نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية

الزيلعي - جمال الدين عبد الله بن يوسف الزيلعي

صفحة جزء
باب من يجوز دفع الصدقة إليه ، ومن لا يجوز قال رحمه الله ( الأصل فيه قوله تعالى{ إنما الصدقات للفقراء والمساكين } [ ص: 476 ] الآية فهذه ثمانية أصناف ، وقد سقط منها المؤلفة قلوبهم ; لأن الله تعالى أعز الإسلام وأغنى عنهم ) وعلى ذلك انعقد الإجماع . ( والفقير : من له أدنى شيء والمسكين : من لا شيء له ) وهذا مروي عن أبي حنيفة رحمه الله ; وقد قيل على العكس ، ولكل وجه ، ثم هما صنفان أو صنف واحد ، سنذكره في كتاب الوصايا إن شاء الله تعالى . ( والعامل يدفع الإمام إليه إن عمل بقدر عمله ، فيعطيه ما يسعه وأعوانه غير مقدر بالثمن ) خلافا للشافعي رحمه الله ; لأن استحقاقه بطريق الكفاية ، ولهذا يأخذ ، وإن كان غنيا ، إلا أن فيه شبهة الصدقة فلا يأخذها العامل الهاشمي [ ص: 477 ] تنزيها لقرابة الرسول عليه الصلاة والسلام عن شبهة الوسخ ، والغني لا يوازيه في استحقاق الكرامة ، فلم تعتبر الشبهة في حقه . قال ( وفي الرقاب يعان المكاتبون منها في فك رقابهم ) وهو المنقول . ( والغارم : من لزمه دين ولا يملك نصابا فاضلا عن دينه ) وقال الشافعي : من تحمل غرامة في إصلاح ذات البين وإطفاء النائرة بين القبيلتين .

( وفي سبيل الله : منقطع الغزاة عند أبي يوسف رحمه الله ) لأنه هو [ ص: 478 ] المتفاهم عند الإطلاق ( وعند محمد رحمه الله منقطع الحاج ) لما روي { أن رجلا جعل بعيرا في سبيل الله ، فأمره رسول الله عليه الصلاة والسلام أن يحمل عليه الحاج ، ولا يصرف إلى أغنياء الغزاة عندنا }; لأن المصرف هو الفقراء . [ ص: 479 ] ( وابن السبيل : من كان له مال في وطنه ) وهو في مكان آخر لا شيء له فيه . [ ص: 480 ] قال ( فهذه جهات الزكاة ، فللمالك أن يدفع إلى كل واحد منهم ، وله أن يقتصر على صنف واحد ) وقال الشافعي : لا يجوز إلا أن يصرف إلى ثلاثة من كل صنف ; لأن الإضافة بحرف اللام للاستحقاق . ولنا أن الإضافة لبيان أنهم مصارف ، لا لإثبات الاستحقاق ، وهذا لما عرف أن الزكاة حق الله تعالى ، وبعلة الفقر صاروا مصارف فلا يبالي باختلاف جهاته ، والذي ذهبنا إليه مروي عن عمر وابن عباس رضي الله عنهم .


باب من يجوز دفع الصدقات إليه ومن لا يجوز . قوله : وعلى ذلك انعقد الإجماع يعني على سقوط المؤلفة قلوبهم من الأصناف [ ص: 476 ] الثمانية المذكورين في القرآن ، قلت : روى ابن أبي شيبة في " مصنفه " حدثنا وكيع عن إسرائيل عن جابر عن عامر الشعبي ، قال : إنما كانت المؤلفة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما ولي أبو بكر رضي الله عنه انقطعت . انتهى .

وروى الطبري في " تفسيره " ، في قوله تعالى: { إنما الصدقات للفقراء والمساكين }الآية ، حدثنا محمد بن عبد الأعلى ثنا محمد بن ثور عن معمر عن يحيى بن أبي كثير ، قال : المؤلفة قلوبهم من بني أمية : أبو سفيان بن حرب ، ومن بني مخزوم : الحارث بن هشام ، وعبد الرحمن بن يربوع ، ومن جمح : صفوان بن أمية ، ومن بني عامر بن لؤي : سهيل بن عمرو ، وحويطب بن عبد العزى ، ومن بني أسد بن عبد العزى : حكيم بن حزام ، ومن بني هاشم : أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، ومن بني فزارة : عيينة بن حصين بن بدر ، ومن بني تميم : الأقرع بن حابس ، ومن بني نصر : مالك بن عوف ، ومن بني سليم : العباس بن مرداس ، ومن ثقيف : العلاء بن حارثة ، أعطى النبي عليه السلام كل رجل منهم مائة ناقة ، إلا عبد الرحمن بن يربوع ، وحويطب بن عبد العزى ، فإنه أعطى كل رجل منهم خمسين . انتهى .

وروى أيضا : حدثنا القاسم ثنا الحسين ثنا هشام : ثنا عبد الرحمن بن يحيى عن حبان بن أبي جبلة ، قال : قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وقد أتاه عيينة بن حصين { الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر }يعني ليس اليوم مؤلفة . انتهى .

وأخرج عن الشعبي ، قال : لم يبق في الناس اليوم من المؤلفة قلوبهم أحد ، إنما كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . انتهى .

وأخرج نحوه عن الحسن البصري رضي الله عنه ، واستدل [ ص: 477 ] ابن الجوزي في " التحقيق " لمذهبنا على سقوط المؤلفة بحديث معاذ : { صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم } ، قال : وهذا محمول على أنه قاله في وقت غير محتاج إلى التأليف . قوله : وفي الرقاب أن يعان المكاتبون منها في فك رقابهم ، قلت : روى الطبري في " تفسيره " من طريق محمد بن إسحاق عن الحسن بن دينار عن الحسن البصري ، أن مكاتبا قام إلى أبي موسى الأشعري ، وهو يخطب الناس يوم الجمعة ، فقال له : أيها الأمير حث الناس علي ، فحث عليه أبو موسى ، فألقى الناس عليه : هذا يلقي عمامة ، وهذا يلقي ملاءة ، وهذا يلقي خاتما ، حتى ألقى الناس عليه سوادا كثيرا ، فلما رأى أبو موسى ما ألقي عليه ، قال : اجمعوه ، ثم أمر به فبيع ، فأعطى المكاتب مكاتبته ، ثم أعطى الفضل في الرقاب نحو ذلك ، ولم يرده على الناس ، وقال : إن هذا الذي قد أعطوه في الرقاب . انتهى .

وأخرج عن الحسن البصري رضي الله عنه ، والزهري ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، قالوا : وفي الرقاب هم المكاتبون ، انتهى .

واستشهد شيخنا علاء الدين بحديث أخرجه ابن حبان ، والحاكم عن البراء بن عازب ، قال : { جاء رجل إلى النبي عليه السلام ، فقال : دلني على عمل يقربني من الجنة ، ويباعدني عن النار ، قال : أعتق النسمة ، وفك الرقبة ، قال : أو ليسا واحدا ؟ قال : لا ، عتق النسمة أن تفرد بعتقها ، وفك الرقبة ، أن تعين في ثمنها انتهى }.

وهذا ليس فيه المقصود ، فإن مراد المصنف تفسير الآية لا تفسير الفك ، نعم ، الحديث مفيد في معرفة الفرق بين العتق والفك ، والله أعلم .

