صفحة جزء
[ ص: 136 ] كتاب الزكاة

ولا تجب إلا على الحر المسلم العاقل ( ف ) البالغ ( ف ) إذا ملك نصابا خاليا عن الدين فاضلا عن حوائجه الأصلية ملكا تاما في طرفي الحول ولا يجوز أداؤها إلا بنية مقارنة لعزل الواجب أو للأداء ؟ ومن تصدق بجميع ماله سقطت وإن لم ينوها ولا زكاة في المال الضمار ( ز ف ) ، وتجب في المستفاد المجانس ويزكيه مع الأصل وتجب في النصاب دون العفو ( م ز ) ، وتسقط بهلاك النصاب بعد الحول ( ف ) ، وإن هلك بعضه سقطت حصته ، ويجوز فيها دفع القيمة ويأخذ المصدق وسط المال ; ومن ملك نصابا فعجل الزكاة قبل الحول لسنة أو أكثر ، أو لنصب جاز ( ز ) .


[ ص: 136 ] كتاب الزكاة

وهي في اللغة : الزيادة ، يقال : زكا المال : إذا نما وازداد ، وتستعمل بمعنى الطهارة ، يقال : فلان زكي العرض : أي طاهره .

وفي الشرع : عبارة عن إيجاب طائفة من المال في مال مخصوص لمالك مخصوص ، وفيها معنى اللغة لأنها وجبت طهارة عن الآثام . قال تعالى : ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ) أو لأنها إنما تجب في المال النامي إما حقيقة أو تقديرا ; وسبب وجوبها ملك مال مقدر موصوف لمالك موصوف فإنه يقال زكاة المال . قال أبو بكر الرازي : تجب على التراخي ، ولهذا لا يجب الضمان بالتأخير ولو هلك . وعن الكرخي على الفور . وعن محمد ما يدل عليه ، فإنه قال : لا تقبل شهادة من لم يؤد زكاته ، وهي فريضة محكمة لا يسع تركها ، ويكفر جاحدها ، ثبتت فرضيتها بالكتاب وهو قوله تعالى : ( وآتوا الزكاة ) وقوله : ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ) وبالسنة وهو ما روينا من الحديث في الصلاة ، وعليه الإجماع .

قال : ( ولا تجب إلا على الحر المسلم العاقل البالغ ) لأن العبد لا ملك له ، والكافر غير [ ص: 137 ] مخاطب بالفروع لما عرف في الأصول ، والصبي والمجنون غير مخاطبين بالعبادات ، وهي من أعظم العبادات لأنها أحد مباني الإسلام وأركانه ولقوله - عليه الصلاة والسلام - : ( رفع القلم عن ثلاث : عن الصبي حتى يحتلم ، وعن المجنون حتى يفيق ، وعن النائم حتى يستيقظ ) . وقال علي - رضي الله عنه - : لا تجب عليه الزكاة حتى تجب عليه الصلاة .

قال : ( إذا ملك نصابا خاليا عن الدين فاضلا عن حوائجه الأصلية ملكا تاما في طرفي الحول ) أما الملك فلأنها لا تجب في مال لا مالك له كاللقطة . وأما النصاب فلأنه - عليه الصلاة والسلام - قدره به ، فقال - عليه الصلاة والسلام - : " ليس في أقل من مائتي درهم صدقة " وكذا ورد في سائر النصب . وأما خلوه عن الدين فلأن المشغول بالدين مشغول بالحاجة الأصلية ؛ لأن فراغ ذمته من الدين الحائل بينه وبين الجنة أهم الحوائج ، فصار كالطعام والكسوة ، ولأن الملك ناقص لأن للغريم أخذه منه بغير قضاء ولا رضى والزكاة وجبت شكرا للنعمة الكاملة ، ولأن الله جعله مصرفا للزكاة بقوله : ( والغارمين ) وبين وجوبها عليه وجواز أخذها تناف وصار كالمكاتب ، وإن كان له نصاب فاضل عن الدين زكاه لعدم المانع ، والمراد دين له مطالب من جهة العباد ، وما لا مطالب له من جهة العباد لا يمنع كالكفارات والنذور ووجوب الحج ونحوه ، والنفقة ما لم يقض بها لا تمنع ، لأنها ليست في حكم الدين ، فإذا قضي بها صارت دينا فمنعت .

