نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية

الزيلعي - جمال الدين عبد الله بن يوسف الزيلعي

صفحة جزء
قال : ( وقتل الخطإ تجب به الدية على العاقلة والكفارة على القاتل ) لما بينا من قبل . [ ص: 376 ] قال : ( والدية في الخطإ مائة من الإبل أخماسا عشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون ابن مخاض وعشرون حقة وعشرون جذعة ) وهذا قول ابن مسعود رضي الله عنه ، وإنما أخذنا نحن والشافعي به لروايته ، { أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في قتيل قتل خطأ أخماسا }على نحو ما قال ، ولأن ما قلناه أخف فكان أليق بحالة الخطإ لأن الخاطئ معذور غير أن عند الشافعي رحمه الله يقضي بعشرين ابن لبون مكان ابن مخاض ، والحجة عليه ما رويناه .


الحديث الثالث :

روى ابن مسعود { أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في قتيل الخطإ بالدية أخماسا : عشرون بنت مخاض ، وعشرون بنت لبون ، وعشرون ابن مخاض ، وعشرون حقة ، وعشرون جذعة } ، قلت : أخرجه أصحاب " السنن الأربعة " عن حجاج بن أرطاة عن زيد بن جبير عن خشف بن مالك الطائي عن عبد الله بن مسعود ، قال : { قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : في دية الخطإ عشرون حقة ، وعشرون جذعة ، وعشرون بنت مخاض ، وعشرون بنت لبون ، وعشرون بني مخاض ذكر }انتهى . بلفظ أبي داود [ ص: 377 ] وابن ماجه ، ولفظ الترمذي ، والنسائي : قضى ، كلفظ المصنف ، قال الترمذي : لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه ، وقد روي عن عبد الله موقوفا انتهى .

قلت : هكذا رواه ابن أبي شيبة في " مصنفه " حدثنا وكيع ثنا سفيان عن أبي إسحاق عن علقمة بن قيس عن عبد الله أنه قال : في الخطإ أخماس ، فذكره . وبسند السنن رواه أحمد ، وابن أبي شيبة ، وإسحاق بن راهويه " ، والدارقطني ، ثم البيهقي في " سننيهما " ، وأطال الدارقطني الكلام عليه ، وملخصه أنه قال : هذا حديث ضعيف ، غير ثابت عند أهل المعرفة بالحديث ، من وجوه :

أحدها : أنه مخالف لما رواه أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه بالسند الصحيح عنه الذي لا مطعن فيه ، ولا تأويل عليه أنه قال : { دية الخطإ أخماس : عشرون حقة ، وعشرون جذعة ، وعشرون بنات مخاض ، وعشرون بنات لبون ، وعشرون بني لبون } ، لم يذكر فيه بني مخاض ، ثم أسنده عن حماد بن سلمة ثنا سليمان التيمي عن أبي مجلز عن أبي عبيدة أن ابن مسعود قال ، فذكره . وهذا إسناد حسن ، ورواته ثقات ; وقد روى نحوه عن علقمة عن عبد الله ، ثم أسنده كذلك ، قال : وأبو عبيدة أعلم بحديث أبيه ، وبمذهبه ، وبفتياه من خشف بن مالك ، ونظرائه ، وابن مسعود أتقى لربه ، وأشح على دينه من أن يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا ، ويفتي بخلافه ، ألا تراه كيف فرح الفرح الشديد حين وافقت فتياه قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق ، ومن كانت هذه حاله كيف يظن به خلاف ذلك ؟ ومما يشهد لرواية أبي عبيدة ما رواه وكيع ، وعبد الله بن وهب ، وغيرهما عن سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم عن عبد الله بن مسعود أنه قال : دية الخطإ أخماس ، فذكره نحو أبي عبيدة ، ثم أسنده كذلك ، قال : وهذه الرواية وإن كان فيها إرسال يعني بين إبراهيم ، وابن مسعود ولكن إبراهيم النخعي من أعلم الناس بعبد الله بن مسعود وبرأيه ، وبفتياه ، قد أخذ ذلك عن أخواله : علقمة ، والأسود ، وعبد الرحمن ابني يزيد ، وغيرهم من كبار أصحاب عبد الله ، وهو القائل : إذا قلت لكم : قال عبد الله بن مسعود ، فهو عن جماعة من [ ص: 378 ] أصحابه ، وإذا سمعته من رجل واحد سميته لكم .

