صفحة جزء
[ ص: 261 ] فصل

[ خيار العيب ]

مطلق البيع يقتضي سلامة المبيع ، وكل ما أوجب نقصان الثمن في عادة التجار فهو عيب ، وإذا اطلع المشتري على عيب فإن شاء أخذ المبيع بجميع الثمن ، وإن شاء رده ، والإباق والسرقة والبول في الفراش ليس بعيب في الصغير الذي لا يعقل ، وعيب في الذي يعقل ، ويرد به إلا أن يوجد عند المشتري بعد البلوغ وانقطاع الحيض عيب ، والاستحاضة عيب ، والبخر والدفر والزنا عيب في الجارية دون الغلام ، والشيب والكفر والجنون عيب فيهما ، وإن وجد المشتري عيبا وحدث عنده عيب آخر رجع بنقصان العيب ولا يرده إلا برضا البائع .

وإن صبغ الثوب أو خاطه ، أو لت السويق بسمن ثم اطلع على عيب رجع بنقصانه ، وإن مات العبد أو أعتقه رجع بنقصان العيب ، فإن قتله أو أكل الطعام ( سم ) لم يرجع ، ومن شرط البراءة من كل عيب فليس له الرد أصلا ، وإذا باعه المشتري ثم رد عليه بعيب إن قبله بقضاء رده على بائعه ، وإن قبله بغير قضاء لم يرده ، ويسقط الرد بما يسقط به خيار الشرط .


فصل

( مطلق البيع يقتضي سلامة المبيع ) لأن الأصل هو السلامة ، وهو وصف مطلوب مرغوب عادة ، والمطلوب عرفا كالمشروط نصا .

قال : ( وكل ما أوجب نقصان الثمن في عادة التجار فهو عيب ) لأن الضرر بنقصان المالية وهم يعرفون ذلك ، وهذا يغني عن ذكر العيوب وتعدادها ، وإذا علم المشتري بالعيب عند الشراء أو عند القبض وسكت فقد رضي به .

قال : ( وإذا اطلع المشتري على عيب فإن شاء أخذ المبيع بجميع الثمن وإن شاء رده ) لأنه لم يرض به ، وليس له أخذه وأخذ النقصان إلا برضى البائع ، لأن الأوصاف لا يقابلها شيء من الثمن بالعقد ، وكذلك لو كان المبيع مكيلا أو موزونا ، فوجد ببعضه عيبا ليس له أن يمسك الجيد ويرد [ ص: 262 ] المعيب ، والأصل في هذا أن المشتري لا يملك تفريق الصفقة على البائع قبل التمام لما بينا ويملك بعده ، وخيار الشرط والرؤية وعدم القبض يمنع تمام الصفقة ، وبالقبض تتم الصفقة ، والمراد قبض الجميع حتى لو قبض أحدهما ثم وجد بأحدهما عيبا إما أن يردهما أو يمسكهما; والمكيل والموزون كالشيء الواحد ، ولا يملك رد البعض دون البعض لا قبل القبض ولا بعده ، لأن تمييز المعيب زيادة في العيب ، فكأنه عيب حادث حتى قيل لو كان في وعاءين له رد المعيب منهما بعد القبض لأنه لا ضرر ، وكذا لو اشترى زوجي خف أو مصراعي باب فوجد بأحدهما عيبا قبل القبض أو بعده يردهما أو يمسكهما ، وكذا كل ما في تفريقه ضرر ، وما لا ضرر في تفريقه كالعبدين والثوبين إذا وجد بأحدهما عيبا إن كان قبل القبض ليس له رد أحدهما لأنه تفريق الصفقة قبل تمامها ، وإن كان بعد القبض يجوز لأنه لا ضرر في تفريقها ، لأن الصفقة قد تمت بالقبض ، فجاز رد البعض كما لو اشترى من اثنين ، واستحقاق البعض على هذا التفصيل ما يضره التبعيض فهو عيب ، وما لا فلا .

