صفحة جزء
[ ص: 279 ] النوع الخامس والثلاثون : معرفة المصحف من أسانيد الأحاديث ومتونها

هذا فن جليل ، إنما ينهض بأعبائه الحذاق من الحفاظ ، والدارقطني منهم ، وله فيه تصنيف مفيد . ‏

وروينا عن ‏أبي عبد الله أحمد بن حنبل‏ رضي الله عنه أنه قال : " ومن يعرى من الخطأ والتصحيف ؟ "

فمثال التصحيف في الإسناد حديث ‏شعبة‏ عن العوام بن مراجم ، عن أبي عثمان النهدي ، عن عثمان بن عفان قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لتؤدن الحقوق إلى أهلها‏ . . . " الحديث ، صحف فيه ‏يحيى بن معين فقال‏ : " ‏ابن مزاحم‏ " بالزاي والحاء ، فرد عليه ، وإنما هو " ‏ابن مراجم‏ " بالراء المهملة والجيم‏ . ‏

ومنه‏ : ما رويناه عن ‏أحمد بن حنبل‏ قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن مالك بن عرفطة ، عن عبد خير ، عن عائشة‏ ( رضي الله عنها ) " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الدباء والمزفت‏ " ، [ ص: 280 ] قال أحمد : " صحف شعبة فيه ، فإنما هو خالد بن علقمة " ، وقد رواه زائدة بن قدامة وغيره على ما قاله أحمد . ‏

وبلغنا عن ‏الدارقطني ‏‏ : أن ‏ابن جرير الطبري‏ قال فيمن روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من بني سليم‏ : " ومنهم ‏عتبة بن البذر‏ " ، قاله بالباء والذال المعجمة ، وروى له حديثا ، وإنما هو " ‏ابن الندر‏ " بالنون والدال غير المعجمة‏ . ‏

ومثال التصحيف في المتن‏ : ما رواه ‏ابن لهيعة ، عن كتاب موسى بن عقبة إليه ، بإسناده عن زيد بن ثابت‏ " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتجم في المسجد " ، وإنما هو بالراء " احتجر في المسجد‏ بخص أو حصير حجرة يصلي فيها‏ " ، فصحفه ابن لهيعة ، لكونه أخذه من كتاب بغير سماع‏ ، ذكر ذلك ‏مسلم‏ في كتاب ‏التمييز‏ له‏ . ‏

وبلغنا عن ‏الدارقطني في حديث أبي سفيان عن جابر قال : " رمي أبي يوم الأحزاب على أكحله ، فكواه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أن غندرا قال فيه " أبي " ، وإنما هو " ‏أبي‏ " وهو أبي بن كعب‏ . ‏

وفي حديث أنس : " ‏ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله ، [ ص: 281 ] وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة‏ ‏‏ " ، قال فيه شعبة " ‏ذرة " بالضم والتخفيف ، ونسب فيه إلى التصحيف‏ . ‏

وفي حديث ‏أبي ذر " ‏تعين الصانع‏ ‏‏ " ، قال فيه ‏هشام بن عروة‏ ‏‏ : بالضاد المعجمة ، وهو تصحيف ، والصواب ما رواه ‏الزهري " ‏الصانع‏ " بالصاد المهملة ، ضد الأخرق‏ . ‏

وبلغنا عن ‏أبي زرعة الرازي‏ ‏‏ أن ‏يحيى بن سلام‏ - هو المفسر - حدث عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة في قوله تعالى : ( ‏سأريكم دار الفاسقين ) قال : " ‏مصر " ، واستعظم ‏أبو زرعة هذا واستقبحه ، وذكر أنه في تفسير سعيد عن قتادة " ‏مصيرهم‏ " .

وبلغنا عن ‏الدارقطني ‏‏ أن ‏محمد بن المثنى أبا موسى العنزي‏ حدث بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ‏لا يأتي أحدكم يوم القيامة ببقرة لها خوار‏ " فقال فيه‏ : " أو ‏‏شاة تنعر‏ " بالنون ، وإنما هو‏ " ‏تيعر " بالياء المثناة من تحت ، وأنه قال لهم يوما " نحن قوم لنا شرف ، نحن من عنزة ، قد صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلينا‏ " ، يريد ما روي " أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى [ ص: 282 ] عنزة " توهم أنه صلى إلى قبيلتهم ، وإنما العنزة هاهنا حربة ، نصبت بين يديه فصلى إليها‏ . ‏

وأظرف من هذا ما رويناه عن الحاكم ‏أبي عبد الله ، عن أعرابي زعم‏ أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلى نصبت بين يديه شاة ، أي صحفها ‏عنزة‏ بإسكان النون‏ . ‏

وعن ‏الدارقطني أيضا أن أبا بكر الصولي أملى في الجامع حديث أبي أيوب : ‏‏ " ‏من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال‏ ‏‏ " ، فقال فيه " شيئا " بالشين والياء‏ . ‏

وأن ‏أبا بكر الإسماعيلي الإمام‏ كان - فيما بلغهم عنه - يقول في حديث عائشة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الكهان : " ‏قر الزجاجة‏ " بالزاي ، وإنما هو‏ " قر الدجاجة " بالدال‏ . ‏

وفي حديث يروى عن معاوية بن أبي سفيان قال : " لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين يشققون الخطب تشقيق الشعر‏ " ، ذكر [ ص: 283 ] الدارقطني عن ‏وكيع أنه قاله مرة بالحاء المهملة و‏أبو نعيم شاهد ، فرده عليه بالخاء المعجمة المضمومة‏ . ‏

وقرأت بخط مصنف‏ أن ‏ابن شاهين قال في جامع المنصور في الحديث : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن تشقيق الحطب‏ " ، فقال بعض الملاحين‏ : يا قوم ! فكيف نعمل والحاجة ماسة‏ . ‏

قلت‏ : فقد انقسم التصحيف إلى قسمين‏ : أحدهما في المتن ، والثاني في الإسناد‏ . ‏

وينقسم قسمة أخرى إلى قسمين‏ :

أحدهما‏ : تصحيف البصر ، كما سبق عن ‏ابن لهيعة وذلك هو الأكثر‏ . ‏

والثاني‏ : تصحيف السمع ، نحو حديث ( ‏لعاصم الأحول ) رواه بعضهم فقال : " ‏عن واصل الأحدب‏ " فذكر ‏الدارقطني ‏‏ أنه من تصحيف السمع ، لا من تصحيف البصر ، كأنه ذهب - والله أعلم - إلى أن ذلك مما لا يشتبه من حيث الكتابة ، وإنما أخطأ فيه سمع من رواه‏ . ‏

وينقسم قسمة ثالثة‏ : إلى تصحيف اللفظ ، وهو الأكثر ، وإلى تصحيف يتعلق بالمعنى دون اللفظ ، كمثل ما سبق عن ‏محمد بن المثنى‏ في الصلاة إلى عنزة‏ . ‏

[ ص: 284 ] وتسمية بعض ما ذكرناه تصحيفا مجاز . ‏

وكثير من التصحيف المنقول عن الأكابر الجلة لهم فيه أعذار لم ينقلها ناقلوه ، ونسأل الله التوفيق والعصمة ، وهو أعلم‏ . ‏

التالي السابق


الخدمات العلمية