الوجه الثاني : أن هذا الخبر المرفوع الذي فيه ذكر بني المخاض لا نعلمه رواه عنه إلا خشف بن مالك عن ابن مسعود ، وهو رجل مجهول ، لم يروه عنه إلا زيد بن جبير بن حرمل الجشمي ، وأهل العلم بالحديث لا يحتجون بخبر ينفرد بروايته رجل غير معروف ، وإنما يثبت العمل عندهم بالخبر إذا كان راويه عدلا مشهورا ، أو رجلا قد ارتفع عنه اسم الجهالة ، فصار حينئذ معروفا ، فأما من لم يرو عنه إلا رجل واحد ، وانفرد بخبر ، وجب التوقف عن خبره ذلك ، حتى يوافقه عليه غيره .

الوجه الثالث :

أن خبر خشف بن مالك لا نعلم أحدا رواه عن زيد بن جبير إلا حجاج بن أرطاة ، وهو رجل مشهور بالتدليس ، وبأنه يحدث عمن لم يلقه ، ولم يسمع منه ، قال يحيى بن زكريا بن أبي زائدة : كنت يوما عند الحجاج بن أرطاة ، فقال لي : لم أسمع من الزهري شيئا ، ولا من إبراهيم ، ولا من الشعبي ، ولا من فلان ، ولا من فلان حتى عد سبعة عشر ، أو بضعة عشر ، كلهم قد روى عنه الحجاج ، ثم زعم بعد روايته عنهم أنه لم يلقهم ، ولم يسمع منهم ، وأيضا فقد ترك الرواية عنه سفيان بن عيينة ، ويحيى بن سعيد القطان ، وعيسى بن يونس ، بعد أن جالسوه وخبروه ، وكفاك بهم علما بالرجال ونبلا .

الوجه الرابع :

أن جماعة من الثقات رووا هذا الحديث عن الحجاج بن أرطاة ، فاختلفوا عليه ، فرواه عبد الرحيم بن سليمان عن الحجاج على اللفظ المتقدم ، ووافقه عليه عبد الواحد بن زياد ، وخالفهما يحيى بن سعيد الأموي ، وهو ثقة ، فرواه عن الحجاج عن زيد بن جبير عن خشف بن مالك ، قال : سمعت عبد الله بن مسعود يقول : { قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخطإ أخماسا : عشرون جذاعا ، وعشرون بنات لبون ، وعشرون بني لبون ، وعشرون بنات مخاض ، وعشرون بني مخاض ذكورا } ، فجعل مكان الحقاق بني لبون ، ثم أسنده كذلك ، قال : ورواه إسماعيل بن عياش عن الحجاج بهذا الإسناد : بني لبون ، ثم أسنده كذلك ، قال : ورواه إسماعيل بن عياش عن الحجاج بهذا الإسناد ، فقال : { خمسا جذاعا ، خمسا حقاقا ، وخمسا بنات لبون ، وخمسا بنات مخاض ، وخمسا بني لبون ذكورا } ، فجعل مكان بني المخاض بني اللبون ، موافقا لرواية أبي عبيدة عن أبيه ، ثم أسنده كذلك ، قال : ورواه أبو معاوية الضرير ، [ ص: 379 ] وحفص بن غياث ، وعمرو بن هاشم أبو مالك الجنبي ، وأبو خالد الأحمر كلهم عن الحجاج بهذا الإسناد ، قال : { دية الخطإ أخماس } ، لم يزيدوا على ذلك ، ثم أخرج رواياتهم ، ثم قال : ويشبه أن يكون هذا الصحيح ، لاتفاقهم على ذلك ، وهم ثقات ، ويشبه أن يكون الحجاج ربما كان يفسر الأخماس برأيه بعد فراغه من الحديث ، فيتوهم السامع أنه من الحديث ، ويقويه أن يحيى بن سعيد حفظ عنه : عشرين بني لبون ، مكان الحقاق ، وعبد الواحد ، وعبد الرحيم حفظا عنه : عشرين حقة ، مكان بني لبون ، كما قدمناه .

