نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية

الزيلعي - جمال الدين عبد الله بن يوسف الزيلعي

صفحة جزء
كتاب الحج

( الحج واجب على الأحرار البالغين العقلاء الأصحاء إذا قدروا على الزاد والراحلة فاضلا عن المسكن وما لا بد عنه ، وعن نفقة عياله إلى حين عوده وكان الطريق آمنا ) وصفه بالوجوب وهو فريضة محكمة ثبتت فرضيته بالكتاب وهو قوله تعالى: { ولله على الناس حج البيت }الآية ( ولا يجب في العمر إلا مرة واحدة ) { لأنه عليه الصلاة والسلام قيل له الحج في كل عام أم [ ص: 70 ] مرة واحدة ؟ فقال : لا بل مرة واحدة فما زاد فهو تطوع } ، ولأن سببه البيت وإنه لا يتعدد فلا يتكرر الوجوب ، ثم هو واجب على الفور عند أبي يوسف رحمه الله .

وعن أبي حنيفة رحمه الله ما يدل عليه وعند محمد والشافعي رحمهما الله على التراخي لأنه وظيفة العمر فكان العمر فيه كالوقت في الصلاة . وجه الأول أنه يختص بوقت خاص والموت في سنة واحدة غير نادر فيضيق احتياطا ، ولهذا كان التعجيل أفضل ، بخلاف وقت الصلاة لأن الموت في مثله نادر .


[ ص: 69 ] كتاب الحج

الحديث الأول : روي { أنه عليه السلام قيل له : الحج في كل عام ، أم مرة واحدة ؟ فقال : لا ، بل مرة فما زاد فهو تطوع } ، قلت : رواه أبو داود ، وابن ماجه في " سننهما " عن سفيان بن حسين عن الزهري عن أبي سنان يزيد بن أمية عن ابن عباس { أن الأقرع بن حابس سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله الحج في كل سنة ، أو مرة واحدة ؟ قال : لا ، بل مرة واحدة ، فمن زاد فهو تطوع }انتهى .

ورواه الحاكم في " المستدرك " ، وقال : حديث صحيح الإسناد ، إلا أنهما لم يخرجا لسفيان بن حسين ، وهو من الثقات الذين يجمع حديثهم انتهى . وسفيان بن حسين تكلم فيه بعضهم في روايته عن الزهري ، قال ابن حبان في " كتاب الضعفاء " : سفيان بن حسين الواسطي يروي عن الزهري المقلوبات ، وإذا روى عن غيره أشبه حديث الأثبات ، وذلك أن صحيفة الزهري اختلطت عليه ، وكان يأتي بها على التوهم ، والإنصاف في أمره تنكب ما روى عن الزهري ، والاحتجاج بما روى عن غيره انتهى كلامه .

قلت : قد تابعه عليه عبد الجليل بن حميد ، وسليمان بن كثير ، وعبد الرحمن بن [ ص: 70 ] خالد بن مسافر ، ومحمد بن أبي حفصة ، فرووه عن الزهري ، كما رواه سفيان بن حسين ، ورواه يزيد بن هارون عن أبي سنان أيضا بنحو ذلك .

أما حديث عبد الجليل بن حميد : فأخرجه النسائي في " سننه " عن موسى بن سلمة المصري عن عبد الجليل بن حميد عن الزهري به ، وكذلك أخرجه الدارقطني في " سننه " ، قال ابن القطان في " كتابه " : وموسى بن سلمة ، وعبد الجليل بن حميد اليحصبي مجهولا الحال ، فالحديث من أحدهما لا يصح ، انتهى .

وحديث سليمان بن كثير : أخرجه أحمد في " مسنده " ، والدارقطني في " سننه " ، والحاكم في " المستدرك " ، وقال : حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه ، ولفظه : قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : { يا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج ، فقام الأقرع بن حابس ، فقال : أفي كل عام يا رسول الله ؟ قال : لو قلتها لوجبت ، ولم تستطيعوا أن تعملوا بها ، الحج مرة ، فمن زاد فتطوع }انتهى .