واختلفوا في دين الزكاة . قال زفر : لا يمنع في الأموال الباطنة ؛ لأنه لا مطالب له من جهة العباد لأن الأداء للمالك . وقال أبو يوسف : إن كان الدين في الذمة بأن استهلك مال الزكاة بعد الحول ، وبقي في ذمته ، وملك مالا آخر ، فإنه تجب عليه الزكاة ، ولا يمنع ما في ذمته من الوجوب ، ولو كان الدين في العين كمن له نصاب فمضى عليه سنون ، فإنه لا تجب عليه الزكاة لجميع ما مضى من السنين خلافا لزفر ; وعندهما لا تجب الزكاة في الفصلين ، ويمنع الدين سواء كان في الذمة أو في العين ؛ لأن الأخذ كان للإمام ، وعثمان - رضي الله عنه - فوضه إلى الملاك ، وذلك لا يسقط حق طلب الإمام حتى لو علم أن أهل بلدة لا يؤدون زكاتهم طالبهم بها ، ولو مر بها على [ ص: 138 ] الساعي كان له أخذها ، فكان له مطالب من جهة العباد فيمنع ، والدين المعترض في خلال الحول يمنع عند محمد خلافا لأبي يوسف . والمهر يمنع مؤجلا كان أو معجلا ; وقيل يمنع المعجل دون المؤجل .

وقوله : فائضا عن حوائجه الأصلية ؛ لأن قوله - عليه الصلاة والسلام - : " المرء أحق بكسبه " وقوله - عليه الصلاة والسلام - : " ابدأ بنفسك " يدل على وجوب تقدم حوائجه الأصلية وهي : دور السكنى ، وثياب البدن ، وأثاث المنزل ، وسلاح الاستعمال ، ودواب الركوب ، وكتب الفقهاء ، وآلات المحترفين وغير ذلك مما لا بد منه في معاشه .

وأما الملك التام فاحتراز عن ملك المكاتب لأن الزكاة وجبت شكرا للنعمة الكاملة ، وأنها نعمة ناقصة ، ولما روى جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " ليس في مال المكاتب زكاة حتى يعتق ) وقوله في طرفي الحول ؛ لأن الحول لا بد منه . قال - عليه الصلاة والسلام - : ( لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول " .

ولأنه لا بد من التمكن من التصرف في النصاب مدة يحصل منه النماء ، فقدرناه بالحول لاشتماله على الفصول الأربعة التي تتغير فيها الأسعار غالبا ، ثم لا بد من اعتبار كمال النصاب في أول الحول للانعقاد ، وفي آخره لوجوب الأداء ، وما بينهما حالة البقاء فلا اعتبار بها ؛ لأن في اعتبارها حرجا عظيما ، فإن بالتصرفات في النفقات يتناقص ويزداد في كل وقت ، فيسقط اعتباره دفعا لهذا الحرج .

قال : ( ولا يجوز أداؤها إلا بنية مقارنة لعزل الواجب أو للأداء ) لأن النية لا بد منها لأداء العبادات على ما مر في الصلاة .

والزكاة تؤدى متفرقا ، فربما يحرج في النية عند أداء كل دفعة ، فاكتفينا بالنية عند العزل تسهيلا وتيسيرا .

قال : ( ومن تصدق بجميع ماله سقطت وإن لم ينوها ) والقياس أن لا تسقط وهو قول زفر لعدم النية . وجه الاستحسان أن الواجب جزء النصاب . قال - عليه الصلاة والسلام - : " في الرقة ربع [ ص: 139 ] العشر " .

وقال - عليه الصلاة والسلام - : " في عشرين مثقالا نصف مثقال " إلى غيره من النصوص ، والركن هو التمليك على وجه المبرة ، وقد وجد لحصول أداء الواجب قطعا ؛ لأنه لما أدى الكل فقد أدى الجزء ، والنية شرطت للتعيين ، والواجب قد تعين بإخراج الكل ، ولو تصدق بالبعض سقطت زكاة ذلك البعض عند محمد خلافا لأبي يوسف .

قال : ( ولا زكاة في المال الضمار ) وهو المال الضائع والساقط في البحر ، والمدفون في المفازة إذا نسي المالك مكانه ، والعبد الآبق والمغصوب ، والدين المجحود إذا لم يكن عليهما بينة ، والمودع عند من يعرفه ونحو ذلك ، والمدفون في البستان والأرض فيه اختلاف الروايات ، والمدفون بالبيت ليس بضمار . وقال زفر : تجب الزكاة في الضمار لإطلاق النصوص ، والسبب متحقق وهو الملك ، ولا يضره زوال اليد كابن السبيل . ولنا قول علي - رضي الله عنه - مرفوعا وموقوفا : " لا زكاة في المال الضمار " وقيل لعمر بن عبد العزيز - لما رد الأموال على أصحابها - أفلا تأخذ منهم زكاتها لما مضى ؟ قال : لا إنها كانت ضمارا . والعبادات لا مدخل للقياس والعقل في إيجابها وإسقاطها فكان توقيفا ، ولأنه مال غير نام ؛ لأن النماء بالاستنماء غالبا وهو عاجز ، بخلاف ابن السبيل لأنه قادر بنائبه .

