؤذنا لا يأخذ على الأذان أجرا }انتهى .

قال الترمذي : حديث حسن ; وأخرجه ابن ماجه أيضا من طريق محمد بن إسحاق عن سعيد بن أبي هند عن مطرف به ; ورواه ابن سعد في " الطبقات " [ ص: 298 ] مرسلا ، فقال : أخبرنا محمد بن عبيد الطنافسي حدثني عمرو بن عثمان عن موسى بن طلحة ، قال : { بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن أبي العاص على الطائف ، وقال له : صل بهم صلاة أضعفهم ، ولا يأخذ مؤذنك على الأذان أجرا }انتهى . ذكره في " ترجمة عثمان " .

{ حديث آخر } : رواه البخاري في " تاريخه " عن شبابة بن سوار حدثني المغيرة بن مسلم عن سعيد بن طهمان القطيعي عن { مغيرة بن شعبة ، قال : قلت يا رسول الله اجعلني إمام قومي ، قال : قد فعلت ، ثم قال : صل بصلاة أضعف القوم ، ولا تتخذ مؤذنا يأخذ على الأذان أجرا } ، انتهى . ذكره في " ترجمة سعيد بن طهمان " . أثر آخر :

أخرجه ابن عدي في " الكامل " عن حماد بن زيد عن يحيى البكاء ، قال : سمعت رجلا ، قال لابن عمر : إني أحبك في الله ، فقال له ابن عمر : وأنا أبغضك في الله ، قال : سبحان الله أنا أحبك في الله ، وأنت تبغضني في الله ؟ ، قال : نعم ، فإنك تأخذ على أذانك أجرا انتهى .

قال ابن عدي : ويحيى البكاء ليس بذاك المعروف ، ولا له كثير رواية انتهى .

التالي السابق


الخدمات العلمية