صفحة جزء
[ ص: 132 ] بيان أقسام طرق نقل الحديث وتحمله

ومجامعها ثمانية أقسام :

القسم الأول

السماع من لفظ الشيخ

وهو ينقسم إلى إملاء ، وتحديث من غير إملاء ، وسواء كان من حفظه أو من كتابه ، وهذا القسم أرفع الأقسام عند الجماهير .

وفيما نرويه عن القاضي عياض بن موسى السبتي - أحد المتأخرين المطلعين - قوله : " لا خلاف أنه يجوز في هذا أن يقول السامع منه : " حدثنا ، وأخبرنا ، وأنبأنا ، وسمعت فلانا يقول ، وقال لنا فلان ، وذكر لنا فلان " .

قلت : في هذا نظر ، وينبغي فيما شاع استعماله من هذه الألفاظ مخصوصا بما سمع من غير لفظ الشيخ - على ما نبينه إن شاء الله [ ص: 133 ] تعالى - أن لا يطلق فيما سمع من لفظ الشيخ لما فيه من الإيهام والإلباس ، والله أعلم .

وذكر الحافظ أبو بكر الخطيب أن أرفع العبارات في ذلك " سمعت " ثم " حدثنا وحدثني " ، فإنه لا يكاد أحد يقول : " سمعت " في أحاديث الإجازة والمكاتبة ، ولا في تدليس ما لم يسمعه .

وكان بعض أهل العلم يقول فيما أجيز له " حدثنا " ، وروي عن الحسن أنه كان يقول : " حدثنا أبو هريرة " ويتأول أنه حدث أهل المدينة ، وكان الحسن إذ ذاك بها إلا أنه لم يسمع منه شيئا .

قلت : ومنهم من أثبت له سماعا من أبي هريرة ، والله أعلم .

[ ص: 134 ] ثم يتلو ذلك قول : " أخبرنا " وهو كثير في الاستعمال ، حتى أن جماعة من أهل العلم كانوا لا يكادون يخبرون عما سمعوه من لفظ من حدثهم إلا بقولهم : " أخبرنا " ، منهم حماد بن سلمة ، وعبد الله بن المبارك ، وهشيم بن بشير ، وعبيد الله بن موسى ، وعبد الرزاق بن همام ، ويزيد بن هارون ، وعمرو بن عون ، ويحيى بن يحيى التميمي ، وإسحاق بن راهويه ، وأبو مسعود أحمد بن الفرات ، ومحمد بن أيوب الرازيان ، وغيرهم .

وذكر الخطيب عن محمد بن رافع قال : كان عبد الرزاق يقول : [ ص: 135 ] " ‏أنا‏ " حتى قدم أحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه ، فقالا له‏ : ‏قل‏ : " حدثنا " ، فكل ما سمعت مع هؤلاء قال‏ : " حدثنا " وما كان قبل ذلك قال‏ : " أنا‏ " . ‏

وعن ‏محمد بن أبي الفوارس الحافظ‏ قال‏ : هشيم ، ويزيد بن هارون ، وعبد الرزاق ، لا يقولون إلا " ‏أخبرنا " فإذا رأيت " ‏حدثنا " فهو من خطأ الكاتب ، والله أعلم‏ . ‏

قلت‏ : وكان هذا كله قبل أن يشيع تخصيص ( ‏أخبرنا ) بما قرئ على الشيخ ، ثم يتلو قول " ‏أخبرنا " قول " ‏أنبأنا‏ " ، و‏ " ‏نبأنا‏ " ، وهو قليل في الاستعمال‏ . ‏

قلت‏ : ( ‏حدثنا ، وأخبرنا‏ ) أرفع من ( ‏سمعت ) من جهة أخرى ، وهي أنه ليس في ( ‏سمعت ) دلالة على أن الشيخ رواه الحديث وخاطبه به ، وفي ( ‏حدثنا ، وأخبرنا‏ ) دلالة على أنه خاطبه به ورواه له ، أو هو ممن فعل به ذلك‏ . ‏

سأل ‏الخطيب أبو بكر الحافظ‏ شيخه أبا بكر البرقاني الفقيه الحافظ‏ - رحمهما الله تعالى - عن السر في كونه يقول فيما رواه لهم عن أبي القاسم عبد الله بن إبراهيم الجرجاني الآبندوني " ‏سمعت " ولا يقول " ‏حدثنا ، ولا ‏أخبرنا " فذكر له‏ : أن أبا القاسم كان مع ثقته وصلاحه عسرا في الرواية ، فكان البرقاني يجلس بحيث لا يراه أبو [ ص: 136 ] القاسم ، ولا يعلم بحضوره ، فيسمع منه ما يحدث به الشخص الداخل إليه‏ ، فلذلك يقول : " ‏سمعت " ، ولا يقول : " ‏حدثنا ، ولا أخبرنا " ، لأن قصده كان الرواية للداخل إليه وحده‏ . ‏

وأما قوله " ‏قال لنا فلان ، أو ذكر لنا فلان " فهو من قبيل قوله : " ‏حدثنا فلان " غير أنه لائق بما سمعه منه في المذاكرة ، وهو به أشبه من ( ‏حدثنا ) ‏‏ . ‏

وقد حكينا في فصل التعليق - عقيب النوع الحادي عشر - عن كثير من المحدثين استعمال ذلك معبرين به عما جرى بينهم في المذاكرات والمناظرات‏ . ‏

وأوضع العبارات في ذلك أن يقول‏ : " ‏قال فلان ، أو‏ : ذكر فلان " من غير ذكر قوله " ‏لي ، ولنا‏ " ونحو ذلك‏ . ‏

وقد قدمنا في فصل الإسناد المعنعن أن ذلك وما أشبهه من الألفاظ محمول عندهم على السماع ، إذا عرف لقاؤه له وسماعه منه على الجملة ، لا سيما إذا عرف من حاله أنه لا يقول : " ‏قال فلان " إلا فيما سمعه منه‏ . ‏

وقد كان حجاج بن محمد الأعور يروي عن ابن جريج كتبه ، ويقول فيها : " ‏قال ابن جريج " فحملها الناس عنه ، واحتجوا برواياته ، وكان قد عرف من حاله أنه لا يروي إلا ما سمعه‏ . ‏

[ ص: 137 ] وقد خصص الخطيب أبو بكر الحافظ‏ القول بحمل ذلك على السماع بمن عرف من عادته مثل ذلك ، والمحفوظ المعروف ما قدمنا ذكره‏ . ‏ والله أعلم‏ . ‏

التالي السابق


الخدمات العلمية