قال : ( وتجب في المستفاد المجانس ويزكيه مع الأصل ) وهو ما يستفيده بالهبة أو الإرث أو الوصية لقوله - عليه الصلاة والسلام - : ( اعلموا أن من السنة شهرا تؤدون فيه الزكاة ، فما حدث بعد ذلك فلا زكاة فيه حتى يجيء رأس السنة ) وهذا يدل على أن وقت وجوب الأصل والحادث واحد ، وهو مجيء رأس السنة ، وهذا راجح على ما يروى : ( لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول ) لأنه عام ، وما رويناه خاص في المستفاد ، أو يحمل على ما رواه على غير المجانس عملا بالحديثين ، [ ص: 140 ] ولأن في اشتراط الحوض لكل مستفاد مشقة وعناء ، فإن المستفادات قد تكثر فيعسر عليه مراقبة ابتداء الحول وانتهائه لكل مستفاد والحوض للتيسير ، وصار كالأولاد والأرباح ; أما المستفاد المخالف لا يضم بالإجماع .

قال : ( وتجب في النصاب دون العفو ) وقال محمد وزفر فيهما .

وصورته لو كان له ثمانون من الغنم فهلك منها أربعون فعليه شاة عند أبي حنيفة وأبي يوسف ، وعند محمد وزفر نصف شاة .

ولو كان له تسع من الإبل هلك منها أربع فعليه شاة ، وعند محمد خمسة أتساع شاة . لمحمد وزفر : أن العفو مال نام ونعمة كاملة ، فتجب الزكاة بسببه شكرا للنعمة والمال النامي . ولنا قوله - عليه الصلاة والسلام - : " في خمس من الإبل السائمة شاة ، وليس في الزيادة شيء حتى يكون عشرا " وهذا صريح في نفي الوجوب في العفو ، ولأنه تبع للنصاب فينصرف الهلاك إليه كالربح في المضاربة .

قال : ( وتسقط بهلاك النصاب بعد الحول ، وإن هلك بعضه سقطت حصته ) لأن الواجب جزء النصاب لما مر ، فكان النصاب محلا للزكاة ; والشيء لا يبقى بعد محله كالعبد الجاني إذا مات ولم يوجد الطلب لأنها ليست لفقير بعينه ، حتى لو امتنع بعد طلب الساعي يضمن على قول الكرخي لأنها أمانة فتضمن بالهلاك بعد الطلب كالوديعة .

وقال عامة المشايخ : لا تضمن ؛ لأن المالك إن شاء دفع العين ، وإن شاء دفع القيمة من النقدين والعروض وغير ذلك ، فكان له أن يؤخر الدفع ليحصل العوض ، وأما بالاستهلاك فقد تعدى فيضمن عقوبة له .

قال : ( ويجوز فيها دفع القيمة ) وكذا في الكفارات والنذور وصدقة الفطر والعشور لقوله تعالى : خذ من أموالهم صدقة وهذا نص على أن المراد بالمأخوذ صدقة ، وكل جنس يأخذه [ ص: 141 ] فهو صدقة : ( ورأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في إبل الصدقة ناقة كوماء فغضب وقال : ألم أنهاكم عن أخذ كرائم أموال الناس ) ؟ فقال المصدق : إني ارتجعتها ببعيرين فسكت . وأنه صريح في الباب .

وقول معاذ لأهل اليمن حين بعثه - صلى الله عليه وسلم - إليهم : ائتوني بخميس أو لبيس مكان الذرة والشعير ، فإنه أيسر عليكم ، وأنفع لمن بالمدينة من المهاجرين والأنصار " وكان يأتي به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا ينكر عليه .

وأما قوله - عليه الصلاة والسلام - : " خذ من الإبل الإبل " الحديث ، فهو محمول على التيسير ؛ لأن أداء هذه الأجناس على أصحابها أسهل ، وأيسر من غيرها من الأجناس ; والفقه فيه أن المقصود إيصال الرزق الموعود إلى الفقير وقد حصل . قال - عليه الصلاة والسلام - : " إن الله تعالى فرض على الأغنياء قوت الفقراء وسماه زكاة " وصار كالجزية بخلاف الهدايا والضحايا ؛ لأن إراقة الدم غير معقولة المعنى .

