صفحة جزء
[ ص: 243 ] " من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين " ( حديث شريف ) بسم الله الرحمن الرحيم

كتاب البيوع البيع ينعقد بالإيجاب والقبول بلفظي الماضي كقوله : بعت واشتريت وبكل لفظ يدل على معناهما وبالتعاطي ( ف ) وإذا أوجب أحدهما البيع فالآخر إن شاء قبل وإن شاء رد ، وأيهما قام قبل القبول بطل الإيجاب ، فإذا وجد الإيجاب والقبول لزمهما البيع بلا خيار مجلس ( ف ) ، ولا بد من معرفة المبيع معرفة نافية للجهالة ، ولا بد من معرفة مقدار الثمن وصفته إذا كان في الذمة ، ومن أطلق الثمن فهو على غالب نقد البلد ، ويجوز بيع الكيلي والوزني كيلا ووزنا ومجازفة; ومن باع صبرة طعام كل قفيز بدرهم جاز في قفيز واحد ( سم ) ، ومن باع قطيع غنم كل شاة بدرهم لم يجز في شيء منها ( سم ف ) ، والثياب كالغنم ، فإن سمى جملة القفزان والذرعان والغنم جاز في الجميع; ومن باع دارا دخل مفاتيحها وبناؤها في البيع ، وكذلك الشجر في بيع الأرض ويجوز بيع الثمرة قبل صلاحها ، ويجب قطعها للحال ، وإن شرط تركها على الشجر فسد البيع .


بسم الله الرحمن الرحيم

[ ص: 243 ]

كتاب البيوع

البيع في اللغة : مطلق المبادلة ، وكذلك الشراء ، سواء كانت في مال أو غيره . قال الله تبارك وتعالى : ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم ) وقال تعالى : ( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ( 16 ) ) .

وفي الشرع : مبادلة المال المتقوم بالمال المتقوم تمليكا وتملكا ، فإن وجد تمليك المال بالمنافع فهو إجارة أو نكاح ، وإن وجد مجانا فهو هبة ، وهو عقد مشروع . ثبتت شرعيته بالكتاب والسنة والمعقول . أما الكتاب فقوله تعالى : ( وأحل الله البيع ) وقال : ( إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ) . وأما السنة فلأنه - صلى الله عليه وسلم - بعث والناس يتبايعون فأقرهم عليه ، وقد باع - عليه الصلاة والسلام - واشترى مباشرة وتوكيلا ، وعلى شرعيته الإجماع .

والمعقول وهو أن الحاجة ماسة إلى شرعيته ، فإن الناس محتاجون إلى الأعواض والسلع والطعام والشراب الذي في أيدي بعضهم ، ولا طريق لهم إلا البيع والشراء ، فإن ما جبلت عليه الطباع من الشح والضنة وحب المال يمنعهم من إخراجه بغير عوض ، فاحتاجوا إلى المعاوضة فوجب أن يشرع دفعا لحاجته . وركنه الإيجاب [ ص: 244 ] والقبول لأنهما يدلان على الرضا الذي تعلق به الحكم ، وكذا ما كان في معناهما . وشرطه : أهلية المتعاقدين حتى لا ينعقد من غير أهل .

ومحله : المال لأنه ينبئ عنه شرعا . وحكمه : ثبوت الملك للمشتري في المبيع ، والبائع في الثمن إذا كان باتا ، وعند الإجازة إذا كان موقوفا .

قال : ( البيع ينعقد بالإيجاب والقبول بلفظي الماضي كقوله : بعت واشتريت ) لأنه إنشاء ، والشرع قد اعتبر الإخبار إنشاء في جميع العقود فينعقد به ، ولأن الماضي إيجاب وقطع ، والمستقبل عدة أو أمر وتوكيل ، فلهذا انعقد بالماضي .

قال : ( وبكل لفظ يدل على معناهما ) كقوله أعطيتك بكذا ، أو خذه بكذا ، أو ملكتك بكذا ، فقال : أخذت ، أو قبلت ، أو رضيت ، أو أمضيت ؛ لأنه يدل على معنى القبول والرضى ، والعبرة للمعاني . وكذلك لو قال المشتري : اشتريت بكذا ، فقال البائع : رضيت ، أو أمضيت ، أو أجزت لما ذكرنا .

قال : ( وبالتعاطي ) في الأشياء الخسيسة والنفيسة ، نص عليه محمد لأنه يدل على الرضا المقصود من الإيجاب والقبول .

وذكر الكرخي أنه ينعقد بالتعاطي في الأشياء الخسيسة فيما جرت به العادة ، ولا ينعقد فيما لم تجر به العادة; ولو قال بعني ، فقال بعت ، أو قال اشتر مني ، فقال اشتريت ، لا ينعقد حتى يقول اشتريت أو بعت ، لأن قوله بعني واشتر ليس بإيجاب وإنما هو أمر ، فإذا قال بعت أو اشتريت فقد وجد شطر العقد ، فلا بد من وجود الآخر ليتم .

وقيل إذا نوى الإيجاب في الحال انعقد البيع وإلا فلا ، وعلى هذا أبيعك هذا العبد أو أعطيكه ، فيقول الآخر أشتريه أو أقبله أو آخذه إن نوى الأصح وإلا فلا .

قال : ( وإذا أوجب أحدهما البيع فالآخر إن شاء قبل وإن شاء رد ) لأنه مخير غير مجبر فيختار أيهما شاء ، وهذا خيار القبول ، ويمتد في المجلس للحاجة إلى التفكر والتروي والمجلس جامع للمتفرقات ، ويبطل بما يبطل به خيار المخيرة لأنه يدل على الإعراض ، وللموجب الرجوع لعدم إبطال حق الغير ، وليس للمشتري القبول في البعض ؛ لأنه تفريق الصفقة وأنه ضرر بالبائع ، [ ص: 245 ] فإن من عادة التجار ضم الرديء إلى الجيد في البيع لترويج الرديء ، فلو صح التفريق يزول الجيد عن ملكه فيبقى الرديء فيتضرر بذلك ، وكذلك المشتري يرغب في الجميع ، فإذا فرق البائع الصفقة عليه يتضرر .

( وأيهما قام قبل القبول بطل الإيجاب ) لأنه يدل على الإعراض وعدم الرضا وله ذلك وشطر العقد لا يتوقف على قبول الغائب كمن قال : بعت من فلان الغائب فبلغه فقبل لا ينعقد إلا إذا كان بكتابة أو رسالة ، فيعتبر مجلس بلوغ الكتاب وأداء الرسالة ، وعلى هذا الإجارة والهبة والكتابة والنكاح; ولو تبايعا وهما يمشيان أو يسيران إن لم يفصلا بين كلاميهما بسكتة انعقد البيع ، وإن فصلا لم ينعقد ؟ وقال بعضهم : ينعقد ما لم يتفرقا بالأبدان ، والأول أصح .

قال : ( فإذا وجد الإيجاب والقبول لزمهما البيع بلا خيار مجلس ) لأن العقد تم بالإيجاب والقبول لوجود ركنه وشرائطه ، فخيار أحدهما الفسخ إضرار بالآخر لما فيه من إبطال حقه ، والنص ينفيه; وما روي من الحديث محمول على خيار القبول ، هكذا قاله النخعي لأن قوله " المتبايعان " يقتضي حالة المباشرة ، وقوله : " ما لم يتفرقا " أي بالأقوال; لأنه يحتمله ، فيحمل عليه توفيقا .

قال : ( ولا بد من معرفة المبيع معرفة نافية للجهالة ) قطعا للمنازعة ، فإن كان حاضرا فيكتفي بالمباشرة ، لأنها موجبة للتعريف قاطعة للمنازعة . وإن كان غائبا ، فإن كان مما يعرف بالأنموذج كالكيلي والوزني والعددي المتقارب فرؤية الأنموذج كرؤية الجميع ، إلا أن يختلف فيكون له خيار العيب ، فإن كان ما لا يعرف بالأنموذج كالثياب والحيوان فيذكر له جميع الأوصاف قطعا للمنازعة ويكون له خيار الرؤية .

قال : ( ولا بد من معرفة مقدار الثمن وصفته إذا كان في الذمة ) قطعا للمنازعة إلا إذا لم يكن في البلد نقود لتعينه .

( ومن أطلق الثمن فهو على غالب نقد البلد ) للتعارف . ولو قال : اشتريت هذا الدار بعشرة ، أو هذا الثوب بعشرة ، أو هذا البطيخ بعشرة وهو في بلد يتعامل الناس بالدنانير والدراهم والفلوس ، انصرف في الدار إلى الدنانير ، وفي الثوب إلى الدراهم ، وفي البطيخ إلى الفلوس بدلالة العرف ، وإن لم يتعاملوا بها ينصرف إلى المعتاد عندهم .

[ ص: 246 ] قال : ( ويجوز بيع الكيلي والوزني كيلا ووزنا ومجازفة ) ومراده عند اختلاف الجنس ، لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " فإذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم " ولأنه لا ربا إلا عند المقابلة بالجنس ؛ لأنه لا تتحقق الزيادة إلا فيه .

قال : ( ومن باع صبرة طعام كل قفيز بدرهم جاز في قفيز واحد ) عند أبي حنيفة إلا أن يعرف جملة قفزانها ، إما بالتسمية أو بالكيل في المجلس . وقالا : يجوز في الكل لأن زوال الجهالة بيدها ولا تفضي إلى المنازعة . وله أنه تعذر الصرف إلى الجميع للجهالة في المبيع والثمن فيصرف إلى الأقل . وهو الواحد لأنه معلوم . فإذا زالت الجهالة جاز في الجميع لزوال المانع ، وإذا جاز البيع في الواحد يثبت للمشتري الخيار لتفرق الصفقة .

قال : ( ومن باع قطيع غنم كل شاة بدرهم لم يجز في شيء منها ، والثياب ) والمعدود التفاوت ( كالغنم ) وعندهما يجوز في الكل لما مر . وله أن قضية ما ذكرنا الجواز في واحد ، غير أن الواحد في هذه الأشياء يتفاوت فيؤدي إلى المنازعة فصار كالمجهول فلا يجوز .

قال : ( فإن سمى جملة القفزان والذرعان والغنم جاز في الجميع ) لانتفاء الجهالة وزوال المانع .

قال : ( ومن باع دارا دخل مفاتيحها وبناؤها في البيع ) لأن المفاتيح تبع للأبواب ، والأبواب متصلة بالبناء للبقاء ، والبناء متصل بالعرصة اتصال قرار ، فصارت كالجزء منها فتدخل في البيع ، ولأن الدار اسم للعرصة والبناء فيدخل في بيع الدار .

( وكذلك الشجر في بيع الأرض ) لأن اتصاله كاتصال البناء بخلاف الزرع والثمرة ، لأن اتصالهما ليس للقرار فصار كالمتاع ، ويقال للبائع : اقطع الثمرة واقلع الزرع وسلم المبيع ؛ لأنه [ ص: 247 ] يجب عليه تسليم المبيع إلى المشتري عملا بمقتضى البيع ، ولا يمكن ذلك إلا بالتفريق فيجب عليه ذلك ، ولو شرطهما دخلا في البيع عملا بالشرط .

