نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية

الزيلعي - جمال الدين عبد الله بن يوسف الزيلعي

صفحة جزء
باب القران ( القران أفضل من التمتع والإفراد ) وقال الشافعي رحمه الله : الإفراد أفضل . وقال مالك رحمه الله : التمتع أفضل من القران ; لأن له ذكرا في القرآن ولا ذكر لقران فيه ، وللشافعي رحمه الله قوله عليه الصلاة والسلام { القران رخصة }ولأن في الإفراد زيادة التلبية والسفر والحلق . ولنا قوله عليه الصلاة والسلام { يا آل محمد أهلوا بحجة وعمرة معا }ولأن [ ص: 197 ] فيه جمعا بين العبادتين فأشبه الصوم مع الاعتكاف والحراسة في سبيل الله مع [ ص: 198 ] صلاة الليل والتلبية غير محصورة والسفر غير مقصود والحلق خروج عن العبادة [ ص: 199 ] فلا يترجح بما ذكر . [ ص: 200 - 204 ] والمقصود بما روى نفي قول أهل الجاهلية : إن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور ، وللقران ذكر في القرآن ; لأن المراد من قوله تعالى: { وأتموا الحج والعمرة لله }أن يحرم بهما من دويرة أهله على ما روينا من قبل ، ثم فيه تعجيل الإحرام واستدامة إحرامهما من الميقات إلى أن يفرغ منهما ولا كذلك التمتع ، فكان القران أولى منه ، وقيل الاختلاف بيننا وبين الشافعي بناء على أن القارن عندنا يطوف طوافين ويسعى سعيين وعنده طوافا واحدا وسعيا واحدا .


باب القران

الحديث الأول : قال عليه السلام : { القران رخصة }; قلت : غريب جدا .

الحديث الثاني : قال عليه السلام : { يا آل محمد أهلوا بحجة وعمرة معا }; قلت : أخرجه الطحاوي عن أم سلمة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { : أهلوا يا آل محمد بعمرة في حجة }انتهى . أخرجه في " شرح الآثار " عن الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران عن أم سلمة ، فذكره .

أحاديث الباب : أخرج البخاري ، ومسلم عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس ، [ ص: 197 ] قال : سمعت { رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي بالحج والعمرة ، يقول : لبيك عمرة وحجة }انتهى .

قال ابن الجوزي في " التحقيق " : مجيبا عنه أن أنسا كان حينئذ صبيا ، فلعله لم يفهم الحال ، وغلطه " التنقيح " فقال : بل كان بالغا بالإجماع ، بل كان له نحو من عشرين سنة ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هاجر إلى المدينة ، ولأنس عشر سنين ، ومات وله عشرون سنة ، يدل على ذلك ما أخرجاه واللفظ لمسلم عن بكر عن أنس ، قال : سمعت { رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي بالحج والعمرة جميعا }.

قال بكر : فحدثت بذلك ابن عمر ، فقال : لبى بالحج وحده ، فلقيت أنسا فحدثته بقول ابن عمر ، فقال أنس : ما يعدوننا إلا صبيانا ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { لبيك عمرة وحجا } ، انتهى .

{ حديث آخر } : أخرجه البخاري عن عمر بن الخطاب ، قال : سمعت { رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو بالعقيق : أتاني الليلة آت من ربي عز وجل فقال : صل في هذا الوادي المبارك ، وقل : عمرة في حجة }انتهى . زاد في لفظ : يعني ذا الحليفة ، انفرد به البخاري .

{ حديث آخر } : أخرجاه في " الصحيحين " عن قتادة عن أنس ، قال : { اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عمر ، كلهن في ذي القعدة ، إلا التي مع حجته : عمرة من الحديبية في ذي القعدة ، وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة ، وعمرة من الجعرانة من حيث قسم غنائم حنين في ذي القعدة ، وعمرة مع حجته }انتهى . وأخرجه أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه عن داود بن عبد الرحمن عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس ، قال : { اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عمر : عمرة الحديبية ، وعمرة القضاء في ذي القعدة من قابل ، والثالثة من الجعرانة ، والرابعة مع حجته }انتهى .

وأخرجه ابن حبان في " صحيحه " إلا أنه قال فيه : عن عمرو ، وعكرمة بالعطف ، وهو وهم وأخرجه الترمذي أيضا عن سعيد بن عبد الرحمن عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن النبي عليه السلام مرسلا ، قال علي بن عبد العزيز : وليس أحد يقول في هذا الحديث : عن ابن عباس إلا داود بن عبد الرحمن ; وقال البخاري : داود بن عبد الرحمن صدوق ، إلا أنه ربما يهم في [ ص: 198 ] الشيء ، انتهى .

