صفحة جزء
[ ص: 159 ] باب مصارف الزكاة

وهم الفقير وهو الذي له أدنى شيء ، والمسكين الذي لا شيء له ، والعامل على الصدقة يعطى بقدر عمله ، ومنقطع الغزاة والحاج ، والمكاتب يعان في فك رقبته ، والمديون الفقير ، والمنقطع عن ماله ، وللمالك أن يعطي جميعهم ، وله أن يقتصر على أحدهم ، ولا يدفعها إلى ذمي ولا إلى غني ، ولا إلى ولد غني صغير ، ولا مملوك غني ، ولا إلى من بينهما قرابة ولاد أعلى أو أسفل ، ولا إلى زوجته ، ولا إلى مكاتبه ، ولا إلى هاشمي ، ولا إلى مولى هاشمي ، وإن أعطى فقيرا واحدا نصابا أو أكثر جاز ( ز ) ويكره ، وإن كان عبده أو مكاتبه لم يجزه ، ويكره نقلها إلى بلد آخر إلا إلى قرابته أو من هو أحوج من أهل بلده .


باب مصارف الزكاة

والذين ذكرهم الله تعالى في قوله : ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين ) الآية ، إلا المؤلفة قلوبهم ، فإن الله تعالى أعز الإسلام وأغنى عنهم ، ومنعهم عمر - رضي الله عنه - في زمن أبي بكر - رضي الله عنه - وقال : لا نعطي الدنية في ديننا ، ذلك شيء كان يعطيكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تألفا لكم ، أما اليوم فقد أعز الله الدين ، فإن ثبتم على الإسلام وإلا فبيننا وبينكم السيف ، ووافقه على ذلك أبو بكر والصحابة فكان إجماعا .

قال : ( والفقير وهو الذي له أدنى شيء ، والمسكين الذي لا شيء له ) وروى أبو يوسف [ ص: 160 ] عن أبي حنيفة : الفقير : الذي لا يسأل ، والمسكين : الذي يسأل .

وروى الحسن عن أبي حنيفة عكس ذلك ؛ لأن الفقير بالمسألة يظهر افتقاره وحاجته ، والمسكين به زمانة لا يسأل ، فالحاصل أن المسكين أسوأ حالا من الفقير ، وفائدة الخلاف تظهر في الأوقاف عليهم والوصايا لهم دون الزكاة .

قال : ( والعامل على الصدقة يعطى بقدر عمله ) ما يسعه وأعوانه زاد على الثمن أو نقص ؛ لأنه فرغ نفسه للعمل للفقراء ، فيكون كفايته في مالهم كالمقاتلة والقاضي ، وليس ذلك بالإجازة لأنه عمل غير معلوم ، ويحل للغني دون الهاشمي لما فيها من شبهة الوسخ ، والهاشمي أولى بالكرامة والتنزه عن الوسخ فلا يقاس عليه الغني ، ولو هلكت الزكاة في يد العامل سقط أجره لأن حقه فيما أخذ وأجزأت من أخذ منه لأنه نائب عن الإمام والفقراء .

قال : ( ومنقطع الغزاة والحاج ) وهم المراد بقوله : ( وفي سبيل الله ) وقال أبو يوسف : هم فقراء الغزاة لا غير ؛ لأنه المفهوم عند إطلاق هذا اللفظ . ولمحمد : أن رجلا جعل بعيرا له في سبيل الله ، فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحمل عليه الحاج ، ولأنه في سبيل الله تعالى لما فيه من امتثال أوامره وطاعته ومجاهدة النفس التي هي عدو لله تعالى .

قال : ( والمكاتب يعان في فك رقبته ) وهو المراد بقوله : ( وفي الرقاب ) هكذا ذكره المفسرون ، قالوا : لا يجوز دفعها إلى مكاتب هاشمي ؛ لأن الملك يقع للمولى . وذكر أبو الليث : لا يدفع إلى مكاتب غني ، وإطلاق النص يقتضي الكل وهو الصحيح .