الوجه الخامس :

أنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن جماعة من المهاجرين ، والأنصار في دية الخطإ أقاويل مختلفة ، لا نعلم روي عن أحد منهم في ذلك ذكر بني مخاض ، إلا في حديث خشف بن مالك هذا ، والله أعلم انتهى .

وحكى ابن الجوزي في " التحقيق " كلام الدارقطني هذا ، ثم قال : ويعارض قول الدارقطني هذا أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه ، فكيف جاز له أن يسكت عن ذكر هذا ، ثم إنما حكى عنه فتواه ، وخشف روي عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومتى كان الإنسان ثقة ، فينبغي أن يقبل قوله ، وكيف يقال عن الثقة مجهول ؟ واشتراط المحدثين أن يروي عنه اثنان لا وجه له انتهى .

وقال صاحب " التنقيح " : وكلام الدارقطني هذا لا يخلو من ميل ، وخشف وثقه النسائي ، وابن حبان ذكره في الثقات ، وقال الأزدي : ليس بذاك ، وقال البيهقي : مجهول ، وزيد بن جبير هو الجشمي ، وثقه ابن معين ، وغيره ، وأخرجا له في " الصحيحين " انتهى . والمصنف استدل بهذا الحديث على الشافعي في أنه يقضي بعشرين ابن لبون ، مكان ابن مخاض ، ومالك مع الشافعي ، وأحمد معنا ، واستدل ابن الجوزي في " التحقيق " لمالك ، والشافعي بما أخرجه الدارقطني عن حماد بن سلمة ثنا سليمان التيمي عن أبي مجلز عن أبي عبيدة أن ابن مسعود قال : دية الخطإ خمسة أخماس ، عشرون حقة ، وعشرون جذعة ، وعشرون بنات مخاض ، وعشرون بنات لبون ، وعشرون بني لبون ذكور انتهى .

قال الدارقطني : إسناده حسن ، ورواته [ ص: 380 ] ثقات ثم ضعف حديث خشف بما تقدم ، وقال ابن المنذر : إنما صار الشافعي إلى قول أهل المدينة ، لأنه أقل ما قيل فيها ، والسنة وردت بمائة من الإبل مطلقة . فوجدنا قول عبد الله أقل ما قيل ، لأن بني المخاض أقل من بني اللبون ، وكأنه لم يبلغه ، واحتج الشافعي بحديث سهل بن أبي حثمة في الذي { وداه النبي صلى الله عليه وسلم بمائة من إبل الصدقة } ، أخرجه الأئمة الستة ، وبنو المخاض لا مدخل لها في الصدقات ، وأجاب أصحابنا بأنه عليه السلام تبرع بذلك ، ولم يجعله حكما ، قال النووي في " شرح مسلم " : المختار ما قاله جمهور أصحابنا ، وغيرهم ، إن معناه أنه عليه السلام اشتراها من أهل الصدقات بعد أن ملكوها ، ثم دفعوها تبرعا إلى أهل القتيل انتهى .

والحديث له طرق أخرى ضعيفة :

أخرجه البيهقي في " المعرفة " عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن علقمة عن ابن مسعود أنه قال في الخطإ أخماس : عشرون حقة ، وعشرون جذعة ، وعشرون بنات لبون ، وعشرون بنات مخاض ، وعشرون بني مخاض ، قال : وكذلك رواه سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن علقمة عن عبد الله .

وعن منصور عن إبراهيم عن عبد الله ، وكذلك رواه أبو مجلز عن أبي عبيدة عن عبد الله ، قال البيهقي : وكلها منقطعة أبو إسحاق لم يسمع من علقمة شيئا ، وكذلك أبو عبيدة لم يسمع من أبيه ، وإبراهيم عن عبد الله منقطع بلا شك انتهى .

التالي السابق


الخدمات العلمية