{ حديث آخر } : حديث الصبي بن معبد : رواه أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، وصححه الدارقطني في " كتاب العلل " ، وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى . { حديث آخر } :

أخرجه ابن ماجه عن أبي معاوية ثنا حجاج عن الحسن بن سعد عن ابن عباس ، قال : أخبرني أبو طلحة { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الحج والعمرة }انتهى . وحجاج هذا هو ابن أرطاة ، وفيه مقال .

{ حديث آخر } : رواه الإمام أحمد في " مسنده " حدثنا مكي بن إبراهيم ثنا داود بن يزيد ، قال : سمعت عبد الملك الزراد يقول : سمعت النزال بن سبرة يقول : سمعت سراقة يقول : { قرن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع }انتهى .

وداود بن يزيد هو الأودي عم عبد الله بن إدريس تكلم فيه غير واحد من الأئمة : كالإمام أحمد ، وابن معين ، وأبي داود ، وغيرهم ; وقد رواه أخوه ابن يزيد عن عبد الملك بن ميسرة عن عطاء عن طاوس عن سراقة ، والله أعلم .

{ حديث آخر } : أخرجه أبو داود عن مجاهد ، قال : سئل ابن عمر ، كم اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : مرتين ، فقالت عائشة رضي الله عنها: لقد علم ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اعتمر ثلاثا سوى التي قرنها بحجة الوداع ، انتهى . وأخرجه النسائي أيضا .

أحاديث الخصوم : وهم فريقان : أحدهما : يقولون بأفضلية الإفراد ، وهم الشافعي ، وأصحابه ; والآخرون يقولون بأفضلية التمتع ، وهم مالك ، وأحمد ، ومن تبعهما ; فللشافعي من الأحاديث ما أخرجه البخاري ، ومسلم عن عائشة { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحج }انتهى . بلفظ مسلم : وطوله البخاري .

{ حديث آخر } : أخرجه البخاري ، ومسلم عن نافع عن { ابن عمر ، قال : أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج مفردا }انتهى .

وأخرجه الترمذي عن عبد الله بن نافع الصائغ عن عبيد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر { أن النبي عليه السلام أفرد الحج } ، وأفرد [ ص: 199 ] أبو بكر ، وعمر ، وعثمان انتهى .

والعمري تكلم فيه غير واحد ، وأخرجه الدارقطني عن عبد الله بن نافع ، ولم ينسبه ، فظن بعض الناس أنه عبد الله بن نافع مولى ابن عمر ، فأعله به اعتمادا على قول النسائي فيه : إنه متروك الحديث ; وقول ابن معين : ليس بشيء ، وهو خطأ ، وإنما هو عبد الله بن نافع الصائغ ، كما نسبه الترمذي ، وهو صاحب مالك ، روى عنه مسلم في " صحيحه " ، ووثقه ابن معين ، والنسائي ، وقد تكلم فيه بعض من جهة حفظه ، والله أعلم .

{ حديث آخر } : أخرجه مسلم عن أبي الزبير عن { جابر ، قال : أقبلنا مهلين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج مفردا } ، انتهى .

أحاديث القائلين بأفضلية التمتع : ولأحمد ، ومالك من الأحاديث ما أخرجاه في " الصحيحين " عن سالم عن ابن عمر ، قال : { تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج ، وأهدى ، فساق معه الهدي من ذي الحليفة ، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة . ثم أهل بالحج ، فتمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج ، فكان من الناس من أهدى ، فساق الهدي ، ومنهم من لم يهد ، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة قال للناس : من كان منكم أهدى ، فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه ، ومن لم يكن منكم أهدى ، فليطف بالبيت وبالصفا والمروة ، وليقصر ، وليحلل ، ثم ليهل بالحج } ، انتهى .

{ حديث آخر } : أخرجاه أيضا في " الصحيحين " عن سعيد بن المسيب ، قال : اختلف علي ، وعثمان ، وهما بعسفان في المتعة ، فقال له علي : ما تريد إلى أن تنهى عن أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له عثمان : دعنا عنك ، فلما رأى ذلك علي أهل بهما جميعا ، انتهى .