قال : " ويأخذ المصدق وسط المال " لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " خذ من حواشي أموالهم " أي الوسط ، ولأن أخذ الجيد إضرار برب المال ، وأخذ الرديء إضرار بالفقراء ، فقلنا بالوسط تعديلا بينهما ، ولا يأخذ الربي ولا الماخض ، ولا فحل الغنم ، ولا الأكولة لما ذكرنا ، ولقوله - عليه الصلاة والسلام - : " إياكم وكرائم أموال الناس " وقال عمر - رضي الله عنه - : عد عليهم السخلة ولو جاء بها الراعي على يديه ، ألسنا تركنا الربي والأكولة والماخض وفحل الغنم ؟ .

قال : ( ومن ملك نصابا فعجل الزكاة قبل الحول لسنة أو أكثر أو لنصب جاز ) لما روي أنه [ ص: 142 ] - عليه الصلاة والسلام - استسلف العباس زكاة عامين ، ولأنه أدى بعد السبب وهو المال . والحول الأول وما بعده سواء ، بخلاف ما قبل إتمام النصاب لأنه أدى قبل السبب فلا يجوز كغيره من العبادات ، ولأن النصاب الأول سبب لوجود الزكاة فيه وفي غيره من النصب ، ألا يرى أنها تضم إليه فكانت تبعا له . وقال زفر : إذا أدى عن نصب لا يجزيه إلا عن النصاب الذي في ملكه ؛ لأنه أدى قبل السبب وهو الملك ، ولنا ما بينا ، ولأن المستفاد تبع الأصل في حق الوجوب ، فيكون تبعا في حكم الحول أيضا ، فكأن الحول حال على الجميع .

فصل

ومن امتنع من أداء الزكاة أخذها الإمام كرها ووضعها موضعها ، لقوله تعالى : خذ من أموالهم وقوله - عليه الصلاة والسلام - : " خذها من أغنيائهم " وهذا لأن حق الأخذ كان للإمام في الأموال الظاهرة والباطنة إلى زمان عثمان - رضي الله عنه - بهذه النصوص ، ففوضها في الأموال الباطنة إلى أربابها مخافة تفتيش الظلمة إلى أموال الناس ، فصار أرباب الأموال كالوكلاء عن الإمام ، فإذا علم أنهم لا يؤدون طالبهم بها ; وما أخذه الخوارج والبغاة من الزكاة لا يثنى عليهم لأنه عجز عن حمايتهم ، والجباية بالحماية ، ويفتى أهلها بالإعادة فيما بينهم وبين الله تعالى لعلمنا أنهم لم يأخذوها بطريق الصدقة ولا يصرفونها مصارفها .

واختلف المتأخرون فيما يأخذه الظلمة من السلاطين في زماننا . قال مشايخ بلخ : يفتون بالإعادة كالمسألة الأولى . وقال أبو بكر الأعمش : يفتون بإعادة الصدقة لأنها حق الفقراء ولا يصرفونها إليهم ، ولا يفتون في الخراج لأنه حق المقاتلة وهم منهم حتى لو ظهر على الإسلام عدو قاتلوه .

قال شمس الأئمة السرخسي : الأصح أن أرباب الأموال إذا نووا عند الدفع التصدق عليهم سقط عنهم جميع ذلك ، وكذا جميع ما يؤخذ من الرجل من الجبايات والمصادرات ؛ لأن ما بأيديهم أموال الناس ، وما عليهم من التبعات فوق مالهم ، فهم بمنزلة الغارمين والفقراء ، حتى قال محمد بن سلمة : يجوز أخذ الصدقة لعلي بن عيسى بن ماهان والي خراسان . ومن مات وعليه زكاة أو صدقة فطر لم يؤخذ من تركته ، وإن تبرع به الورثة جاز ، وإن أوصى به يعتبر من ثلثه لأنها [ ص: 143 ]

عبادة ، فلا تتأدى إلا به أو بنائبه تحقيقا لمعنى العبادة ؛ لأن العبادة شرعت للابتلاء ليتبين الطائع من العاصي ، وذلك لا يتحقق بغير رضاه وقصده ، ولأنه مأمور بالإيتاء ، ولا يتحقق من غيره إلا أن يكون نائبا عنه لقيامه مقامه ، بخلاف الوارث لأنه يخلفه جبرا ، وقضية هذا أنه لا يجوز أداء وارثه عنه إلا أنا جوزناه استحسانا ، وقلنا بسقوطه عنه بأداء الوارث ، لحديث الخثعمية حيث قال - عليه الصلاة والسلام - : " فدين الله أولى " .

التالي السابق


الخدمات العلمية