صفحة جزء
[ ص: 312 ] فصل

[ مفسدات الإجارة ]

وإذا فسدت الإجارة يجب أجر المثل ، ولا يزاد على المسمى ، وإذا استأجروا دارا كل شهر بدرهم صح في شهر واحد وفسد في بقية الشهور إلا أن يسمي شهورا معلومة ، فإذا تم الشهر فلكل واحد منهما نقض الإجارة ، فإن سكن ساعة في الشهر الثاني صح العقد فيه ، وكذلك كل شهر سكن أوله; ومن استأجر جملا ليحمل له محملا إلى مكة جاز وله المعتاد من ذلك ، وإن استأجره لحمل الزاد فأكل منه فله أن يرد عوضه ، ويجوز استئجار الظئر بأجرة معلومة ، ويجوز بطعامها وكسوتها ( سم ) ، ولا يمنع زوجها من وطئها ، ولا تجوز الإجارة على الطاعات كالحج والأذان والإمامة وتعليم القرآن والفقه ، وبعض أصحابنا المتأخرين قال : يجوز على التعليم والإمامة في زماننا ، وعليه الفتوى ، ولا تجوز على المعاصي كالغناء والنوح ونحوهما ، ولا على عسب التيس ، وتجوز أجرة الحجام والحمام; ومن استأجر دابة ليحمل عليها طعاما بقفيز منه فهو فاسد ، ولو قال : أمرتك أن تخيطه قباء ، وقال الخياط قميصا ، فالقول لصاحب الثوب ويحلف ، فإذا حلف فالخياط ضامن ، ولو قال : خطته بغير أجر ، وقال الصانع بأجر ، فإن كان قبل العمل يتحالفان ويبدأ بيمين المستأجر ، وإن كان بعد العمل فالقول لصاحب الثوب ، وإذا خربت الدار أو انقطع شرب الضيعة أو ماء الرحى انفسخ العقد ، ولو مات أحدهما وقد عقدها لنفسه انفسخت ، وإن عقدها لغيره لم تنفسخ .


فصل

اعلم أن الإجارة تفسد بالشروط كما يفسد البيع ، وكل جهالة تفسد البيع تفسد الإجارة من جهالة المعقود عليه أو الأجرة أو المدة لما عرف أن الجهالة مفضية إلى المنازعة . والأصل قوله - عليه الصلاة والسلام - : ( من استأجر أجيرا فليعلمه أجره " شرط أن تكون الأجرة معلومة كما [ ص: 312 ] شرطه في البيع; ولو أجر الدار على أن يعمرها أو يطينها ، أو يضع فيها جذعا فهو فاسد لجهالة الأجرة لأن بعضها مجهول ؛ لأنه لا يدري ما يحتاج إليه من العمارة ، ويعرف غيرها من الشروط المفسدة لمن يتأملها فتقاس عليها .

( وإذا فسدت الإجارة يجب أجر المثل ) لأن التسمية إنما تجب بالعقود الصحيحة . أما الفاسدة فتجب فيها قيمة المعقود عليه كما في البيع . وقال - عليه الصلاة والسلام - في النكاح بغير مهر : " فإن دخل بها فلها مهر مثلها لا وكس ولا شطط " فدل على وجوب القيمة في العقد الفاسد .

( ولا يزاد على المسمى ) لأن المنافع لا قيمة لها إلا بعقد أو شبهة عقد ضرورة لحاجة الناس ، وقد قوماها في العقد بما سميا ، فيكون ذلك إسقاطا للزيادة ، بخلاف البيع ، لأن الأعيان متقومة بنفسها ، فإذا بطل المسمى يصير كأنها تلفت بغير عقد فتجب القيمة .

قال : ( وإذا استأجر دارا كل شهر بدرهم صح في شهر واحد ) لأنه معلوم .

( وفسد في بقية الشهور ) لأن كل كلمة للعموم وأنه مجهول .