قال : ( والإباق والسرقة والبول في الفراش ليس بعيب في الصغير الذي لا يعقل ) لأنه لا يقدر على الامتناع من هذه الأشياء وهو ضال لا آبق .

( وعيب في الذي يعقل ) لأنه تعده التجار عيبا .

( ويرد به إلا أن يوجد عند المشتري بعد البلوغ ) .

اعلم أن جواز الرد إنما يثبت عند اتحاد الحال بأن فعل هذه الأشياء عند البائع والمشتري حالة الصغر أو حالة الكبر ، أما إذا فعله عند البائع حالة الصغر ، وعند المشتري حالة الكبر فليس له الرد ، لأن شرط ثبوت الرد اتحاد سبب العيب ، وأنه يختلف بالصغر والكبر ، لأن الإباق والسرقة من الصغير لقلة مبالاته ، وقصور عقله ، ومن الكبير لخبث طبيعته ، والبول في الفراش من الصغير لضعف المثانة ، ومن الكبير لداء في بطنه ، فقد اختلف السببان ، فكان العيب الثاني غير الأول فلا يجب الرد ، بخلاف الجنون حيث له الرد لو جن عند البائع في الصغر ، وعند المشتري بعد البلوغ لأن السبب متحد ، وهو آفة تحل الدماغ في الحالتين .

قال : ( وانقطاع الحيض عيب ) لأنه من داء ، ومعناه إذا كانت ممن يحيض مثلها ، وإنما يعرف ذلك بمضي المدة وأدناه شهران ، وقيل : لا يردها إلا إذا ادعت ارتفاعه بالحبل ، ولو اشترى جارية على أنها تحيض وهي لا تحيض للإياس فهو عيب ؛ لأنه اشتراها للحبل والآيسة لا تحبل .

[ ص: 263 ] قال : ( والاستحاضة عيب ) لأن استمرار الدم مرض ، وعدم الختان عيب في الجارية والغلام إذا كانا كبيرين مولدين ، أما إذا كانا صغيرين أو جلبين فليس بعيب .

قال : ( والبخر والدفر والزنا عيب في الجارية دون الغلام ) لأن ذلك يخل بالمقصود منها وهو الاستفراش والوثوق بكون الولد منه ، والمراد من الغلام الاستخدام ، ولا يخل ذلك به إلا أن يكون من داء فهو عيب فيه أيضا ، وكذا إذا كان كثير الزنا يتبع الزواني لأنه يشتغل به عن الخدمة . قال : ( والشيب والكفر والجنون عيب فيهما ) أما الشيب والجنون فلأنهما ينقصان المالية ، والكافر تنفر الطباع من استخدامه ويقل الوثوق به لعداوة الدين ، ولذا لا يجوز عتقه في بعض الكفارات وكل ذلك عيب ، والنكاح والدين عيب فيهما لأنه نقص فيهما ، والحبل عيب في الجارية دون بهائم بالعرف .

قال : ( وإن وجد المشتري عيبا وحدث عنده عيب آخر رجع بنقصان العيب ، ولا يرده إلا برضا البائع ) لأن من شرط الرد أن يرده كما قبضه دفعا للضرر عن البائع ، فإذا تعذر ذلك بأن عجز عن استيفاء حقه في الجزء الفائت وعن الوصول إلى رأس ماله يثبت له حق الرجوع ببدل الفائت دفعا للضرر عنه ، ونقصان العيب أن يقوم صحيحا ويقوم معيبا ، فما نقص فهو حصة العيب فيرجع بها من الثمن .