قال صاحب " التنقيح " : ليس هذا الحديث لمن قال بالتمتع ، إنما هو لمن قال بالقران . فإن عليا أهل بالحج والعمرة جميعا ، والتمتع في عرف الصحابة يدخل فيه القران ، قال : ويدخل فيه التمتع الخاص ، ولم يحج النبي عليه السلام متمتعا التمتع الخاص ، لأنه لم يحل من عمرته ، بل المقطوع به أنه قرن بين الحج والعمرة ; لأنه ثبت عنه أنه اعتمر [ ص: 200 ] أربع عمر ، الرابعة كانت مع حجته ; وقد ثبت عنه أنه لم يحل منها قبل الوقوف بقوله : { لولا أن معي الهدي لأحللت }; وثبت أنه لم يعتمر بعد الحج ، فإن ذلك لم ينقل أحد عنه ، وإنما اعتمر بعد الحج عائشة وحدها ، فتحصل من مجموع ذلك أنه كان قارنا ، وعلى هذا يجتمع أحاديث الباب ، والله أعلم انتهى .

{ حديث آخر } : أخرجه مسلم { عن سعد بن أبي وقاص أنه ذكر التمتع بالعمرة ، فقال : قد صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصنعناها معه }انتهى .

{ حديث آخر } : أخرجه الترمذي عن ليث عن طاوس عن ابن عباس ، قال : { تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات ، وأبو بكر حتى مات ، وعمر حتى مات ، وعثمان حتى مات ، رضي الله عنهم ، وكان أول من نهى عنها معاوية ، قال ابن عباس : فعجبت منه ، وقد حدثني أنه قصر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص }انتهى .

وليث هو ابن أبي سليم ، وفيه مقال ، فهذه أربعة أحاديث شاهدة أنه عليه السلام تمتع ، وبقية الأحاديث فيها الأمر بالتمتع : فمنها ما أخرجاه في " الصحيحين " عن { أبي موسى الأشعري ، قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض قومي ، فلما حضر الحج حج رسول الله صلى الله عليه وسلم وحججت ، فقدمت عليه ، وهو نازل بالأبطح ، فقال لي : بم أهللت يا عبد الله بن قيس ؟ قال : قلت : لبيك بحج كحج رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أحسنت ، ثم قال : هل سقت هديا ؟ قلت : ما فعلت ، قال : اذهب فطف بالبيت وبين الصفا والمروة ، ثم احلل ، فانطلقت ففعلت ما أمرني ، وأتيت امرأة من قومي ، فغسلت رأسي بالخطمي ، وفلت رأسي ، ثم أهللت بالحج يوم التروية }انتهى .

{ حديث آخر } : أخرجاه أيضا في " الصحيحين " عن بكر عن ابن عمر ، قال : { خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فلبى بالحج ولبينا معه ، فلما قدم أمر من لم يكن معه الهدي أن يجعلوها عمرة }انتهى .

{ حديث آخر } : أخرجاه أيضا عن طاوس عن { ابن عباس ، قال : كانوا يرون العمرة في [ ص: 201 ] أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض ، ويجعلون المحرم صفرا ، ويقولون : إذا برأ الدبر ، وعفا الأثر ، وانسلخ صفر ، حلت العمرة لمن اعتمر ، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج ، فأمرهم أن يجعلوها عمرة ، فتعاظم ذلك عندهم ، فقالوا : يا رسول الله ، أي الحل ؟ قال : الحل كله }انتهى .

{ حديث آخر } : أخرجاه أيضا عن الأسود عن { عائشة ، قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نرى إلا أنه الحج ، فلما قدمنا تطوفنا بالبيت ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يكن ساق الهدي أن يحل ، فحل من لم يكن ساق الهدي ، ونساؤه لم يسقن ، فأحللن }انتهى .

{ حديث آخر } : أخرجاه أيضا عن { حفصة بنت عمر ، قالت : لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه أن يحللن بعمرة ، قلت : ما يمنعك يا رسول الله أن تحل معنا ؟ قال : إني قد أهديت ولبدت ، فلا أحل حتى أنحر هديي }انتهى .

{ حديث آخر } : أخرجه مسلم عن أبي الزبير عن { جابر ، قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج ، فلما قدمنا مكة طفنا بالبيت وبالصفا والمروة ، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : من لم يكن معه هدي فليحلل ، قلنا : أي الحل ؟ قال : الحل كله ، قال : فأتينا النساء ، ولبسنا الثياب ، ومسسنا الطيب ، فلما كان يوم التروية أهللنا بالحج }انتهى .

{ حديث آخر } : أخرجه مسلم أيضا عن أبي نضرة عن { أبي سعيد ، قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فصرخ بالحج صراخا ، حتى إذا طفنا بالبيت ، قال : اجعلوها عمرة ، إلا من كان معه هدي ، قال : فجعلناها عمرة فحللناها ، فلما كان يوم التروية صرخنا بالحج ، وانطلقنا إلى منى }انتهى .