( إلا أن يسمي شهورا معلومة ) فيكون صحيحا في الكل لكونه معلوما .

قال : ( فإذا تم الشهر ) في المسألة الأولى .

( فلكل واحد منهما نقض الإجارة ) لانتهاء المدة .

( فإن سكن ساعة في الشهر الثاني صح العقد فيه ) أيضا .

[ ص: 313 ] ( وكذلك كل شهر سكن أوله ) لتمام العقد بتراضيهما بالسكنى ، وقيل يبقى الخيار لهما في أول ليلة في الشهر ويومها دفعا للحرج عنهما ، لما فيه من اللزوم بغير التزامهما .

قال : ( ومن استأجر جملا ليحمل له محملا إلى مكة جاز وله المعتاد من ذلك ) والقياس أن لا يجوز لأنه مجهول ، إلا أن الأصل أن ما لا نص فيه يرجع فيه إلى المتعارف ، والمقصود الراكب والمحمل تبع ، والجهالة فيه ترتفع بالرجوع إلى المعتاد فلا تفضي إلى المنازعة ، وإن شاهد الجمال المحمل فهو أولى قطعا للمنازعة لدلالته على الرضى .

قال : ( وإن استأجره لحمل الزاد فأكل منه فله أن يرد عوضه ) لأنه يستحق عليه حمل قدر معلوم طول الطريق ، فيرد عوض ما أكل ، وهو معتاد عند الناس إذا نقص عليهم ، وهكذا غير الزاد إذا أكله يرد مثله كما بينا; ولو استأجر بعيرين ليحمل على أحدهما محملا فيه رجلان وما لهما من الوطاء والدثار ولم يعاين المكاري ذلك ، وعلى الآخر زاملة فيه قدر من الزاد وما يحتاج إليه من الخل والزيت ونحوهما ، وما يكفيه من الماء ولم يبين قدره ، وما يصلح من القربة وخيطها والميضأة والمطهرة ولم يبين وزنه ، أو شرط أن يحمل هدايا من مكة ما يحمله الناس ، فهو جائز استحسانا ، لأن ذلك معلوم عرفا ، والمعلوم عرفا كالمشروط ، ويحمل قربتين من ماء . وإداوتين من أعظم ما يكون ، وكذلك إذا اكترى عقبة للتعارف ، وكذلك إذا استأجر دابة ليتعاقبا في الركوب ينزل أحدهما ويركب الآخر ، وإن لم يبين مقدار ما يركب كل واحد منهما لجريان التعارف بذلك .

قال : ( ويجوز استئجار الظئر بأجرة معلومة ) لقوله تعالى : ( فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن ) ولأن التعامل بذلك جار بين الناس .

قال : ( ويجوز بطعامها وكسوتها ) وقالا : لا يجوز وهو القياس للجهالة ، فإن طعامها وكسوتها مجهول ، حتى لو شرط قدرا من الطعام كل يوم ، وكسوة ثوب موصوف الجنس والطول [ ص: 314 ] والعرض كل ستة أشهر جاز بالإجماع .

ولأبي حنيفة أن هذه الجهالة لا تفضي إلى المنازعة ، لأن العادة جرت بالتوسعة على الأظآر وعدم المماكسة معهن ، وإعطائهن شهواتهن شفقة على الأولاد ، ويجب عليها القيام بأمر الصبي مما يصلحه من رضاعه ، وغسل ثيابه ، وإصلاح طعامه ، وما يداوى به ، لأن هذه الأعمال مشروطة عليها عرفا ، ولو أرضعته جاريتها أو استأجرت من أرضعته فلها الأجر لأنها بمنزلة الأجير المشترك لأن المعقود عليه العمل ، ولو شرط أن ترضعه بنفسها فأرضعته جاريتها فلا أجر لها للمخالفة فيما فيه تفاوت ، وقيل لها الأجر لأن المقصود من الإرضاع حياة الصبي وهما سواء فيه ، وما بينهما من التفاوت يسير لا يعتبر; ولو أرضعته بلبن غنم أو بقر فلا أجر لها ؛ لأنه إيجار وليس بإرضاع .