قال : ( والمديون الفقير ) وهو المراد بقوله تعالى : ( والغارمين ) وإطلاق الآية يقتضي جواز الصرف إلى مطلق المديون إلا أنه قام الدليل ، وهو قوله - عليه الصلاة والسلام - : " لا تحل الصدقة لغني " على أنه لا يجوز صرفها إلى من يملك نصابا فاضلا عما عليه .

[ ص: 161 ] قال : ( والمنقطع عن ماله ) وهو ابن السبيل لأنه لا يتوصل إلى الانتفاع بماله فكان كالفقير ، فهو فقير حيث هو غني حيث ماله ، وإن كانت زوجته عنده فلها نفقة الفقراء ، وإن كانت حيث ماله فلها نفقة الأغنياء .

قال : ( وللمالك أن يعطي جميعهم ) ولا خلاف فيه .

( وله أن يقتصر على أحدهم ) لأن الزكاة حق الله تعالى وهو الآخذ لها . قال تعالى : ( ويأخذ الصدقات ) . وقال - عليه الصلاة والسلام - : ( إن الصدقة تقع في يد الرحمن قبل أن تقع في يد السائل ) الحديث ، وإضافته إليهم بحرف اللام لبيان أنهم مصارف لا لبيان أنهم المستحقون لها ، وبعلة الفقر والحاجة صاروا مصارف ، والمقصود هو إغناء الفقير ، وسد خلة المحتاج .

قال - عليه الصلاة والسلام - : " خذها من أغنيائهم وردها على فقرائهم " ولهذا لا يجوز الصرف إلى الأغنياء من هذه الأصناف فعلم أن المراد دفع الحاجة ، وهو معنى يعم الكل ، وذلك حاصل بالدفع إلى البعض ، بخلاف العامل لأنه لا يأخذه صدقة بل عوضا عن عمله .

قال : ( ولا يدفعها إلى ذمي ) لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " أمرت أن آخذها من أغنيائكم وأردها على فقرائكم " ويدفع إليه غيرها من الصدقات كالنذور والكفارات وصدقة الفطر . وقال أبو يوسف : لا يجوز كالزكاة .

ولنا أن المذكور مطلق الفقراء إلا أنه خص في الزكاة بالحديث فبقي ما وراءه على الأصل ، ولا يجوز دفع شيء من ذلك إلى الحربي ، لقوله تعالى : ( إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم ) الآية ، ولا يجوز دفع شيء من العشر إلى الذمي أيضا كالزكاة وعليه الإجماع .

قال : ( ولا إلى غني ) لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " لا تحل الصدقة لغني " .

[ ص: 162 ] قال : ( ولا إلى ولد غني صغير ) لأنه يعد غنيا بغنى أبيه عرفا حتى لا تجب نفقته إلا على الأب ، بخلاف الكبير فإنه لا يعد غنيا بغنى أبيه حتى تجب نفقته على ابنه لا على أبيه .

قال : ( ولا مملوك غني ) لأن الملك يقع لمولاه .

قال : ( ولا إلى من بينهما قرابة ولاد أعلى أو أسفل ) كالأب والجد والأم والجدة من الجانبين ، والولد وولد الولد وإن سفل ، وهذا بالإجماع ؛ لأن الجزئية ثابتة بينهما من الجانبين حتى لا تجوز شهادة أحدهما للآخر ، ولا يقطع بسرقة ماله ، فلا يتم الإيتاء المشروط في الزكاة إلا بانقطاع منفعة المؤتي عما أتى والمنافع بينهم متصلة .

