صفحة جزء
القسم الثاني

من أقسام الأخذ ، والتحمل‏ : القراءة على الشيخ .

وأكثر المحدثين يسمونها ( ‏عرضا‏ ) من حيث إن القارئ يعرض على الشيخ ما يقرؤه كما يعرض القرآن على المقرئ‏ . ‏

وسواء كنت أنت القارئ ، أو قرأ غيرك وأنت تسمع ، أو قرأت من كتاب ، أو من حفظك ، أو كان الشيخ يحفظ ما يقرأ عليه ، أو لا يحفظه لكن يمسك أصله هو أو ثقة غيره‏ . ‏

ولا خلاف أنها رواية صحيحة ، إلا ما حكي عن بعض من لا يعتد بخلافه ، والله أعلم‏‏‏‏ . ‏

واختلفوا في أنها‏‏ مثل السماع من لفظ الشيخ في المرتبة ، أو دونه ، أو فوقه ؟

فنقل عن أبي حنيفة ، و‏‏ابن أبي ذئب ، وغيرهما‏ ترجيح القراءة على الشيخ على السماع من لفظه‏ ، وروي ذلك عن مالك أيضا‏ . ‏

وروي عن مالك ، وغيره‏ : أنهما سواء‏ ، وقد قيل‏ : إن التسوية بينهما [ ص: 138 ] مذهب معظم علماء الحجاز ، والكوفة ، ومذهب مالك وأصحابه ، وأشياخه من علماء المدينة ، ومذهب البخاري ، وغيرهم‏ . ‏

والصحيح‏ : ترجيح السماع من لفظ الشيخ ، والحكم بأن القراءة عليه مرتبة ثانية‏ . ‏ وقد قيل‏ : إن هذا مذهب جمهور أهل المشرق ، والله أعلم‏‏‏‏ . ‏

وأما العبارة عنها عند الرواية بها فهي على مراتب‏ : أجودها وأسلمها أن يقول : ( ‏قرأت على فلان ، أو قرئ على فلان ، وأنا أسمع ، فأقر به‏ ) فهذا سائغ من غير إشكال‏ . ‏

ويتلو ذلك ما يجوز من العبارات في السماع من لفظ الشيخ مطلقة ، إذا أتى بها هاهنا مقيدة ، بأن يقول ( ‏حدثنا فلان قراءة عليه ، أو‏ : أخبرنا قراءة عليه‏ ) ونحو ذلك . ‏

وكذلك ( ‏أنشدنا قراءة عليه‏ ) في الشعر‏ . ‏

وأما إطلاق ( ‏حدثنا ، وأخبرنا‏ ) في القراءة على الشيخ ، فقد اختلفوا فيه على مذاهب‏ :

[ ص: 139 ] فمن أهل الحديث من منع منهما جميعا ، وقيل‏ : إنه قول ابن المبارك ، ويحيى بن يحيى التميمي ، وأحمد بن حنبل ، والنسائي ، وغيرهم‏ . ‏

ومنهم من ذهب إلى تجويز ذلك ، وأنه كالسماع من لفظ الشيخ في جواز إطلاق ( ‏حدثنا ، وأخبرنا ، وأنبأنا‏ ) ‏‏ . ‏ وقد قيل‏ : إن هذا مذهب معظم الحجازيين ، والكوفيين ، وقول الزهري ، ومالك ، وسفيان بن عيينة ، ويحيى بن سعيد القطان ، في آخرين من الأئمة المتقدمين ، وهو مذهب البخاري صاحب الصحيح في جماعة من المحدثين‏ . ‏

ومن هؤلاء من أجاز فيها أيضا أن يقول ( ‏سمعت فلانا‏ ) ‏‏ . ‏

والمذهب الثالث‏ : الفرق بينهما في ذلك ، والمنع من إطلاق ( ‏حدثنا ) ، وتجويز إطلاق ( ‏أخبرنا ) ، وهو مذهب الشافعي ، وأصحابه ، وهو منقول عن مسلم صاحب الصحيح ، وجمهور أهل المشرق‏ . ‏

وذكر صاحب ( كتاب الإنصاف‏ ) ‏محمد بن الحسن التميمي الجوهري المصري‏ : أن هذا مذهب الأكثر من أصحاب الحديث الذين لا يحصيهم أحد ، وأنهم جعلوا ( ‏أخبرنا ) علما يقوم مقام قول قائله‏ : " أنا قرأته عليه ، لا أنه لفظ به لي‏ " . ‏ قال : " وممن كان يقول به من أهل زماننا ‏أبو عبد الرحمن النسائي‏ ، في جماعة مثله من محدثينا‏ " . ‏

قلت‏ : وقد قيل‏ : إن أول من أحدث الفرق بين هذين اللفظين [ ص: 140 ] ابن وهب بمصر‏ . ‏

وهذا يدفعه أن ذلك مروي عن ‏ابن جريج ، و‏‏الأوزاعي ، حكاه عنهما ‏الخطيب أبو بكر‏ ، إلا أن يعني أنه أول من فعل ذلك بمصر ، والله أعلم‏‏‏‏ . ‏

قلت‏ : الفرق بينهما صار هو الشائع الغالب على أهل الحديث ، والاحتجاج لذلك من حيث اللغة عناء وتكلف‏ ، وخير ما يقال فيه‏ : إنه اصطلاح منهم أرادوا به التمييز بين النوعين ، ثم خصص النوع الأول بقول " ‏حدثنا " لقوة إشعاره بالنطق ، والمشافهة ، والله أعلم‏‏‏‏ . ‏

ومن أحسن ما يحكى عمن يذهب هذا المذهب ما حكاه ‏الحافظ أبو بكر البرقاني‏ ، عن ‏أبي حاتم محمد بن يعقوب الهروي‏ ، أحد رؤساء أهل الحديث بخراسان‏ : أنه قرأ على بعض الشيوخ عن الفربري صحيح البخاري‏ ، وكان يقول له في كل حديث : " ‏حدثكم الفربري " ، فلما فرغ من الكتاب سمع الشيخ يذكر‏ : أنه إنما سمع الكتاب من الفربري قراءة عليه ، فأعاد ‏أبو حاتم‏ قراءة الكتاب كله ، وقال له في جميعه : " أخبركم الفربري‏ " ‏‏ ، والله أعلم‏‏‏‏ . ‏

التالي السابق


الخدمات العلمية