قال : ( ولا يمنع زوجها من وطئها ) لأن حقه ثابت بالنكاح قبل الإجارة ، وهو قائم بعدها ، ولهم منعه من غشيانها في منزلهم مخافة الحبل ، ولأنه ليس له ولاية الدخول إلى ملك الغير بغير أمره ، فإن حبلت فلهم فسخ الإجارة; وكذلك إن كان الصبي لا يرضع لبنها أو يقذفه أو يتقايأه ، أو تكون سارقة أو فاجرة ، أو يريدون السفر ، لأن كل ذلك أعذار ، ولأن الصبي يستضر بلبنها ، وكذلك إذا مرضت ، وكذا لو مات الصبي أو الظئر انتقضت الإجارة ولزوجها نقض الإجارة إذا لم يرض صيانة لحقه .

قال : ( ولا تجوز الإجارة على الطاعات كالحج والأذان والإمامة وتعليم القرآن والفقه ) لما روي عن عثمان بن أبي العاص - رضي الله عنه - أنه قال : آخر ما عهد إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا أتخذ مؤذنا يأخذ على الأذان أجرا ، ولأن القربة تقع من العامل . قال الله تعالى : ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) فلا يجوز له أخذ الأجرة من غيره كالصوم والصلاة ، وكذا لا يجوز على تعليم الصنائع ، لأن التعليم لا يقوم بالمعلم بل به وبالمتعلم وهو ذكاؤه وفطنته فلا يكون مقدورا له ، أو نقول هما شريكان ، فلا تصح الإجارة من أحدهما .

( وبعض أصحابنا المتأخرين قال : يجوز على التعليم والإمامة في زماننا ، وعليه الفتوى ) [ ص: 315 ] لحاجة الناس إليه وظهور التواني في الأمور الدينية ، وكسل الناس في الاحتساب ، فلو امتنع الجواز يضيع حفظ القرآن; ولو استأجر مصحفا أو كتابا ليقرأ منه لم يجز ولا أجر له ، لأن القراءة والنظر منفعة تحدث من القارئ لا من الكتاب ، فصار كما لو استأجر شيئا لينظر إليه لا يجوز .

قال : ( ولا تجوز على المعاصي كالغناء والنوح ونحوهما ) لأنها لا تستحق بالعقد فلا تجوز .

قال : ( ولا على عسب التيس ) لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك وهو أن يستأجر التيس لينزو على غنمه ، ويدخل فيه كل فحل كالحصان والحمار وغيرهما . أما النزو بغير أجر لا بأس به ، وأخذ الأجر عليه حرام .

قال : ( وتجوز أجرة الحجام ) فقد صح أنه - عليه الصلاة والسلام - احتجم وأعطى الحجام أجره والنهي الوارد فيه للإشفاق لما فيه من الدناءة وبإجماع المسلمين .

قال : ( والحمام ) للتعامل ولا اعتبار للجهالة مع اصطلاح المسلمين .

قال : ( ومن استأجر دابة ليحمل عليها طعاما بقفيز منه فهو فاسد ) لأنه جعل الأجر بعض ما يخرج من عمله فصار كقفيز الطحان ، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قفيز الطحان ، وهو أن يستأجر ثورا أو رحى ليطحن له حنطة بقفيز منها . وينبني على هذا مسائل كثيرة تعرف بالتأمل : منها إذا دفعه إلى حائك غزلا لينسجه بالنصف ، والمعنى فيه أن المستأجر عجز عن الأجرة وهو بعض المنسوج والمطحون ، لأن ذلك إنما يحصل بفعل الأجر فلا يكون قادرا بقدرة غيره .

قال : ( ولو قال أمرتك أن تخيطه قباء ، وقال الخياط قميصا فالقول لصاحب الثوب ) وكذا إذا اختلفا في صبغ الثوب أصفر أو أحمر ، أو بزعفران أو بعصفر ; ووجهه أن الخياط والصباغ أقر بسبب الضمان وهو التصرف في ملك الغير ، ثم ادعى ما يبرئه وصاحبه ينكر ، ولأن الإذن يستفاد من جهة رب الثوب فيكون القول قوله لأنه أخبر بذلك .

[ ص: 316 ] ( ويحلف ) لأنه لو أقر لزمه فيحلف لاحتمال النكول ( فإذا حلف فالخياط ضامن ) معناه : إن شاء ضمنه الثوب ، وإن شاء أخذه وأعطاه أجر مثله ، أو ما زاد الصبغ في رواية .

( ولو قال خطته بغير أجر ، وقال الصانع بأجر ) فإن كان قبل العمل يتحالفان ويبدأ بيمين المستأجر .

( لأن كل واحد منهما يدعي عقدا والآخر ينكره ) لأن أحدهما يدعي هبة العمل ، والآخر يدعي بيعه .

( وإن كان بعد العمل فالقول لصاحب الثوب ) لأنه منكر ؛ لأنه لا قيمة للعمل بدون العقد ، وهذا قول أبي حنيفة . وذكر أبو الليث عنه في العيون إن كانت الخياطة حرفته فله أجر مثله عملا بالعرف ، وإلا فلا أجر له ويكون متبرعا لما بينا . وقال أبو يوسف : لا أجر له إلا أن يكون معاملة فيكون له الأجر جريا على عادتهما .

وقال محمد : إن اتخذ حانوتا وانتصب لهذه الصناعة فله الأجرة وإلا فلا ، وعليه الفتوى ؛ لأنه دليل على العمل بالأجرة عرفا ، والمعروف كالمشروط .

قال محمد : لو أمره أن ينقش اسمه على فصه فنقش اسم غيره ضمنه ؛ لأنه فوت غرضه وهو الختم فصار كالاستهلاك; ولو استأجره ليحفر له بئرا بأجر مسمى وسمى طولها وعرضها جاز; وفي القبور يجوز وإن لم يبين ذلك لأنه معلوم عرفا ، فإن وجد باطن الأرض أشد فليس بعذر ، وإن تعذر الحفر فهو عذر ولا يستحق الأجر حتى يفرغ ؛ لأنه عمل واحد لا ينتفع به قبل التمام .

قال : ( وإذا خربت الدار ، أو انقطع شرب الضيعة أو ماء الرحى ، انفسخ العقد ) لفوات المعقود عليه وهي المنفعة قبل القبض لما بينا أنها تحدث شيئا فشيئا ، وصار كموت العبد المستأجر ، وقيل لا ينفسخ لكن له الفسخ . قالوا : وهو الأصح فإنه روي عن محمد نصا : لو انهدم البيت المستأجر فبناه الآجر ليس للمستأجر أن يمتنع ، وذلك لأن أصل المعقود عليه لا يفوت ، لأن الانتفاع بالعرصة ممكن بدون البناء ، إلا أنه ناقص فصار كالعيب فيستحق الفسخ ، ولو وجد بها عيبا يخل بالمنافع كمرض العبد والدابة وندبها وانهدام بعض البناء فله الخيار ، إن شاء استوفى المنفعة مع العيب ، ويلزمه جميع البدل لأنه رضي بالعيب ، وإن شاء فسخ لأنه وجد العيب قبل القبض ، لأن المنفعة توجد شيئا فشيئا فكان له فسخه ، فإن زال العيب أو أزاله المؤجر فلا خيار له .

[ ص: 317 ] ( ولو مات أحدهما وقد عقدها لنفسه انفسخت ) لما مر أنها تنعقد شيئا فشيئا فلا تبقى بدون العاقد .

( وإن عقدها لغيره لم تنفسخ ) كالوصي والولي وقيم الوقف والوكيل لأنه نائب عنهم فكأنه معبر .

التالي السابق


الخدمات العلمية