نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية

الزيلعي - جمال الدين عبد الله بن يوسف الزيلعي

صفحة جزء
فصل : فيما يتغير بفعل الغاصب

قال : ( وإذا تغيرت العين المغصوبة بفعل الغاصب ، حتى زال اسمها وعظم منافعها زال ملك المغصوب منه عنها وملكها الغاصب وضمنها ، ولا يحل له الانتفاع بها حتى يؤدي بدلها كمن غصب شاة وذبحها وشواها أو طبخها أو حنطة فطحنها ، أو حديدا فاتخذه سيفا ، أو صفرا فعمله آنية ) وهذا [ ص: 403 ] كله عندنا . وقال الشافعي رحمه الله : لا ينقطع حق المالك ، وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله ، غير أنه إذا اختار أخذ الدقيق لا يضمنه النقصان عنده ; لأنه يؤدي إلى الربا ، وعند الشافعي رحمه الله : يضمنه . وعن أبي يوسف رحمه الله : أنه يزول ملكه عنه لكنه يباع في دينه وهو أحق به من الغرماء بعد موته . للشافعي رحمه الله : أن العين باق فيبقى على ملكه وتتبعه الصنعة . كما إذا هبت الريح في الحنطة وألقتها في طاحونة الغير فطحنت ، ولا معتبر بفعله ; لأنه محظور ، فلا يصلح سببا للملك على ما عرف ، فصار كما إذا انعدم الفعل أصلا ، وصار كما إذا ذبح الشاة المغصوبة وسلخها وأربها ، ولنا أنه أحدث صنعة متقومة ، فصير حق المالك هالكا من وجه ، ألا ترى أنه تبدل الاسم ، وفات معظم المقاصد وحقه في الصنعة قائم من كل وجه ، فيترجح على الأصل الذي هو فائت من وجه ، ولا يجعله سببا للملك من حيث إنه محظور بل من حيث إنه إحداث الصنعة ، بخلاف الشاة ; لأن اسمها باق بعد الذبح والسلخ وهذا الوجه يشمل الفصول المذكورة ، ويتفرع عليه غيرها فاحفظه .

وقوله : ولا يحل له الانتفاع بها حتى يؤدي بدلها استحسان ، والقياس : أن يكون له ذلك وهو قول الحسن وزفر رحمهما الله ، وهكذا عن أبي حنيفة رحمه الله رواه الفقيه أبو الليث رحمه الله ، وجهه ثبوت الملك المطلق للتصرف ، ألا ترى أنه لو وهبه أو باعه جاز .

وجه الاستحسان قوله عليه الصلاة والسلام في الشاة المذبوحة المصلية بغير رضا صاحبها { أطعموها الأسارى }أفاد الأمر بالتصدق زوال ملك المالك ، [ ص: 404 ] وحرمة الانتفاع للغاصب قبل الإرضاء ; ولأن في إباحة الانتفاع فتح باب الغصب ، فيحرم قبل الإرضاء حسما لمادة الفساد ، ونفاذ بيعه وهبته مع الحرمة لقيام الملك كما في الملك الفاسد ، وإذا أدى البدل يباح له ; لأن حق المالك صار موفى بالبدل فحصلت مبادلة بالتراضي ، وكذا إذا أبرأه لسقوط حقه به ; وكذا إذا أدى بالقضاء أو ضمنه الحاكم ، أو ضمنه المالك لوجود الرضا منه ; لأنه لا يقضي إلا بطلبه ، وعلى هذا الخلاف إذا غصب حنطة فزرعها أو نواة فغرسها غير أنه عند أبي يوسف رحمه الله : يباح الانتفاع فيهما قبل أداء الضمان لوجود الاستهلاك من كل وجه ، بخلاف ما تقدم لقيام العين فيه من [ ص: 405 ] وجه وفي الحنطة يزرعها لا يتصدق بالفضل عنده خلافا لهما ، وأصله ما تقدم . .


[ ص: 401 - 403 ] الحديث الثالث : قال عليه السلام { في الشاة المذبوحة المصلية بغير رضاء صاحبها : أطعموها الأسارى }; قلت : روي من حديث رجل من الأنصار ; ومن حديث أبي موسى . فحديث الرجل :

رواه أبو داود في " سننه في أول البيوع " حدثنا محمد بن العلاء ثنا ابن إدريس أنبأ عاصم بن كليب عن أبيه عن رجل من الأنصار ، قال { : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة ، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على القبر يوصي الحافر : أوسع من قبل رجليه ، أوسع من قبل رأسه ، فلما رجع استقبله داعي امرأة ، فجاء وجيء [ ص: 404 ] بالطعام ، فوضع يده ، ثم وضع القوم ، فأكلوا ، فنظر آباؤنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يلوك لقمة في فيه ، ثم قال : إني أجد لحم شاة أخذت بغير إذن أهلها ، فأرسلت المرأة ، يا رسول الله ، إني أرسلت إلى البقيع ليشترى لي شاة ، فلم أجد ، فأرسلت إلى جار لي قد اشترى شاة أن أرسل إلي بثمنها ، فلم يوجد ، فأرسلت إلى امرأته ، فأرسلت بها إلي ، فقال عليه السلام : أطعميه الأسارى }انتهى .

