صفحة جزء
[ ص: 303 ] كتاب الإجارة

وهي بيع المنافع ، جوزت على خلاف القياس لحاجة الناس ، ولا بد من كون المنافع والأجرة معلومة ، وما صلح ثمنا صلح أجرة ، وتفسد بالشروط ، ويثبت فيها خيار الرؤية والشرط والعيب ، وتقال وتفسخ ، والمنافع تعلم بذكر المدة كسكنى الدار ، وزرع الأرضين مدة معلومة أو بالتسمية كصبغ الثوب ، وخياطته ، وإجارة الدابة لحمل شيء معلوم أو ليركبها مسافة معلومة أو بالإشارة كحمل هذا الطعام; وإن استأجر دارا أو حانوتا فله أن يسكنها ويسكنها من شاء ويعمل فيها ما شاء إلا القصارة والحدادة والطحن; وإن استأجر أرضا للزراعة بين ما يزرع فيها ، أو يقول على أن يزرعها ما شاء ، وهكذا ركوب الدابة ولبس الثوب إلا أنه إذا لبس أو ركب واحد تعين; وإذا استأجر أرضا للبناء والغرس فانقضت المدة يجب عليه تسليمها فارغة كما قبضها ، والرطبة كالشجر ، فإن كانت الأرض تنقص بالقلع يغرم له الآجر قيمة ذلك مقلوعا ويتملكه ، وإن كانت الأرض لا تنقص ، فإن شاء صاحب الأرض أن يضمن له القيمة ويتملكه فله ذلك برضا صاحبه ، أو يتراضيان فتكون الأرض لهذا والبناء لهذا ، وإن سمى ما يحمله على الدابة كقفيز حنطة فله أن يحمل ما هو مثله أو أخف كالشعير ، وليس له أن يحمل ما هو أثقل كالملح ، وإن زاد على المسمى فعطبت ضمن بقدر الزيادة ، وإن سمى قدرا من القطن فليس له أن يحمل مثل وزنه حديدا ، وإن استأجرها ليركبها فأردف آخر ضمن النصف ، فإن ضربها فعطبت ضمنها ( سم ) .


[ ص: 303 ] ( وهي بيع المنافع ، جوزت على خلاف القياس لحاجة الناس ) .

اعلم أن التمليك نوعان : تمليك عين ، وتمليك منافع .

وتمليك العين نوعان : بعوض وهو البيع وقد بيناه ، وبغير عوض وهو الهبة والصدقة والوصية ، وسيأتيك أبوابها إن شاء الله تعالى .

وتمليك المنافع نوعان : بغير عوض ، وهو العارية والوصية بالمنافع على ما يأتيك; وبعوض وهو الإجارة ، وسميت بيع المنافع لوجود معنى البيع ، وهو بذل الأعواض في مقابلة المنفعة وهي على خلاف القياس ، لأن المنافع معدومة ، وبيع المعدوم لا يجوز ، إلا أنا جوزناها لحاجة الناس إليها ، ومنع شمس الأئمة السرخسي هذا وقال : إنما يشترط الملك والوجود للقدرة على التسليم ، وهذا لا يتحقق في المنافع ، لأنها عرض لا تبقى زمانين فلا معنى للاشتراط ، فأقمنا العين المنتفع بها مقام المنفعة في حق إضافة العقد إليها ليترتب القبول على الإيجاب كقيام الذمة التي هي محل المسلم فيه مقام المعقود عليه في حق جواز السلم ، وتنعقد ساعة فساعة على حسب حدوث المنفعة ليقترن الانعقاد بالاستيفاء ، فيتحقق بهذا الطريق التمكن من استيفاء المعقود عليه .

والدليل على جوازها قوله تعالى : ( فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن ) وقوله تعالى :

( ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ) أي بالعمل بالأجر . وقال - عليه الصلاة والسلام - : " من استأجر [ ص: 304 ] أجيرا فليعلمه أجره " . وبعث - عليه الصلاة والسلام - والناس يتعاملون بها فأقرهم على ذلك وعليه الإجماع ، ولا تنعقد بلفظ البيع لأنه وضع لتمليك الأعيان ، والإجارة تمليك منافع معدومة; ويبدأ بتسليم المعقود عليه ليتمكن من الانتفاع ، لأن عين المنفعة لا يمكن تسليمها ، فأقمنا التمكين من الانتفاع مقامه .

قال : ( ولا بد من كون المنافع والأجرة معلومة ) قطعا للمنازعة ولما تقدم من الحديث .

قال : ( وما صلح ثمنا صلح أجرة ) لأنها ثمن أيضا; فالمكيل والموزون والمزروع والمعدود والمتقارب يصلح أجرة على الوجه الذي يصلح ثمنا ، والحيوان يصلح إن كان عينا ، أما دينا فلا لأنه لا يثبت في الذمة ، والمنفعة تصلح أجرة في الإجارة إذا اختلف جنساهما ، ولا تصلح ثمنا في البيع لأن الثمن يملك بنفس العقد ، والمنفعة لا يمكن تمليكها بنفس العقد .

قال : ( وتفسد بالشروط ، ويثبت فيها خيار الرؤية والشرط والعيب ، وتقال وتفسخ ) كما في البيع .

قال : ( والمنافع تعلم بذكر المدة كسكنى الدار وزرع الأرضين مدة معلومة ) لأن المدة إذا علمت تصير المنافع معلومة .

( أو بالتسمية كصبغ الثوب ، وخياطته ، وإجارة الدابة لحمل شيء معلوم أو ليركبها مسافة معلومة ) لأنه إذا بين لون الصبغ وقدره وجنس الخياطة وقدر المحمول وجنسه والمسافة تصير المنافع معلومة .