{ حديث آخر } : أخرجه النسائي ، وأحمد عن أشعث عن الحسن عن أنس بن مالك { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قدموا مكة ، وقد لبوا بحج وعمرة ، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما طافوا بالبيت وسعوا بين الصفا والمروة أن يجعلوها عمرة ، فكأن القوم هابوا ذلك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لولا أني سقت الهدي لأحللت ، فحل القوم وتمتعوا ، } [ ص: 202 ] انتهى .

قال صاحب " التنقيح " : هذا حديث صحيح ، والله أعلم .

{ حديث آخر } : رواه أحمد في " مسنده " حدثنا يونس حدثنا فليح عن نافع عن ابن عمر { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبد رأسه وأهدى . فلما قدم مكة أمر نساءه أن يحللن ، قلن : ما لك أنت لا تحل ؟ قال : إني قلدت هديي ، ولبدت رأسي ، فلا أحل حتى أحل من حجتي ، وأحلق رأسي }انتهى . قال في " التنقيح " : هو حديث صحيح على شرط البخاري .

{ حديث آخر } : رواه أحمد أيضا حدثنا عفان ثنا حماد بن سلمة ثنا حميد عن بكر بن عبد الله عن ابن عمر أنه قال : { قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وأصحابه مهلين بالحج ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من شاء أن يجعلها عمرة ، إلا من كان معه هدي }انتهى .

قال في " التنقيح " : رواته ثقات ، قال ابن الجوزي في " التحقيق " : قالت الخصوم : فقد نقضتم أحاديثكم الأوائل بهذه الأواخر ، لأنكم رويتم في الأوائل أنه تمتع ، وفي الأواخر أنه تندم . كيف ساق الهدي ، ولم يمكنه أن يفسخ ؟ وأنتم بين أمرين : إما أن تصححوا الأوائل ، فيبطل مذهبكم في فسخ الحج إلى العمرة ، أو تصححوا الأواخر ، فيبطل احتجاجكم بأن الرسول تمتع .

ثم نتكلم على أحاديثكم ، فنقول : الأوائل معارضة بالأواخر ، فأما الأواخر : فإنه لم يأمر أصحابه بالفسخ لفضيلة التمتع ، بل لأمر آخر ، وهو ما رويتم من حديث ابن عباس أن أهل الجاهلية كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور ، فأمر بفسخ الحج إلى العمرة ليخالف المشركين ، واستدلوا عليه بما أخرجه أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي أخبرني ربيعة بن أبي عبد الرحمن { عن الحارث بن بلال عن أبيه ، قلت : يا رسول الله ، فسخ الحج لنا خاصة أم للناس عامة ؟ قال : بل لنا خاصة } ، وإنما أخرجه مسلم في " صحيحه " عن أبي ذر ، قال : كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد خاصة ; قال ابن الجوزي : الجواب أنه إذا صحت الأحاديث فلا ينبغي ردها ، وإنما يتمحل لها ; والوجه في الجمع بين الأحاديث أنه كان قد اعتمر ، وتحلل من العمرة ، ثم أحرم بالحج ، وساق الهدي ، ثم أمر أصحابه بالفسخ ، ليفعلوا مثل فعله ; لأنهم لم يكونوا أحرموا بعمرة ، ومنعه من فسخ الحج إلى عمرة ثانية عمرته الأولى وسوقه الهدي ، فعلى هذا تتفق الأحاديث ، ولا يرد منها شيء ، فإن قالوا : كيف يصح هذا التأويل ، وإنما علل بسوق الهدي لا بفعل عمرة متقدمة ؟ قلنا : ذكر [ ص: 203 ] إحدى العلتين دون الأخرى ، وذلك جائز ; وقولهم : إنما أمرهم بالفسخ لمخالفة الجاهلية ، قلنا : لو كان كذلك لم يفرق بين من ساق الهدي ومن لم يسقه ، ثم إنه اعتمر في أشهر الحج ، ففي " الصحيحين " عن أنس { أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر ، كلها في ذي القعدة ، إلا التي مع حجته } ، ففعله هذا يكفي في البيان لأصحابه ، والمشركين أن العمرة تجوز في أشهر الحج ، فلم يحتج أن يأمر أصحابه بفسخ الحج المحترم كذلك ، وإنما فعل ذلك ; لأنه الأفضل .