ورواه أحمد في " مسنده " حدثنا معاوية بن عمرو ثنا أبو إسحاق عن زائدة عن عاصم بن كليب عن أبيه أن رجلا من الأنصار ، قال ، فذكره ، وهذا سند الصحيح ، إلا أن كليب بن شهاب ، والد عاصم لم يخرجا له في " الصحيح " ، وخرج له البخاري في " جزئه في رفع اليدين " وقال فيه ابن سعد : ثقة ، وذكره ابن حبان في الثقات ، ولا يضره قول أبي داود عاصم بن كليب عن أبيه عن جده ، ليس بشيء ، فإن هذا ليس من روايته عن أبيه عن جده ، والله أعلم ; ورواه محمد بن الحسن في " كتاب الآثار " أخبرنا أبو حنيفة عن عاصم بن كليب به ، قال محمد بن الحسن : ولو كان هذا اللحم باقيا على ملك مالكه الأول ، لما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أن يطعم للأسارى ، ولكن لما رآه خرج من ملك الأول ، وصار مضمونا على الذي أخذه ، أمر بإطعامه لأن من ضمن شيئا فصار له من وجه غصب ، فإن الأولى أن يتصدق به ، ولا يأكله ، وكذلك ربحه انتهى كلامه .

وأخرجه الدارقطني في " سننه في الضحايا " عن حميد بن الربيع ثنا ابن إدريس به ، وحميد بن الربيع هو الخزاز بخاء معجمة ، [ ص: 405 ] وزاي مكررة قال ابن الجوزي في " التحقيق " : كذاب ، وتعقبه صاحب " التنقيح " فقال : وثقه عثمان بن أبي شيبة ، وقد تابعه محمد بن العلاء ، كما رواه أبو داود انتهى .

وأخرجه أيضا عن عبد الواحد بن زياد عن عاصم بن كليب به ، ثم أخرج عن عبد الواحد بن زياد ، قال : قلت لأبي حنيفة : من أين أخذت قولك في الرجل يعمل في مال الرجل بغير إذنه : إنه يتصدق بالربح ؟ قال : أخذته من حديث عاصم بن كليب هذا انتهى . .

وأما حديث أبي موسى :

فرواه الطبراني في " معجمه " حدثنا أحمد بن القاسم الطائي ثنا بشر بن الوليد ثنا أبو يوسف القاضي عن أبي حنيفة عن عاصم بن كليب عن أبي بردة عن أبي موسى { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زار قوما من الأنصار في دارهم ، فذبحوا له شاة ، فصنعوا له منها طعاما ، فأخذ من اللحم شيئا ليأكله ، فمضغه ساعة لا يسيغه ، فقال : ما شأن هذا اللحم ؟ قال : شاة لفلان ذبحناها ، حتى يجيء نرضه من ثمنها ، فقال عليه السلام : أطعموها الأسارى }انتهى ورواه في " معجمه الأوسط " حدثنا أحمد بن القاسم الطائي ثنا بشر بن الوليد به ، والمصنف استدل بالحديث على أن الغاصب يملك العين المغصوبة إذا غيرها تغيرا يخرجها عن أصلها ، ووجه الحجة أن ملك صاحبها زال عنها بذلك ، ولولا ذلك لكان يأمر بردها عليه ، واحتج الخصم بحديث : { لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه } ، أخرجه الدارقطني في " سننه في البيوع " عن [ ص: 406 ] عمارة بن حارثة الضميري { عن عمرو بن يثربي ، قال : شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بمنى فسمعته يقول : لا يحل لامرئ من مال أخيه شيء إلا ما طابت به نفسه ، فقلت له : يا رسول الله أرأيت إن لقيت غنم ابن عم لي ، فأخذت منها شاة ، فاجتزرتها ، أعلي في ذلك شيء ؟ ، قال : إن لقيتها تحمل شفرة وأزنادا ، فلا تمسها }انتهى .

وإسناده جيد ، وأخرج نحوه عن أنس بإسنادين : في الأول مجاهيل ; وفي الثاني علي بن زيد بن جدعان ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية