صفحة جزء
[ ص: 184 ] باب الاعتكاف

الاعتكاف سنة مؤكدة ، ولا يجوز أقل من يوم ، وهذا في الواجب وهو المنذور باتفاق أصحابنا وهو اللبث في مسجد جماعة مع الصوم والنية ، والمرأة تعتكف في مسجد بيتها ، ويشترط في حقها ما يشترط في حق الرجل في المسجد ، ولا يخرج من معتكفه إلا لحاجة الإنسان أو الجمعة ، فإن خرج لغير عذر ساعة ( سم ) فسد ، ويكره له الصمت ، ولا يتكلم إلا بخير ، ويحرم عليه الوطء ودواعيه ، فإن جامع ليلا أو نهارا عامدا أو ناسيا بطل ، ومن أوجب على نفسه اعتكاف أيام لزمته بلياليها متتابعة ، ولو نوى النهار خاصة صدق ، ويلزم بالشروع .


[ ص: 184 ] باب الاعتكاف

وهو في اللغة : المقام والاحتباس ، قال تعالى : ( سواء العاكف فيه والباد ) وفي الشرع : عبارة عن المقام في مكان مخصوص وهو المسجد بأوصاف مخصوصة من النية والصوم وغيرهما على ما يأتي إن شاء الله .

قال : ( الاعتكاف سنة مؤكدة ) لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - واظب عليه . روى أبو هريرة وعائشة أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان منذ قدم المدينة إلى أن توفاه الله تعالى . وعن الزهري أنه - عليه الصلاة والسلام - ما ترك الاعتكاف حتى قبض ، وهو من أشرف الأعمال إذا كان عن إخلاص . قال عطاء : مثل المعتكف كرجل له حاجة إلى عظيم فيجلس على بابه ، ويقول : لا أبرح حتى تقضي حاجتي ، فكذلك المعتكف يجلس في بيت الله ، ويقول : لا أبرح حتى يغفر لي .

قال : ( ولا يجوز أقل من يوم ، وهذا في الواجب وهو المنذور باتفاق أصحابنا ) لأن الصوم من شرطه ، ولا صوم أقل من يوم ، فلا اعتكاف أقل من يوم ضرورة . وكذلك النفل عند أبي حنيفة لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " لا اعتكاف إلا بالصوم " روته عائشة . وعن أبي يوسف : يجوز أكثر النهار اعتبارا للأكثر بالكل . وعن محمد : ساعة ؛ لأن مبنى النفل على المسامحة ، ألا ترى أنه يجوز التطوع قاعدا مع القدرة على القيام ولا كذلك الواجب .

قال : ( وهو اللبث في مسجد جماعة مع الصوم والنية ) أما اللبث فلأنه ينبئ عنه ، وأما كونه في مسجد جماعة لقوله تعالى : ( وأنتم عاكفون في المساجد ) . وقال حذيفة : سمعت [ ص: 185 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " كل مسجد له إمام ومؤذن فإنه يعتكف فيه ) . وقال حذيفة : لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة ، ولأن المعتكف ينتظر الصلاة فيختص بمكان تؤدى فيه الجماعة ، فكلما كان المسجد أعظم فالاعتكاف فيه أفضل . وأما الصوم فلما تقدم ، ولما روي أنه - عليه الصلاة والسلام - ما اعتكف إلا صائما ، والله - تعالى - شرعه لقوله : ( وأنتم عاكفون في المساجد ) ولم يبين كيفيته ، فكان فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - بيانا له ؛ لأنه لو جاز بغير صوم لبينه - عليه الصلاة والسلام - قولا أو فعلا ولم ينقل فدل على أنه غير جائز . وأما النية فلأنه عبادة فلا بد من النية لما تقدم .

قال : ( والمرأة تعتكف في مسجد بيتها ) وهو الموضع الذي أعدته للصلاة .

( ويشترط في حقها ما يشترط في حق الرجل في المسجد ) لأن الرجل لما كان اعتكافه في موضع صلاته وكانت صلاتها في بيتها أفضل كان اعتكافها فيه أفضل ، قال - صلى الله عليه وسلم - : " صلاة المرأة في مخدعها أفضل من صلاتها في مسجد بيتها ، وصلاتها في مسجد بيتها أفضل من صلاتها في صحن دارها ، وصلاتها في صحن دارها أفضل من صلاتها في مسجد حيها ، وبيوتهن خير لهن لو كن يعلمن " ولو اعتكفت في المسجد جاز لوجود شرائطه ، ويكره لما روينا .