قال - عليه الصلاة والسلام - : ( من اشترى نخلا أو شجرا فيه ثمر فثمرته للبائع إلا أن يشترط المبتاع " ولو اشترى دارا وذكر حدودها دخل السفل والعلو والإصطبل والكنيف والأشجار ، لأن الدار اسم لما أدير عليه الحدود ، وأنه يدور على جميع ما ذكرنا ; والبستان إذا كان خارج الدار إن كان أصغر منها دخل لأنه من توابع الدار عرفا ، وإن كان مثلها أو أكبر لا يدخل إلا بالشرط لخروجه عن الحدود; وتدخل الظلة عندهما إذا كان مفتحها إليها ؛ لأنه تعد من الدار عرفا . وعند أبي حنيفة لا تدخل ، لأن أحد طرفيها على حائط الدار فيتبعها ، والطرف الآخر على دار أخرى أو على أسطوانة فلا تتبعها ، فلا تدخل بالشك حتى تذكر الحقوق ، والظلة : هي التي على ظهر الطريق وهو الساباط ، ويدخل الطريق إلى السكة لأنه لا بد منه . ولو اشترى منزلا فوقه منزل لا يدخل إلا أن تذكر الحقوق أو كل قليل وكثير ، لأن المنزل اسم لما يشتمل عليه مرافق السكنى . لأنه من النزول وهو السكنى ، والعلو مثل السفل في السكنى من وجه دون وجه ، فيكون تبعا من وجه أصلا من وجه ، فإن ذكر الحقوق دخل وإلا فلا .

ولو اشترى بيتا لا يدخل العلو وإن ذكر الحقوق حتى ينص عليه ، لأن البيت ما يبات فيه ، وعلوه مثله في البيتوتة فلا يدخل فيه إلا بالشرط .

قال : ( ويجوز بيع الثمرة قبل صلاحها ) والمراد إذا كانت ينتفع بها للأكل أو العلف لأنه مال متقوم منتفع به ؟ أما إذا لم يكن منتفعا بها لا يجوز لأنه ليس بمال متقوم .

( ويجب قطعها للحال ) ليتفرغ ملك البائع .

( وإن شرط تركها على الشجر فسد البيع ) لأنه إعارة أو إجارة في البيع ، فيكون صفقتين في صفقة وأنه منهي عنه ، وكذا الزرع في الأرض; وإن تركها بأمره بغير شرط جاز وطاب الفضل ، وإن كان بغير أمره تصدق بالفضل لحصوله بأمر محظور ؟ وإن استأجر الشجر طاب له الفضل [ ص: 248 ] لوجود الإذن ، وبطلت الإجارة لأنه غير معتاد; وكذا إذا اشتراها بعدما تناهى عظمها يجب القطع للحال لما قلنا ، فإن تركها طاب الفضل ولم يتصدق بشيء بكل حال لأنه لا زيادة وإنما هو تغير وصف; فإن شرط بقاءها على الشجر جاز عند محمد استحسانا للعرف ، بخلاف ما إذا لم تتناه في العظم لأنه يزداد بعد ذلك فقد اشترط الجزء المعدوم فلا يجوز; فإن خرج بعض الثمرة أو خرج الكل لكن بعضه منتفع به لا يجوز البيع للجمع بين الموجود والمعدوم والمتقوم وغير المتقوم فتبقى حصة الموجود مجهولة; وكان شمس الأئمة الحلواني والإمام أبو بكر محمد بن الفضل البخاري يفتيان بجوازه في الثمار والباذنجان ونحوهما ، جعلا المعدوم تبعا للموجود للتعامل دفعا للحرج بالخروج عن العادة ، وعن محمد الجواز في بيع الورد لأنه متلاحق .

قال شمس الأئمة السرخسي : والأول أصح إذ لا ضرورة في ذلك لأنه يمكنه أنه يشتري أصولها أو يشتري الموجود بجميع الثمن ويحل له البائع ما يحدث ، ولو اشتراها مطلقا وأثمرت ثمرا آخر قبل القبض فسد البيع لتعذر التمييز قبل التسليم ، وإن أثمرت بعد القبض يشتركان ، والقول للمشتري في قدره لأنه في يده وهو منكر .

التالي السابق


الخدمات العلمية