وأما حديث عبد الرحمن : فأخرجه الحاكم في " المستدرك " عن عبد الرحمن بن خالد بن مسافر عن الزهري به ، سواء ، وقال : حديث صحيح على شرط البخاري ، ولم يخرجاه انتهى .

وأما حديث محمد بن أبي حفصة : فأخرجه الدارقطني في " سننه " عن محمد بن أبي حفصة عن الزهري به ، باللفظ الأول . [ ص: 71 ] وأما حديث يزيد بن هارون : فأخرجه الحاكم أيضا عن سهل بن عمار العتكي ثنا يزيد بن هارون وسقط منه رجلان : سفيان ، والزهري عن أبي سنان عن ابن عباس أيضا باللفظ الأول ، وسكت عنه ، وله عند الدارقطني أيضا طريقان ، إلا أنهما واهيان جدا ، فأضربنا عن ذكرهما ، وجهل من عزا حديث ابن عباس لمسلم ، وإنما أخرج مسلم نحوه من حديث أبي هريرة ، وسنذكره في أحاديث الباب ، وقلده شيخنا علاء الدين ، فالمقلد ذهل ، والمقلد جهل ، والله أعلم بالصواب .

أحاديث الباب : روى مسلم في " صحيحه " من حديث أبي هريرة ، قال : { خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا أيها الناس قد فرض عليكم الحج ، فحجوا ، فقال رجل : أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت حتى قالها ثلاثا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو قلت : نعم لوجبت ، ولما استطعتم ، ثم قال : ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم ، واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه }انتهى . وأخرج البخاري منه : { ذروني ما تركتم } ، إلى آخره .

{ حديث آخر } : أخرجه الترمذي ، وابن ماجه عن عبد الأعلى بن عامر الثعلبي عن أبي البختري عن علي ، قال : { لما نزلت هذه الآية { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا }قالوا : يا رسول الله أفي كل عام ؟ فسكت ، ثم قالوا : أفي كل عام ؟ قال : لا ، ولو قلت : نعم لوجبت ، فأنزل الله { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء } }الآية انتهى ، قال الترمذي : حديث غريب من هذا الوجه ، انتهى .

قال محمد [ ص: 72 ] يعني البخاري : وأبو البختري لم يدرك عليا انتهى كلام الترمذي . وكذلك رواه البزار في " مسنده " ، وقال : أبو البختري لم يسمع من علي انتهى .

وأخرجه الحاكم في " المستدرك في تفسير آل عمران " ، وسكت عنه ، ولم يتعقبه الذهبي في " مختصره " بالانقطاع ، ولكن أعله بعبد الأعلى ، قال : وقد ضعفه أحمد انتهى .

وقال الشيخ في " الإمام " : قال عبد الله بن أحمد عن أبيه عبد الأعلى الثعلبي ضعيف الحديث ، وقال ابن معين ، وأبو حاتم : ليس بالقوي ، وقال أبو زرعة : ضعيف الحديث ، ربما رفع الحديث ، وربما وقفه انتهى كلامه .

{ حديث آخر } : أخرجه أبو داود في " سننه " عن زيد بن أسلم عن ابن أبي واقد الليثي عن أبيه ، قال : سمعت { رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ، لأزواجه في حجة الوداع : هذه ، ثم ظهور الحصر } ، انتهى ، ومعناه : أي الزمن ظهور الحصر ، قال ابن القطان في " كتابه " : وابن أبي واقد لا يعرف له اسم ولا حال ، قال الشيخ في " الإمام " : قد عرف اسمه من سنن سعيد بن منصور ، فقال : حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن زيد بن أسلم عن واقد بن أبي واقد الليثي عن أبيه ، فذكره ، وذكره البخاري في " تاريخه " ، فقال : واقد بن أبي واقد الليثي لم يزد على ذلك ، والله أعلم .

