نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية

الزيلعي - جمال الدين عبد الله بن يوسف الزيلعي

صفحة جزء
فصل

قال : ( وإذا اصطلح القاتل وأولياء القتيل على مال سقط القصاص ووجب المال قليلا كان أو كثيرا ) لقوله تعالى: { فمن عفي له من أخيه شيء }الآية على ما قيل نزلت الآية في الصلح وقوله عليه الصلاة والسلام : { من قتل له قتيل }الحديث ، والمراد والله أعلم الأخذ بالرضا على ما بيناه وهو الصلح بعينه ، ولأنه حق ثابت للورثة يجري فيه الإسقاط عفوا ، فكذا تعويضا لاشتماله على إحسان الأولياء وإحياء القاتل فيجوز بالتراضي والقليل والكثير فيه سواء ، لأنه ليس فيه نص مقدر فيفوض إلى اصطلاحهما كالخلع وغيره وإن لم يذكروا حالا ولا مؤجلا فهو حال ، لأنه مال واجب بالعقد ، والأصل في أمثاله الحلول نحو المهر والثمن بخلاف الدية لأنها ما وجبت بالعقد .


[ ص: 355 - 356 ] الحديث الثاني : قال عليه السلام : { من قتل له قتيل } ، الحديث . قلت : أخرجه [ ص: 357 ] الأئمة الستة في " كتبهم " عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة ، قال : { لما فتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة قام في الناس ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : إن الله حبس عن مكة الفيل ، وسلط عليها رسوله والمؤمنين ، وإنها لا تحل لأحد قبلي ، وإنها أحلت لي ساعة من نهار ، وإنها لا تحل لأحد بعدي ، فلا ينفر صيدها ، ولا يختلى شوكها ، ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد ، ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين : إما أن يعطى الدية ، وإما أن يقاد أهل القتيل }انتهى . هذا لفظ مسلم في " كتاب الحج في باب تحريم مكة " ، ولفظ البخاري في " كتاب العلم " : { إما أن يعقل ، وإما أن يقاد أهل القتيل } ، ولفظه في " اللقطة " { إما أن يفدى ، وإما أن يقيد } ، ولفظه في " الديات " : { إما أن يودى ، وإما أن يقاد } ، ولفظ الترمذي : إما أن يعفو ، وإما أن يقتل ، ولفظ النسائي في " القود " : { إما أن يقاد ، وإما أن يفدى } ، ولفظ ابن ماجه : { إما أن يقتل ، وإما أن يفدى } ، قال البيهقي في " المعرفة " : وهذا الاختلاف وقع من أصحاب يحيى بن أبي كثير ، والموافق منها بحديث أبي شريح أولى انتهى .

وحديث أبي شريح أخرجه أبو داود ، والترمذي عن أبي شريح الخزاعي ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { ألا إنكم يا معشر خزاعة قتلتم هذا القتيل من هذيل ، وإني عاقلته ، فمن قتل له بعد مقالتي هذه قتيل ، فأهله بين خيرتين : إما أن يأخذوا العقل أو يقتلوا }انتهى . قال أبو داود : حدثنا مسدد ، وقال الترمذي : حدثنا محمد بن بشار ، قالا : ثنا يحيى عن ابن أبي ذئب عن سعيد بن أبي سعيد ، سمعت أبا شريح ، فذكره ، [ ص: 358 ] وأخرجه ابن ماجه ، وأبو داود أيضا عن ابن إسحاق عن الحارث بن فضيل عن سفيان بن أبي العوجاء عن أبي شريح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من أصيب بدم ، أو خبل ، والخبل : الجرح ، فهو بالخيار بين إحدى ثلاث : أن يقتل ، أو يعفو ، أو يأخذ الدية } ، مختصر . قال السهيلي : في " الروض الأنف " : حديث : { من قتل له قتيل فهو بخير النظرين } ، اختلفت ألفاظ الرواة فيه على ثمانية ألفاظ : أحدها : إما أن يقتل ، وإما أن يفادي ; الثاني : إما أن يعقل أو يقاد ; الثالث : إما أن يفدى ، وإما أن يقتل : الرابع إما أن يعطى الدية ، وإما أن يقاد أهل القتيل ; الخامس : إما أن يعفو أو يقتل ; السادس : يقتل أو يفادى ; السابع : { من قتل متعمدا دفع إلى أولياء المقتول ، فإن شاءوا قتلوا ، وإن شاءوا أخذوا الدية }; الثامن : إن شاء فله دمه ، وإن شاء فعقله ، وهو حديث صحيح ، وظاهره أن ولي الدم ، وهو المخير إن شاء أخذ الدية ، وإن شاء قتل ، وقد أخذ الشافعي بظاهره ، وقال : لو اختار ولي المقتول الدية ، وأبى القاتل إلا القصاص ، أجبر القاتل على الدية . ولا خيار له ، وقالت طائفة : لا يجبر ، وتأولوا الحديث ، قال : ومنشأ الخلاف من الإجمال في قوله تعالى: { فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف }فاحتملت الآية عند قوم أن يكون ( من ) واقعة على القاتل ، و { عفي }من العفو عن الدم ، ولا خلاف أن المتبع بالمعروف هو ولي الدم ، وأن المأمور بالأداء بإحسان هو القاتل ، وإذا تدبرت الآية عرفت منشأ الخلاف ، ولاح لك من سياق الكلام أي القولين أولى بالصواب ، انتهى كلامه .

التالي السابق


الخدمات العلمية