صفحة جزء
[ ص: 258 ] فصل

[ الخيارات ]

ومن اشترى ما لم يره جاز ، وله خيار الرؤية ; ومن باع ما لم يره فلا خيار له ، ويسقط برؤية ما يوجب العلم بالمقصود كوجه الآدمي ووجه الدابة وكفلها ، ورؤية الثوب مطويا ونحوه ، فإن تصرف فيه تصرفا لازما ، أو تعيب في يده ، أو تعذر رد بعضه ، أو مات بطل الخيار ، ولو رأى بعضه فله الخيار إذا رأى باقيه ، وما يعرض بالأنموذج رؤية بعضه كرؤية كله; ومن باع ملك غيره فالمالك إن شاء رده وإن شاء أجاز إذا كان المبيع والمتبايعان بحالهم .


فصل

( ومن اشترى ما لم يره جاز ، وله خيار الرؤية ) معناه : إن شاء أخذه وإن شاء رده ، وكذا إن كان الثمن عينا ولم يره البائع . والأصل فيه قوله - عليه الصلاة والسلام - : " من اشترى ما لم يره فله الخيار إذا رآه " ولأنه أحد العوضين فلا تشترط رؤيته للانعقاد كالثمن ، ولأنه لا يفضي إلى المنازعة ؛ لأنه إذا لم يرض به عند الرؤية يرده لعدم اللزوم ، وإذا جاز العقد ثبت له الخيار بالحديث ، وإنما يثبت الخيار عند الرؤية حتى لو أجاز البيع قبلها لا يلزم ولا يسقط خياره بصريح الإسقاط قبلها لأنه خيار ثبت شرعا فلا يسقط بإسقاطهما ، بخلاف خياري الشرط والعيب لأنهما ثبتا بقصدهما وشرطهما ، ويملك فسخه قبل الرؤية لأن الخيار له ، ولا يمنع ثبوت الملك في [ ص: 259 ] البدلين ، لكن يمنع اللزوم حتى لو باعه مطلقا أو بشرط الخيار للمشتري أو أعتقه أو دبره أو كاتبه أو رهنه أو وهبه وسلم قبل الرؤية لزم البيع ، ولو شرط الخيار للبائع أو عرضه على البيع لا يلزم قبل الرؤية ويلزم بعدها ؛ لأنه لم يتعلق به حق الغير لكن رضي ، والرضى قبل الرؤية لا يسقط الخيار .

قال : ( ومن باع ما لم يره فلا خيار له ) وذكر الطحاوي أن أبا حنيفة كان يقول أولا له الخيار ، لأن اللزوم بالرضى ، والرضى بالعلم بأوصاف المبيع ، والعلم بالرؤية ; ثم رجع وقال : لا خيار له ، لأن النص أثبته للمشتري خوفا من تغير المبيع عما يظنه ودفعا للغبن عنه ، فلو ثبت للبائع لثبت خوفا من الزيادة على ما يظنه من الأوصاف وذلك لا يوجب الخيار ، ألا ترى أنه لو باع عبدا على أنه مريض فإذا هو صحيح لزمه ولا خيار له ؟ . وقد روي أن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - باع أرضا بالكوفة من طلحة بن عبيد الله - رضي الله عنه - ، فقيل لعثمان : غبنت ؟ قال : لي الخيار فإني بعت ما لم أره ، وقيل لطلحة : غبنت ؟ فقال : لي الخيار لأني اشتريت ما لم أره ، فاحتكما إلى جبير بن مطعم ، فحكم بالخيار لطلحة وذلك بمحضر من الصحابة فحكم جبير ، ورجوعهما إلى حكمه وعدم وجود النكير من أحد من الصحابة دل على أنه إجماع منهم .

قال : ( ويسقط برؤية ما يوجب العلم بالمقصود كوجه الآدمي ووجه الدابة وكفلها ، ورؤية الثوب مطويا ونحوه ) لأن رؤية الجميع غير شرط ؛ لأنه قد يتعذر فاكتفي برؤية ما هو المقصود . والوجه في الآدمي هو المقصود ، ألا ترى أن الثمن يزداد وينقص بالوجه ، وكذلك الوجه والكفل في الدابة; وأما الثوب فالمراد الثياب التي لا يخالف باطنها الظاهر ، أما إذا اختلفا فلا بد من رؤية الباطن ، وكذلك لا بد من رؤية العلم لأنه مقصود; وفي الدار لا بد من رؤية الأبنية ، فإن لم يمكن يكتفي برؤية الظاهر; ولا بد في شاة اللحم من الجس وشاة الدر والنسل من النظر إلى الضرع مع جميع جسدها ، واعتبر بهذا جميع المبيعات .