قال : ( وإن صبغ الثوب أو خاطه أو لت السويق بسمن ثم اطلع على عيب رجع بنقصانه ) لأن الرد قد تعذر لأنه لا يمكن الفسخ بدون الزيادة وهي لم تكن في العقد فيرجع بالنقصان ، وليس للبائع أخذه لما فيه من الضرر بالمشتري ، والزيادة المنفصلة الحادثة قبل القبض لا تمنع الرد بالعيب وبعده تمنع ، وذلك مثل الولد والعقر والأرش والثمرة لأنها مبيعة ملكت بالبيع ، وهي غير مقصودة ليقابلها الثمن ، لأن الأصل بجميع الثمن ، فلا يمكن ردها فتبقى سالمة للمشتري بغير عوض وأنه ربا ، ولهذا لا يملك ردها برضا البائع ، ولو مات الولد يرد الأم ، ولو استهلكه هو أو غيره لا ترد ، والكسب والغلة لا يمنع الرد بجميع الثمن فكذا سلامة بدلها .

[ ص: 264 ] قال : ( وإن مات العبد أو أعتقه رجع بنقصان العيب ) وكذلك التدبير والاستيلاد; أما الموت فلأنه إنهاء للملك والامتناع من جهة الشرع; وأما العتق فهو إنهاء أيضا ، لأن الملك إنما يثبت في الآدمي موقتا إلى وقت العتق ، والمنتهي متقرر فصار كالموت فقد تعذر الرد وهذا استحسان; والقياس أن لا يرجع في العتق ، لأن الامتناع من جهته كالقتل ، ولو أعتقه على مال أو كاتبه لا يرجع لأن حبس البدل كحبس المبدل .

قال : ( فإن قتله أو أكل الطعام لم يرجع ) أما القتل فلأنه وصل إلى عوضه معنى وهو سقوط الضمان عنه . وعن أبي يوسف أنه يرجع ، لأن قتل المولى عبده لا يتعلق به ضمان; وأما الأكل فلأنه تعذر الرد بفعل مضمون منه فصار كالقتل ، وقالا : يرجع استحسانا لأنه عمل بالمبيع ما هو المقصود منه بالشراء والمعتاد فيه فصار كالإعتاق .

قلنا : لا اعتبار بكون الفعل مقصودا ، فإن المبيع مقصود بالشراء ومع ذلك يمنع الرجوع ، وعلى هذا الخلاف إذا لبس الثوب حتى تخرق ، ولو أكل بعض الطعام فكذا الجواب عنده . وعندهما أنه يرجع بنقصان العيب في الجميع . وعنهما يرد ما بقي ويرجع بنقصان ما أكل لأنه لا يضره التبعيض وعليه الفتوى ، وفي كل موضع كان للبائع أخذه كالعيب الحادث ونحوه ، فباعه المشتري أو أعتقه لم يرجع بالنقصان ، وفي كل موضع ليس له أخذه بسبب الزيادة فباعه أو أعتقه المشتري رجع بالنقصان; ومن اشترى بطيخا أو خيارا أو بيضا أو نحوه فكسره فوجده فاسدا ، فإن كان بحال لا ينتفع به رجع بكل الثمن لأنه ليس بمال ، وإن كان ينتفع به مع الفساد رجع بالنقصان لأنه تعذر الرد ، لأن الكسر عيب حادث فيرجع بالنقصان لما بينا .

قال : ( ومن شرط البراء من كل عيب فليس له الرد أصلا ) لأنه إسقاط والإسقاط لا يفضي إلى المنازعة فيجوز مع الجهالة ، ولو حدث عيب بعد البيع قبل القبض دخل في البراءة عند أبي يوسف خلافا لمحمد وزفر لأنه لم يوجد وقت الإبراء فلا يتناوله ، ولأبي يوسف أن المقصود سقوط حق الفسخ بالعيب ، وذلك البراءة عن الموجود والحادث ، ولو أبرأه من كل غائلة . قال أبو يوسف : هي السرقة والإباق والفجور دون المرض ، لأن الغائلة تختص بالفعل ، وإن أبرأه من كل داء .