الحديث الرابع والثلاثون : قال المصنف : { وفي سبيل الله منقطع الغزاة ، وعند محمد : منقطع الحاج ، لما روي { أنه عليه السلام أمر رجلا جعل بعيرا له في سبيل الله أن [ ص: 478 ] يحمل عليه الحاج } ، قلت : استشهد له شيخنا علاء الدين بحديث أخرجه أبو داود { عن أم معقل ، قالت كان لنا جمل ، فجعله أبو معقل في سبيل الله ، إلى أن قال : فهل أخرجت عليه ، فإن الحج من سبيل الله } ، مختصر ، وهذا لا يغني ; لأن المقصود تفسير قوله تعالى: { وفي سبيل الله } ، وأيضا فلفظ الحديث لا يمنع دخول الغزاة في الحج ، ولا يتم الاستدلال إلا على تقدير الحصر ، وأيضا فليس فيه أمر ، فلا يكفي في المقصود ، والحديث أخرجه أبو داود في " كتاب الحج في باب العمرة " عن إبراهيم بن مهاجر عن { أبي بكر بن عبد الرحمن ، قال : أخبرني رسول مروان الذي أرسل إلى أم معقل ، قالت : كان أبو معقل حاجا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قدم قالت أم معقل : قد علمت أن علي حجة ، فانطلقا يمشيان حتى دخلا عليه ، قال : فقالت : يا رسول الله إن علي حجة ، وإن لأبي معقل بكرا ، قال أبو معقل : جعلته في سبيل الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أعطها فلتحج عليه فإنه في سبيل الله ، فأعطاها البكر } ، ورواه أحمد في " مسنده " ، ومن طريقه الحاكم في " المستدرك " ، وقال : صحيح على شرط مسلم ، وفيه نظر ، فإن فيه رجلا مجهولا ، وإبراهيم بن مهاجر متكلم فيه ، ولفظ الحاكم عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، قال : { أرسل مروان إلى أم معقل يسألها عن هذا الحديث ، فحدثت أن زوجها جعل بكرا في سبيل الله ، وأنها أرادت العمرة ، فسألت زوجها البكر ، فأبى عليها ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره أن يعطيها ، وقال : إن الحج والعمرة لمن سبيل الله }. انتهى .

ورواه النسائي من حديث الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن امرأة من بني أسد ، يقال لها : أم معقل بنحوه ، ورواه أيضا من حديث جامع بن شداد عن أبي بكر بن عبد الرحمن { عن أبي معقل أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : إن أم معقل جعلت عليها حجة } ، فذكر نحوه ، ورواه أبو داود أيضا من طريق ابن إسحاق عن عيسى بن معقل بن أم معقل الأسدي أسد خزيمة [ ص: 479 ] حدثني يوسف بن عبد الله بن سلام عن جدته { أم معقل ، قالت : لما حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع ، وكان لنا جمل . فجعله أبو معقل في سبيل الله ، وأصابنا مرض ، وهلك أبو معقل ، وخرج النبي عليه السلام ، فلما فرغ من حجه جئته ، فقال : يا أم معقل ما منعك أن تخرجي معنا ؟ قالت لقد تهيأنا فهلك أبو معقل ، وكان لنا جمل هو الذي نحج عليه ، فأوصى به أبو معقل في سبيل الله ، قال : فهلا خرجت عليه ؟ فإن الحج في سبيل الله ، فأما إذا فاتتك هذه الحجة معنا فاعتمري في رمضان ، فإنها الحجة }.

ورواه أيضا حدثنا مسدد ثنا عبد الوارث عن عامر الأحول عن بكر بن عبد الله عن ابن عباس ، قال : { أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج ، فقالت امرأة لزوجها : أحجني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على جملك ، فقال : ما عندي ما أحجك عليه ، قالت : أحجني على جملك فلان ، قال : ذلك حبيس في سبيل الله ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أما إنك لو أحججتها عليه كان في سبيل الله } ، مختصر ، وله طريق آخر ، رواه الطبراني في " معجمه " حدثنا محمد بن أبان الأصبهاني ثنا حميد بن مسعدة ثنا عمر بن علي المقدمي عن موسى بن عقبة عن عيسى بن معقل عن جدته أم معقل ، قالت : { مات أبو معقل ، وترك بعيرا جعله في سبيل الله ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله إن أبا معقل هلك ، وترك بعيرا جعله في سبيل الله ، وعلي حجة ، فقال : يا أم معقل حجي على بعيرك ، فإن الحج في سبيل الله }. انتهى .