( أو بالإشارة كحمل هذا الطعام ) لأنه إذا عرف ما يحمله والموضع الذي يحمله إليه تصير المنفعة معلومة .

[ ص: 305 ] قال : ( وإن استأجر دارا أو حانوتا فله أن يسكنها ويسكنها من شاء ويعمل فيها ما شاء ) من وضع المتاع ، وربط الحيوان وغيره ، وإن لم يسم ذلك ، لأن المقصود المتعارف من الدور والحوانيت ذلك ، ومنافع السكنى غير متفاوتة في ذلك .

قال : ( إلا القصارة والحدادة والطحن ) لأنها توهن البناء وفيه ضرر فلا يقتضيه العقد إلا بالتسمية ، وإن كانت الدار ضيقة ليس له أن يربط الدابة فيها لعدم العادة .

قال : ( وإن استأجر أرضا للزراعة بين ما يزرع فيها ، أو يقول على أن يزرعها ما شاء ) لأن منافع الزراعة مختلفة وكذلك تضرر الأرض بالزراعة مختلف باختلاف المزروعات فيفضي إلى المنازعة ، فإذا بين ما يزرع ، أو قال على أن يزرعها ما شاء انقطعت المنازعة .

( وهكذا ركوب الدابة ، ولبس الثوب ) وكل ما يختلف باختلاف المستعملين ، لأن الناس يختلفون في الركوب واللبس فيفضي إلى المنازعة ، فإذا عين أو أطلق فلا منازعة .

( إلا أنه إذا لبس أو ركب واحد تعين ) فليس له أن يركب أو يلبس غيره كما إذا عينه في الابتداء ويدخل في إجارة الدور والأرضين الطريق والشرب ، لأن المقصود المنفعة ولا منفعة دونهما .

قال : ( وإذا استأجر أرضا للبناء والغرس فانقضت المدة يجب عليه تسليمها فارغة كما قبضها ) ليتمكن مالكها من الانتفاع بها فيقلع البناء والغرس لأنه لا نهاية لهما .

( والرطبة كالشجر ) لطول بقائه في الأرض; أما الزرع فله نهاية معلومة فيترك بأجر المثل إلى نهايته رعاية للجانبين .

( فإن كانت الأرض تنقص بالقلع يغرم له الآجر قيمة ذلك مقلوعا ويتملكه ) ترجيحا لجانب الأرض لأنها الأصل والبناء والغرس تبع ، وإنما يغرم قيمته مقلوعا لأنه مستحق القلع ، فتقوم الأرض بدون البناء والشجر ، وتقوم وبها بناء أو شجر ، ولصاحب الأرض أن يأمره بقلعه فيضمن فضل ما بينهما .

( وإن كانت الأرض لا تنقص ، فإن شاء صاحب الأرض أن يضمن له القيمة ) كما تقدم .

[ ص: 306 ] ( ويتملكه فله ذلك برضا صاحبه ، أو يتراضيان فتكون الأرض لهذا والبناء لهذا ) لأن الحق لهما .

قال : ( وإن سمى ما يحمله على الدابة كقفيز حنطة فله أن يحمل ما هو مثله أو أخف كالشعير ، وليس له أن يحمل ما هو أثقل كالملح ، وإن زاد على المسمى فعطبت ضمن بقدر الزيادة ، وإن سمى قدرا من القطن فليس له أن يحمل مثل وزنه حديدا ) والأصل أن المستأجر إذا خالف إلى مثل المشروط أو أخف فلا شيء عليه ، لأن الرضا بأعلى الضررين رضا بالأدنى وبمثله دلالة ، وإن خالف إلى ما هو فوقه في الضرر فعطبت الدابة ، فإن كان من خلاف جنس المشروط ضمن الدابة ؛ لأنه متعد في الجميع ولا أجر عليه; وإن كان من جنسه ضمن بقدر الزيادة وعليه الأجر ، لأنها هلكت بفعل المأذون وغير مأذون ، فيقسم على قدرهما إلا إذا كان قدرا لا تطيقه فيضمن الكل لكونه غير معتاد فلا يكون مأذونا فيه ، والحديد أضر من القطن لأنه يجتمع في موضع واحد من ظهر الدابة والقطن ينبسط .

قال : ( وإن استأجرها ليركبها فأردف آخر ضمن النصف ) وهي نظير الزيادة من الجنس تعليلا وتفصيلا .

قال : ( فإن ضربها فعطبت ضمنها ) وكذلك إن كبحها بلجامها إلا أن يكون أذن له في ذلك ، وقالا : لا يضمن إلا أن يتجاوز المعتاد ؛ لأنه لا بد من الضرب المعتاد في السير ، فكان مأذونا فيه لأن المعتاد كالمشروط .

ولأبي حنيفة أن السير يمكن بدون ذلك بتحريك الرجل والصيحة ، فلا يملك ذلك إلا بصريح الإذن; وكذا لو استأجر حمارا بسرج فأوكفه ضمن عنده ، وقالا : لا يضمن إلا أن يكون أثقل من السرج فيضمن قدر الزيادة ، أو يكون لا يوكف بمثله الحمر فيضمن الكل ؛ لأنه إذا كان [ ص: 307 ] يوكف بمثله الحمر صار هو والسرج سواء فيكون مأذونا فيه دلالة . وله أن الإكاف للحمل والسرج للركوب فكان خلاف الجنس ، ولأنه ينبسط على ظهر الدابة أكثر من السرج فكان أضر فيضمن للمخالفة .

التالي السابق


الخدمات العلمية