قال أبو حنيفة : الداء ما في الجوف من طحال أو كبد أو فساد حيض ، وما سوى ذلك يسمى [ ص: 265 ] مرضا . وقال أبو يوسف هو المرض . ولو قال برئت إليك من كل عيب بعينه فإذا هو أعور ، أو من كل عيب بيده فإذا هو أقطع لا يبرأ لأنه ليس بعيب بالمحل بل هو عدم المحل .

قال : ( وإذا باعه المشتري ثم رد عليه بعيب إن قبله بقضاء رده على بائعه ) لأنه فسخ من الأصل فجعل كأن لم يكن ، وهو وإن أنكر فقد صار مكذبا شرعا .

( وإن قبله بغير قضاء لم يرده ) لأنه بيع جديد في حق ثالث لوجود حده وهو التمليك والتملك ، وإن رد عليه بعيب لا يحدث مثله ، رده عليه أيضا لأن الرد متعين فيه ، فيستوي فيه القضاء وعدمه .

قال : ( ويسقط الرد بما يسقط به خيار الشرط ) وقد ذكرت فيه ، وذكر البعض هنا أيضا .

فصل في التلجئة

وهي في اللغة : ما ألجئ إليه الإنسان بغير اختياره ، ولما كان هذا العقد إنما يعقد عند الضرورة سموه تلجئة ؛ لما فيه من معنى الإكراه ، وفيه ثلاث مسائل :

إحداها : أن تكون التلجئة في نفس المبيع ، مثل أن يخاف على سلعته ظالما أو سلطانا فيقول : أنا أظهر البيع ، وليس ببيع حقيقة ، وإنما هو تلجئة ، ويشهد على ذلك ، ثم يبيعها في الظاهر من غير شرط .

حكى المعلى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أن العقد جائز . وروى محمد في الإملاء أنه باطل ولم يحك خلافا ، وهو قول أبي يوسف ومحمد .

وجه الأولى أنهما عقدا عقدا صحيحا وما شرطاه لم يذكراه فيه ، فلا يؤثر فيه كما إذا اتفقا أن يشرطا شرطا فاسدا ثم تبايعا من غير شرط . ووجه الثانية أنهما اتفقا على أنهما لم يقصدا العقد فصارا كالهازلين فلا ينعقد .

الثانية : أن تكون في البدل بأن يتفقا على ألف في السر ويتبايعا في الظاهر بألفين . روى المعلى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أن الثمن ثمن العلانية . وروى محمد في الإملاء أن الثمن ثمن السر من غير خلاف وهو قولهما ، لأنهما اتفقا أنهما لم يقصدا الألف الزائدة فكأنهما هزلا بها .

[ ص: 266 ] وجه الأول أن المذكور في العقد هو الذي يصح العقد به ، وما ذكراه سرا لم يذكراه حالة العقد فسقط حكمه .

الثالثة : اتفقا أن الثمن ألف درهم وتبايعا على مائة دينار . قال محمد : القياس أن يبطل العقد ، والاستحسان أن يصح بمائة دينار .

وجه القياس أن الثمن الباطن لم يذكراه في العقد ، والمذكور لم يقصداه فسقط فبقي بلا ثمن فلا يصح .

وجه الاستحسان أن المقصود البيع الجائز لا الباطل ، ولا جائز إلا بثمن العلانية كأنهما أضربا عن السر وذكرا الظاهر ، وليس هذا كالمسألة الأولى لأن المشروط سرا مذكور في العقد وزيادة وتعلق العقد به ، ويثبت لهما الخيار في بيع التلجئة لأنهما لم يقصدا زوال الملك فصار كشرط الخيار لهما فيتوقف على إجازتهما ، ولو ادعى أحدهما التلجئة لم يقبل قوله إلا ببينة لأنه يدعي انفساخ العقد بعد انعقاده ، ويستحلف الآخر لأنه منكر .

التالي السابق


الخدمات العلمية