{ حديث آخر } : من هذا المعنى ، رواه الطبراني في " معجمه " حدثنا عمرو بن أبي الطاهر بن السرح ثنا يوسف بن عدي ثنا عبد الرحيم بن سليمان عن المختار بن فلفل عن طلق بن حبيب عن { أبي طليق الأشجعي ، قال : طلبت مني أم طليق جملا تحج عليه ، فقلت : قد جعلته في سبيل الله ، فقالت : لو أعطيتنيه لكان في سبيل الله ، فسألت النبي عليه السلام ، فقال : صدقت ، لو أعطيتها ، لكان في سبيل الله ، وأن العمرة في رمضان تعدل حجة }. انتهى .

ورواه البزار في " مسنده " حدثنا علي بن حرب ثنا محمد بن [ ص: 480 ] فضيل عن المختار بن فلفل به . قوله : والذي ذهبنا إليه مروي عن عمر ، وابن عباس رضي الله عنهما يعني جواز الاقتصار على صنف واحد في دفع الزكاة ، قلت : حديث ابن عباس رواه البيهقي ، وحديث عمر رواه ابن أبي شيبة في " مصنفه " ، وروى الطبري في " تفسيره " في هذه الآية أخبرنا عمران بن عيينة عن عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: { إنما الصدقات للفقراء والمساكين }الآية ، قال : في أي صنف وضعته أجزأك ، انتهى . أخبرنا جرير عن ليث عن عطاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : { إنما الصدقات للفقراء }الآية ، قال : أيما صنف أعطيته من هذا أجزأ عنك . انتهى .

ثنا حفص عن ليث عن عطاء عن عمر أنه كان يأخذ الفرض في الصدقة ، فيجعله في صنف واحد ، انتهى .

وروي أيضا عن الحجاج بن أرطاة عن المنهال بن عمرو عن زر بن حبيش عن حذيفة أنه قال : إذا وضعتها في صنف واحد أجزأك انتهى .

وأخرج نحو ذلك عن سعيد بن جبير ، وعطاء بن أبي رباح ، وإبراهيم النخعي ، وأبي العالية ، وميمون بن مهران بأسانيد حسنة ، واستدل ابن الجوزي في " التحقيق " على ذلك بحديث معاذ ، فأعلمهم { أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم } ، قال : والفقراء صنف واحد ، ولم يذكر سواهم .

وقال أبو عبيد القاسم بن سلام في " كتاب الأموال " : ومما يدل على صحة ذلك { أن النبي عليه السلام أتاه بعد ذلك مال فجعله في صنف واحد سوى صنف الفقراء ، وهم المؤلفة قلوبهم : الأقرع بن حابس ، وعيينة بن حصن ، وعلقمة بن علاثة ، وزيد الخير ، قسم فيهم الذهبية التي بعث بها إليه علي من اليمن ، وإنما تؤخذ من أهل اليمن الصدقة ، ثم أتاه مال آخر ، فجعله في صنف آخر ، وهم [ ص: 481 ] الغارمون ، فقال لقبيصة بن المخارق ، حين أتاه وقد تحمل حمالة : يا قبيصة أقم حتى تأتينا الصدقة ، فنأمر لك بها } ، وفي حديث سلمة بن صخر البياضي { أنه أمر له بصدقة قومه } ، ولو وجب صرفها إلى جميع الأصناف لم يجز دفعها إلى واحد ، وأما الآية التي احتج بها الشافعي رضي الله عنه ، فالمراد بها بيان الأصناف التي يجوز الدفع إليهم دون غيرهم ، وكذا المراد بآية الغنيمة . انتهى كلامه .

التالي السابق


الخدمات العلمية