وأما حديث ابن عباس : فإنه لم يرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل لأجل ما كان المشركون يعتمدونه ، وإنما ذكر حال الجاهلية .

وأما حديث الحارث بن بلال : فقال أحمد : هو حديث لا يثبت ، ولا أقول به ، والحارث بن بلال لا يعرف ، ولو عرف فأين يقع من أحد عشر رجلا من الصحابة ، يرون الفسخ ، ولا يصح حديث في أن الفسخ كان لهم خاصة ، وأبو موسى الأشعري يفتي به في خلافة أبي بكر ، وشطر من خلافة عمر .

وأما حديث أبي ذر : فموقوف عليه ، وقد خالفه أبو موسى ، وابن عباس ، وغيرهما ، ثم إنه ظن من أبي ذر ، يدل عليه حديث ابن عباس : أن العمرة قد دخلت في الحج ، وفي حديث جابر { أن سراقة قال : ألعامنا أم للأبد ؟ فقال : بل للأبد } ، يريد أن حكم الفسخ باق على الأبد ; وقد قيل : إن وجوب الفسخ كان خاصا بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأما غيرهم فلا يجب عليه ، بل يجوز له انتهى كلامه .

قال صاحب " التنقيح " رحمه الله : وما جمع به المؤلف بين الأحاديث { بأن النبي عليه السلام قد اعتمر وتحلل من العمرة ، ثم أحرم بالحج ، وساق الهدي } ، فضعيف جدا ، وكذلك قول من قال : إنه أحرم بالحج ، ثم أدخل عليه العمرة ، فكذلك قول من قال : إنه أفرد ، ثم لما فرغ منه اعتمر ضعيف أيضا ; لأن أحدا لم يعتمر معه بعد الحج إلا عائشة رضي الله عنها ، وكذلك قول من قال : { إنه أحرم بالعمرة أولا ، وساق الهدي ، ثم أدخل عليها الحج ، ولم يتحلل لأجل الهدي }ضعيف أيضا ، وإن كان أقرب من غيره ; وكذلك قول من قال : { إنه كان قارنا وطاف طوافين وسعى سعيين } ، وقد ذكرنا ضعف هذه الأقوال في غير هذا الموضع ، والصواب أنه عليه السلام كان قارنا أحرم بالحج والعمرة جميعا ، وطاف لهما طوافا واحدا ، وسعى سعيا واحدا ; وقد أخرج البخاري عن عمر بن الخطاب سمعت { النبي عليه السلام ، وهو بوادي العقيق يقول : أتاني الليلة آت من ربي ، فقال : صل في هذا الوادي المبارك ، وقل : عمرة في حجة } ، وهذا الآتي أتاه قبل أن يصل إلى الموضع الذي أحرم منه ، وهو [ ص: 204 ] ذو الحليفة انتهى كلامه . قوله : والمقصود بما روي نفي قول أهل الجاهلية : إن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور ; قلت : يعني بما روى الشافعي من حديث : { القران رخصة } ، وقول الجاهلية تقدم عند البخاري ، ومسلم عن طاوس عن ابن عباس ، قال : { كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض ، ويجعلون المحرم صفرا ، ويقولون : إذا برأ الدبر ، وعفا الأثر ، وانسلخ صفر ، فقد حلت العمرة لمن اعتمر ، فقدم النبي عليه السلام صبيحة رابعة مهلين بالحج ، فأمرهم أن يجعلوها عمرة ، فتعاظم ذلك عندهم ، فقالوا : يا رسول الله أي الحل ؟ قال : الحل كله }انتهى .

ورجح الحازمي في " كتاب الناسخ والمنسوخ " أنه عليه السلام كان مفردا بوجهين : أحدهما : حديث جابر الطويل ، قال : فإنه أحسن سياقا ، وأبلغ استقصاء ، وغيره لم يضبط ضبطه ; والثاني : أن أحد الروايتين كان أقرب مكانا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أنسا روى أنه عليه السلام قرن ، وابن عمر روى أنه أفرد ، وقال في حديثه : كنت تحت جران ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعابها بين كتفي ، فحديثه أولى بالتقديم .

وقال ابن سعد في " الطبقات في باب حجة الوداع " : وقد اختلف علينا فيما أهل به النبي عليه السلام ، فأهل المدينة يقولون : إنه أهل بالحج مفردا ، وفي رواية غيرهم أنه قرن مع حجه عمرة ; وقال بعضهم : دخل مكة متمتعا بعمرة ، ثم أضاف إليها حجة ، وفي كل رواية انتهى .

التالي السابق


الخدمات العلمية