قال : ( فإن تصرف فيه تصرفا لازما أو تعيب في يده ، أو تعذر رد بعضه ، أو مات بطل الخيار ) وقد بيناه ، ولأنه إذا تعذر رد البعض فرد الباقي إضرار بالبائع ، وكذلك رد المعيب; وأما [ ص: 260 ] الموت فلما ذكرنا أنه دخل في ملكه وبقي له خيار الرؤية ، وخيار الرؤية لا يورث .

قال : ( ولو رأى بعضه فله الخيار إذا رأى باقيه ) لأنه لو لزمه يكون إلزاما للبيع فيما لم يره وأنه خلاف النص ، وكذلك الإجازة في البعض لا تكون إجازة في الكل لما مر ، ولا تصح الإجازة في البعض ورد الباقي لما بينا .

قال : ( وما يعرض بالأنموذج رؤية بعضه كرؤية كله ) والأصل أن المبيع إذا كان أشياء إن كان من العدديات المتفاوتة كالثياب والدواب والبطيخ والسفرجل والرمان ونحوه لا يسقط الخيار إلا برؤية الكل لأنها تتفاوت ، وإن كان مكيلا أو موزونا وهو الذي يعرض بالأنموذج أو معدودا متقاربا كالجوز والبيض فرؤية بعضه تبطل الخيار في كله ، لأن المقصود معرفة الصفة وقد حصلت وعليه التعارف ، إلا أن يجده أردأ من الأنموذج فيكون له الخيار ، وإن كان المبيع مغيبا تحت الأرض كالجزر والشلجم والبصل والثوم والفجل بعد النبات إن علم وجوده تحت الأرض جاز وإلا فلا ، فإذا باعه ثم قلع منه أنموذجا ورضي به ، فإن كان مما يباع كيلا كالبصل ، أو وزنا كالثوم والجزر بطل خياره عندهما ، وعليه الفتوى للحاجة وجريان التعامل به . وعند أبي حنيفة لا يبطل ، وإن كان مما يباع عددا كالفجل ونحوه ، فرؤية بعضه لا يسقط خياره لما تقدم ، ولو اختلفا في الرؤية فالقول للمشتري لأنه منكر; وكذلك لو اختلفا في المردود فقال البائع : ليس هذا المبيع ، وكذلك في خيار الشرط وفي الرد بالعيب القول قول البائع .

قال : ( ومن باع ملك غيره فالمالك إن شاء رده وإن شاء أجاز إذا كان المبيع والمتبايعان بحالهم ) .

اعلم أن تصرفات الفضولي منعقدة موقوفة على إجازة المالك لصدورها من الأهل وهو الحر العاقل البالغ ، مضافة إلى المحل لأن الكلام فيه ، ولا ضرر فيه على المالك لأنه غير ملزم له ، وتحتمل المنفعة فينعقد تصحيحا لتصرف العاقد العاقل وتحصيلا للمنفعة المحتملة ، ولما روي أنه - عليه الصلاة والسلام - دفع دينارا إلى حكيم بن حزام ليشتري به أضحية ، فاشترى شاة ثم باعها [ ص: 261 ] بدينارين ، واشترى بأحد الدينارين شاة ، وجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشاة والدينار ، فأجاز صنيعه ولم ينكر عليه ودعا له بالبركة ، وكان فضوليا لأنه باع الشاة واشترى الأخرى بغير أمره ، وكل عقد له مجيز حال وقوعه يتوقف على إجازته ، وما لا فلا ، حتى إن طلاق الفضولي وعتاقه ونكاحه وهبته لا ينعقد في حق الصبي والمجنون ، وينعقد في حق العاقل البالغ ، لأن عند الإجازة يصير الفضولي كالوكيل حتى ترجع الحقوق إليه ، فإن الإجازة اللاحقة كالوكالة السابقة ، والصبي والمجنون ليسا من أهل الوكالة ولا المباشرة; وللفضولي الفسخ قبل الإجازة لئلا ترجع الحقوق إليه ، وليس له ذلك في النكاح ، لأن الحقوق لا ترجع فيه إليه لما عرف أنه سفير فيه ، ولا بد من وجود المبيع والمتبايعين عند الإجازة ، إذ لا بقاء للعقد بدونهم .

والإجازة : إنفاذ العقد الموقوف ، ولو كان العقد مقايضة يشترط بقاء العوضين والمتعاقدين لما بينا .

التالي السابق


الخدمات العلمية