( ولا إلى زوجته ) لأن المنافع بينهم متصلة ، ويعد غنيا بمال زوجته . قال تعالى : ( ووجدك عائلا فأغنى " قالوا : بمال خديجة - رضي الله عنها - وكذلك الزوجة لا تدفع إلى زوجها لأنها تعد غنية باعتبار ما لها عليه من النفقة والكسوة ، ولأنهما أصل الولاد ، وما يتفرع من هذا الأصل يمنع صرف الزكاة فكذا الأصل ، ولهذا يرث كل واحد منهما من الآخر من غير حجب كقرابة الولاد . وقال أبو يوسف ومحمد : تدفع إلى زوجها ، لقوله عليه الصلاة والسلام لزينب امرأة ابن مسعود وقد سألته عن التصدق على زوجها : " لك أجران : أجر الصدقة ، وأجر الصلة " . قلنا : هو محمول على صدقة التطوع لما بينا من اتصال المنافع بينهما وذلك جائز عنده .

قال : ( ولا إلى مكاتبه ) لأنه ملكه من وجه فلم يتحقق الإيتاء المشروط .

قال : ( ولا إلى هاشمي ) لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " يا بني هاشم إن الله حرم عليكم أوساخ الناس وعوضكم عنها بخمس الخمس " وهم : آل عباس ، وآل علي ، وآل عقيل ، وآل جعفر ، وآل الحارث بن عبد المطلب ، لأنهم ينتسبون إلى هاشم بن عبد مناف ، ولأن هؤلاء المستحقون لخمس الخمس ، وهو سهم ذوي القربى دون غيرهم من الأقارب ، فالله تعالى حرم الصدقة على فقرائهم [ ص: 163 ] وعوضهم بخمس الخمس ، فيختص تحريم الصدقة بهم ، ويبقى من سواهم من الأقارب كالأجانب فتحل للصدقة ، وكذلك الحكم فيما سوى الزكاة من الصدقات الواجبات كصدقة الفطر والكفارات والعشور والنذور وغير ذلك ، لأنها في معنى الزكاة ، فإنه يطهر نفسه بأداء الواجب وإسقاط الفرض ، فيتدنس المؤدى كالماء المستعمل ، بخلاف صدقة التطوع حيث تحل للهاشمي لأنها لا تدنس كالوضوء للتبرد .

قال : ( ولا إلى مولى هاشمي ) لقوله - صلى الله عليه وسلم - لمولاه أبي رافع وقد سأله عن ذلك : فإن الصدقة محرمة على محمد وعلى آل محمد ، وإن مولى القوم منهم . وذكر بعض أصحابنا : يجوز للهاشمي أن يدفع زكاة ماله إلى الهاشمي عند أبي حنيفة ، خلافا لأبي يوسف ; ووجهه أن المراد بقوله أوساخ الناس غيرهم هو المفهوم من مثله ، فيقتضي حرمة زكاة غيرهم عليهم لا غير . وذكر في المنتقى عن أبي عصمة عن أبي حنيفة أن الصدقة تحل لبني هاشم ، وفقيرهم فيها كفقير غيرهم ، ووجهه أن عوضها وهو خمس الخمس لم يصل إليهم لإهمال الناس أمر الغنائم وقسمتها وإيصالها إلى مستحقها ، وإذا لم يصل إليهم العوض عادوا إلى المعوض ، عملا بمطلق الآية سالما عن معارضة أخذ العوض ، وكما في سائر المعاوضات ، ولأنه إذا لم يصل إليهم واحد منهما هلكوا جوعا ، فيجوز لهم ذلك دفعا للضرر عنهم .

واعلم أن التمليك شرط . قال تعالى : ( وآتوا الزكاة ) والإيتاء : الإعطاء ; والإعطاء : التمليك ، فلا بد فيها من قبض الفقير أو نائبه كالوصي والأب ومن يكون الصغير في عياله قريبا كان أو أجنبيا ، وكذلك الملتقط للقيط ؛ لأن التمليك لا يتم بدون القبض ولا يبنى بها مسجد ولا سقاية ولا قنطرة ولا رباط ، ولا يكفن بها ميت ، ولا يقضى بها دين ميت ، ولا يشترى بها رقبة تعتق لعدم التمليك ; ولو قضى بها دين فقير جاز ، ويكون القابض كالوكيل عن الفقير .

قال : ( وإن أعطى فقيرا واحدا نصابا أو أكثر جاز ويكره ) وقال زفر : لا يجوز لمقارنة الأداء الغنى فيمنع وقوعه زكاة . ولنا أن الغنى يتعقب الأداء لحصوله بالقبض والقبض بعد الأداء ، إلا أنه قريب منه فيكره كمن صلى قريبا من النجاسة .

ومن المشايخ من قال : إن كان عليه دين لو قضاه بقي معه أقل من نصاب ، أو كان له عيال [ ص: 164 ] لو فرق عليهم أصاب كل واحد دون النصاب لا يكره لأنه أعطاه سهما من ذلك .

قال : ( ويجوز دفعها إلى من يملك دون النصاب وإن كان صحيحا مكتسبا ) لأنه فقير .

واعلم أن الغني على مراتب ثلاثة : غني يحرم عليه السؤال ، ويحل له أخذ الزكاة ، وهو أن يملك قوت يومه وستر عورته ; وكذلك الحكم فيمن كان صحيحا مكتسبا ، لقوله - عليه الصلاة والسلام - : ( من سأل عن ظهر غنى فإنه يستكثر من جمر جهنم " ، قيل : يا رسول الله ، وما ظهر غنى ؟ قال : ( أن يعلم أن عند أهله ما يغديهم ويعشيهم " وغني يحرم عليه السؤال والأخذ ويوجب عليه صدقة الفطر والأضحية ، وهو أن يملك ما قيمته نصاب فاضلا عن الحوائج الأصلية من غير أموال الزكاة كالثياب والأثاث والعقار والبغال والحمير ونحوه .

قال - عليه الصلاة والسلام - : " لا تحل الصدقة لغني " ، قيل : ومن الغني ؟ قال : " من له مائتا درهم " وغني يحرم عليه السؤال والأخذ ، ويوجب عليه صدقة الفطر والأضحية ، ويوجب عليه أداء الزكاة ، وهو ملك نصاب كامل نام على ما بيناه .

قال : ( ولو دفعها إلى من ظنه فقيرا فكان غنيا أو هاشميا ) أو حربيا أو ذميا .

( أو دفعها في ظلمة فظهر أنه أبوه أو ابنه أجزأه ) وقال أبو يوسف : لا يجزيه لأنه تبين خطؤه بيقين ، فصار كالماء إذا ظهر أنه نجس بعد استعماله .

ولنا أنه أتى بما وجب عليه ؛ لأن الواجب عليه الدفع إلى من هو فقير في اجتهاده لأنه لا يمكن الوقوف على الحقيقة ، فقد يكون في يد الإنسان مال لغيره أو مغصوب أو عليه دين ، فإذا أعطاه بعد الاجتهاد أجزأه كما إذا أخطأ القبلة بعد الاجتهاد ، ولحديث معاذ بن يزيد قال : دفع أبي صدقته إلى رجل ليفرقها على المساكين فأعطاني ، فلما علم أبي أراد أخذه مني فلم أعطه ، فاختصمنا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : " يا معاذ ، لك ما أخذت ، ويا يزيد ، لك ما نويت " .

[ ص: 165 ] قال : ( وإن كان عبده أو مكاتبه لم يجزه ) لأنه لم يخرج عن ملكه خروجا صحيحا ، وهذا بالإجماع .

قال : ( ويكره نقلها إلى بلد آخر ) لما تقدم من حديث معاذ ، ولأن لفقراء بلده حكم القرب والجوار ، وقد اطلعوا على أموالهم وتعلقت بهم أطماعهم ، فكان الصرف إليهم أولى .

قال : ( إلا إلى قرابته ) لما فيه من صلة الرحم مع سقوط الفرض .

( أو من هو أحوج من أهل بلده ) لحديث معاذ ، فإنه كان ينقل الصدقة من اليمن إلى المدينة ؛ لأن فقراء المدينة أحوج وأشرف ، ولو نقل إلى غيرهم جاز لإطلاق النصوص .

التالي السابق


الخدمات العلمية