{ حديث آخر } : أخرجه ابن ماجه عن محمد بن أبي عبيدة عن أبيه عن الأعمش عن أبي سفيان عن أنس بن مالك ، قال : { قالوا : يا رسول الله الحج في كل عام ، فقال : لو قلت : نعم لوجبت ، ولو وجبت لم تقوموا بها ، ولو لم تقوموا بها عذبتم }انتهى . ومحمد بن أبي عبيدة بن معن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود الهذلي المسعودي الكوفي خرج له مسلم عن أبيه ، واسم أبيه كنيته ، وأبو سفيان : طلحة بن نافع ، أخرج له مسلم أيضا ، والله أعلم .

أحاديث الفور في الحج والتراخي : قال المصنف رحمه الله : ثم هو واجب على [ ص: 73 ] الفور عند أبي يوسف .

وعن أبي حنيفة ما يدل عليه . وعند محمد ، والشافعي رحمهما الله على التراخي ، قال ابن الجوزي في " التحقيق " : وأحمد يقول بالفور أيضا ، واحتج له بحديث الحجاج بن عمرو الأنصاري : من كسر وأعرج ، فقد حل ، وعليه الحج من قابل ، ثم قال : وحجة الآخرين ما رووا عن أبي سعيد عن النبي عليه السلام أنه قال : { من أحب أن يرجع بعمرة قبل الحج ، فليفعل }.

قال : وهذا حديث لا يعرف ، وإنما الذي روي : { من أحب أن يبدأ بعمرة قبل الحج فليفعل } ، وهذا هو التمتع ، قال : واحتجوا أيضا بأن فريضة الحج نزلت في سنة خمس ، بدليل ما رواه أحمد في " مسنده " من طريق محمد بن إسحاق حدثني محمد بن الوليد بن نويفع عن كريب عن عبد الله بن عباس ، قال : بعثت بنو سعد بن بكر : ضمام بن ثعلبة وافدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له عليه السلام فرائض الإسلام : الصلاة ، والصوم ، والحج ، بعد أن ذكر التوحيد ، قال : وقد [ ص: 74 ] رواه شريك بن أبي نمر عن كريب ، فقال فيه : بعثت بنو سعد : ضماما في رجب سنة خمس ، قالوا : وإذا ثبت أن الحج وجب في سنة خمس ، فقد أخره رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سنة عشر ، فدل على أن وجوب الحج على التراخي لا على الفور ، قال : وجواب هذا أنه قد روي أن ضماما قدم في سنة تسع ، فإن صحت الرواية الأخرى ، فعن تأخيره عليه السلام إياه جوابان :

أحدهما : أن الله تعالى أعلم نبيه عليه السلام أنه لا يموت حتى يحج ، وكان على يقين من الإدراك ، قاله أبو زيد الحنفي . والثاني : أنه أخره لعذر ، وكانت له أعذار : منها الفقر ، ومنها الخوف على نفسه ، ومنها الخوف على المدينة من المشركين ، ومنها غلبة المشركين على مكة ، وكونهم يحجون ويظهرون الشرك ، ولا يمكنه الإنكار عليهم ، فإن قيل : فكيف أخره بعد الفتح ، فجوابه من وجهين : أحدهما : أنه لم يؤمر بمنع حجاج المشركين ، فلو حج لاختلط الكفار بالمسلمين ، فكان ذلك كالعذر ، فلما أمر بمنع المشركين من الحج بعث أبا بكر في سنة تسع فنادى : أن لا يحج بعد العام مشرك ، ثم حج عند زوال ما يكره .

والثاني : أن يكون أخر الحج لئلا يقع في غير ذي الحجة من جهة [ ص: 75 ] النسيء الذي كانت العرب تستعمله ، حتى يدور التحريم على جميع الشهور ، فوافقت حجة أبي بكر ذا القعدة ، ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي الحجة انتهى كلامه . قال صاحب " التنقيح " : وحديث ابن عباس رواه أحمد في " مسنده " مطولا ، وفيه محمد بن الوليد بن نويفع لا نفيع ، وهو الأسدي القرشي ، وذكره ابن حبان في الثقات وقد روى له أبو داود هذا الحديث الواحد مقرونا بغيره ، وهو سلمة بن كهيل ، كلاهما عن كريب وأما رواية شريك بن أبي نمر التي ذكرها ، فلا أعرف لها سندا ، والله أعلم انتهى كلامه .

التالي السابق


الخدمات العلمية