قال : ( ولا يخرج من معتكفه إلا لحاجة الإنسان أو الجمعة ) لما روي عن عائشة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان يخرج من معتكفه إلا لحاجة الإنسان ، والحاجة : بول أو غائط أو غسل جنابة ، ولأنه لا بد من وقوعها ولا يمكن قضاؤها في المسجد فكان مستثنى ضرورة وأما الجمعة فلأنها من أهم الحوائج ولا بد من وقوعها .

ولأن الاعتكاف تقرب إلى الله تعالى بترك المعاصي ، وترك الجمعة معصية ، فينافيه ويخرج [ ص: 186 ] قدر ما يمكنه أداء السنة قبلها . وقيل : قدر ست ركعات ، يعني تحية المسجد أيضا ، ويصلي بعدها أربعا أو ستا ، ولو أطال المكث جاز ، إلا أن الأولى العود إلى معتكفه لأنه عقده فيه فلا يؤديه في موضعين .

قال : ( فإن خرج لغير عذر ساعة فسد ) لوجود المنافي . وقال أبو يوسف ومحمد : لا يفسد حتى يكون أكثر النهار اعتبارا بالأكثر ، ويكون أكله وشربه وبيعه وشراؤه وزواجه ورجعته بالمسجد ؛ لأنه يحتاج إلى هذه الأشغال ويمكن قضاؤها في المسجد ، ولأنه - عليه الصلاة والسلام - لم يكن له مأوى إلا المسجد ، وكان يأكل ويشرب ويتحدث ، والبيع والشراء حديث ، لكن يكره حضور السلع المسجد لما فيه من شغل المسجد بها .

قال : ( ويكره له الصمت ) لأنه من فعل المجوس ، وقد نهى - عليه الصلاة والسلام - عن صوم الصمت . قال : ( ولا يتكلم إلا بخير ) لأنه يكره لغير المعتكف وفي غير المسجد ، فالمعتكف في المسجد أولى .

قال : ( ويحرم عليه الوطء ودواعيه ) بقوله تعالى : ( ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد فكانت المباشرة من محظورات الاعتكاف فيحرم الوطء ، وكذا دواعيه وهو اللمس والقبلة والمباشرة كما في الحج ، بخلاف الصوم لأن الإمساك ركنه فلا يتعدى إلى الدواعي .

قال : ( فإن جامع ليلا أو نهارا عامدا أو ناسيا بطل ) لما بينا أنه من محظوراته فيفسده كالإحرام ، وكذا إذا أنزل بقبلة أو لمس لوجود معنى الجماع . وأما النسيان فلأن الحالة مذكرة فلا يعذر بالنسيان كالحج بخلاف الصوم .

قال : ( ومن أوجب على نفسه اعتكاف أيام لزمته بلياليها متتابعة ) لأن ذكر جمع من الأيام ينتظم ما بإزائها من الليالي كما في قصة زكريا عليه السلام . قال تعالى : ( ثلاثة أيام ) وقال :

[ ص: 187 ] ( ثلاث ليال ) والقصة واحدة ، ويقال : ما رأيتك منذ أيام ، ويريد الليالي أيضا . وأما التتابع فإن الاعتكاف يصح ليلا ونهارا ، فكان الأصل فيه التتابع كما في الأيمان والإجارات ، بخلاف الصوم إذا التزم أياما حيث لا يلزمه التتابع ؛ لأن الأصل فيه التفريق ؛ لأن الليل ليس محلا للصوم فلا يلزم إلا أن يشرطه .

( ولو نوى النهار خاصة صدق ) لأنه نوى حقيقة كلامه ؛ لأن اليوم عبارة عن بياض النهار .

قال : ( ويلزم بالشروع ) عند أبي حنيفة خلافا لهما بناء على أنه لا يجوز عنده إلا بالصوم فلا يجوز أقل من يوم ، وعندهما يجوز وقد بيناه .

التالي السابق


الخدمات العلمية