صفحة جزء
النوع الثالث عشر : معرفة الشاذ

روينا عن يونس بن عبد الأعلى قال : قال الشافعي رضي الله عنه : " ليس الشاذ من الحديث أن يروي الثقة ما لا يروي غيره ، إنما الشاذ أن يروي الثقة حديثا يخالف ما روى الناس " .

وحكى الحافظ أبو يعلى الخليلي القزويني نحو هذا عن الشافعي [ ص: 77 ] وجماعة من أهل الحجاز . ثم قال : " الذي عليه حفاظ الحديث أن الشاذ ما ليس له إلا إسناد واحد ، يشذ بذلك شيخ ثقة كان أو غير ثقة . فما كان عن غير ثقة فمتروك لا يقبل ، وما كان عن ثقة يتوقف فيه ولا يحتج به .

وذكر الحاكم أبو عبد الله الحافظ أن الشاذ هو الحديث الذي يتفرد به ثقة من الثقات ، وليس له أصل بمتابع لذلك الثقة . وذكر أنه يغاير المعلل من حيث إن المعلل وقف على علته الدالة على جهة الوهم فيه ، والشاذ لم يوقف فيه على علته كذلك .

قلت : أما ما حكم الشافعي عليه بالشذوذ فلا إشكال في أنه شاذ غير مقبول .

وأما ما حكيناه عن غيره فيشكل بما ينفرد به العدل الحافظ الضابط ، كحديث : " إنما الأعمال بالنيات " فإنه حديث فرد تفرد به عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم تفرد به عن عمر علقمة بن وقاص ، ثم عن علقمة محمد بن إبراهيم ، ثم عنه يحيى بن سعيد على ما هو الصحيح عند أهل الحديث .

[ ص: 78 ] وأوضح من ذلك في ذلك : حديث عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر : " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الولاء وهبته " . ، تفرد به عبد الله بن دينار .

وحديث مالك ، عن الزهري ، عن أنس : " أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعلى رأسه المغفر " . تفرد به مالك عن الزهري .

فكل هذه مخرجة في الصحيحين مع أنه ليس لها إلا إسناد واحد تفرد به ثقة . وفي غرائب الصحيح أشباه لذلك غير قليلة . وقد قال مسلم بن الحجاج : " للزهري نحو تسعين حرفا يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، لا يشاركه فيها أحد ، بأسانيد جياد " . والله أعلم .

فهذا الذي ذكرناه وغيره من مذاهب أئمة الحديث يبين لك أنه ليس الأمر في ذلك على الإطلاق الذي أتى به الخليلي والحاكم ، بل الأمر في ذلك على تفصيل نبينه فنقول :

[ ص: 79 ] إذا انفرد الراوي بشيء نظر فيه : فإن كان ما انفرد به مخالفا لما رواه من هو أولى منه بالحفظ لذلك ، وأضبط كان ما انفرد به شاذا مردودا ، وإن لم تكن فيه مخالفة لما رواه غيره ، وإنما هو أمر رواه هو ولم يروه غيره ، فينظر في هذا الراوي المنفرد : فإن كان عدلا حافظا موثوقا بإتقانه وضبطه قبل ما انفرد به ، ولم يقدح الانفراد فيه ، كما فيما سبق من الأمثلة ، وإن لم يكن ممن يوثق بحفظه وإتقانه لذلك الذي انفرد به كان انفراده به خارما له ، مزحزحا له عن حيز الصحيح .

ثم هو بعد ذلك دائر بين مراتب متفاوتة بحسب الحال فيه ، فإن كان المنفرد به غير بعيد من درجة الحافظ الضابط المقبول تفرده استحسنا حديثه ذلك ، ولم نحطه إلى قبيل الحديث الضعيف ، وإن كان بعيدا من ذلك رددنا ما انفرد به ، وكان من قبيل الشاذ المنكر .

فخرج من ذلك أن الشاذ المردود قسمان : أحدهما : الحديث الفرد المخالف ، والثاني : الفرد الذي ليس في راويه من الثقة والضبط ما يقع جابرا لما يوجبه التفرد والشذوذ من النكارة والضعف ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية