صفحة جزء
[ ص: 319 ] كتاب الرهن

وهو عقد وثيقة بمال مضمون بنفسه يمكن استيفاؤه منه ، ولا يتم إلا بالقبض أو بالتخلية ، وقبل ذلك إن شاء سلم وإن شاء لا ، ولا يصح إلا محوزا مفرغا متميزا ، فإذا قبضه المرتهن دخل في ضمانه ، ويهلك على ملك الراهن حتى يكفنه ، ويصير المرتهن مستوفيا من ماليته قدر دينه حكما والفاضل أمانة ، وإن كان أقل سقط من الدين بقدره ، وتعتبر القيمة يوم القبض ، فإن أودعه أو تصرف فيه ببيع أو إجارة أو إعارة أو رهن ونحوه ضمنه بجميع قيمته ، ونفقة الرهن وأجرة الراعي على الراهن وماؤه له ويصير رهنا مع الأصل ، إلا أنه إن هلك يهلك بغير شيء ، وإن بقي النماء وهلك الأصل افتكه بحصته ، يقسم الدين على قيمته يوم الفكاك وقيمة الأصل يوم القبض وتسقط حصة الأصل ، وتجوز الزيادة في الرهن ( ز ) ولا تجوز في الدين ( س ) ولا يصير الرهن رهنا بهما ، وأجرة مكان الحفظ على المرتهن ، وله أن يحفظه بنفسه وزوجته وولده وخادمه الذي في عياله ، وليس له أن ينتفع بالرهن ، فإن أذن له الراهن فهلك حالة الاستعمال هلك أمانة .


[ ص: 319 ] وهو في اللغة : مطلق الحبس ، قال الله تعالى : ( كل نفس بما كسبت رهينة ) .

وفي الشرع : الحبس بمال مخصوص بصفة مخصوصة ، شرع وثيقة للاستيفاء ليضجر الراهن بحبس عينه فيسارع إلى إيفاء الدين ليفتكها فينتفع بها ويصل المرتهن إلى حقه . ثبتت شرعيته بالكتاب والسنة والإجماع . أما الكتاب فقوله تعالى : ( فرهان مقبوضة ) وأنه أمر بصيغة الإخبار نقلا عن المفسرين ، معناه : وإن كنتم مسافرين ولم تجدوا كاتبا فارتهنوا رهانا مقبوضة وثيقة بأموالكم . والسنة ما روي " أنه - عليه الصلاة والسلام - رهن درعه عند أبي الشحم اليهودي بالمدينة " وبعث - صلى الله عليه وسلم - والناس يتعاملون به فأقرهم عليه ، وعليه الإجماع .

قال : ( وهو عقد وثيقة ) لا بد فيه من الإيجاب والقبول كسائر العقود .

قال : ( بمال مضمون بنفسه ) أي بمثله .

( يمكن استيفاؤه منه ) على ما نبينه إن شاء الله تعالى .

( ولا يتم إلا بالقبض ) قال الله تعالى : ( فرهان مقبوضة ) وصفها بكونها مقبوضة فلا تكون إلا بهذه الصفة ، ولأنه عقد تبرع ، ألا ترى أنه لا يجبر عليه ، فيكون تمامه بالقبض كالهبة .

( أو بالتخلية ) لقيامها مقامه كما في البيع والهبة .

[ ص: 320 ] ( وقبل ذلك إن شاء سلم وإن شاء لا ) لما بينا أنه تبرع ؟ ثم الرهن لا يخلو ، إما إن كان بدين وهو المثلي ، أو بعين وهو غير المثلي; فإن كان بدين جاز على كل حال بأي وجه ثبت ، سواء كان من الأثمان أو من غيرها; وإن كان بعين فالأعيان على وجهين : مضمونة ، وغير مضمونة . فالمضمونة على وجهين : مضمونة بنفسها ، ومضمونة بغيرها; فالمضمون بنفسه : ما يجب عند هلاكه مثله أو قيمته كالمغصوب ، والمهر ، وبدل الخلع ، والصلح عن دم العمد ، فيجوز الرهن بها لأنها مضمونة ضمانا صحيحا يمكن استيفاء الدين منه; والمضمونة بغيرها كالمبيع في يد البائع فلا يجوز الرهن بها ؛ لأنه لا يجب بهلاكه حتى يستوفى من الرهن ؛ لأنه إذا هلك المبيع يبطل البيع ويسقط الثمن فصار كما ليس بمضمون . والأعيان غير المضمونة : وهي الأمانات كالوديعة والعارية ، ومال المضاربة ، والشركة ، والمستأجر ونحوها ، لا يجوز الرهن بها ، لأن الرهن مقتضاه الضمان على ما نبينه إن شاء الله تعالى ، وما ليس بمضمون لا يوجد فيه معنى الرهن ، وقوله في المختصر يمكن استيفاؤها منه احترازا عن هذا ، ولا يجوز بالشفعة ولا بالدرك ولا بدين سيجب ؛ لأنه وثيقة بمعدوم ، ولا بالقصاص في النفس وما دونها لعدم التمكن من الاستيفاء ، ويجوز بجناية الخطأ ، ويكون رهنا بالأرش لأنه يمكن استيفاؤه ، ولا يجوز بالكفالة بالنفس لتعذر الاستيفاء ، ولا بأجرة النائحة والمغنية لأنه غير مضمون ، ويجوز شرط الخيار للراهن لأنه لا يملك الفسخ فيفيد الشرط ، ولا يجوز للمرتهن لأنه يملك الفسخ بغير شرط فلا يفيد ، ولا يجوز رهن ما لا يجوز بيعه كالحر ، والمدبر ، وأم الولد ، والمكاتب ، والميتة والدم لأنه يمكن الاستيفاء منها فلا يحصل التوثق ، وكذا جذع في سقف ، وذراع من ثوب ، وأشباهه لما مر .

ولا يجوز للمسلم رهن الخمر والخنزير ، ويجوز للذمي ، لأن الرهن والارتهان للوفاء والاستيفاء ، ولا يجوز للمسلم ذلك من الخمر ويجوز للذمي ، ثم الرهن على ثلاثة أضرب : جائز ، وباطل وقد ذكرناهما . وفاسد وهو رهن المبيع ، ورهن المشاع والمشغول بحق الغير ، أو اشترى عبدا أو خلا ، ورهن بالثمن رهنا ثم ظهر العبد حرا ، والخل خمرا ، أو قتل عبدا فأعطاه بقيمته رهنا ثم ظهر حرا .

قال القدوري في شرحه : يهلك بغير شيء ، لأن المبيع غير مضمون بنفسه ، والقبض لم يتم في المشاع والمشغول ، ولم يصح في الحر والخمر كما لو رهنه ابتداء .

ونص محمد في المبسوط والجامع : أن المقبوض بحكم رهن فاسد مضمون بالأقل من قيمته ومن الدين ، لأن الرهن انعقد لمقابلة المال بالمال حقيقة في البعض ، وفي البعض في ظنهما ، لكنه فسد لنقصان فيه ؛ لأنه لا يمكن استيفاؤه من الرهن فيكون مضمونا بالأقل منهما ، كالمقبوض في البيع الكاسد مضمون [ ص: 321 ] بقيمته فكذا هذا ، إلا أنه يضمن الأقل منهما هنا; أما إذا كانت القيمة أقل فظاهر; وأما إذا كان الدين أقل فلأنه إنما قبضه ليكون مضمونا بالدين ، والمختار قول محمد .

قال : ( ولا يصح إلا محوزا مفرغا متميزا ) فالمحوز المعلوم الذي يمكن حيازته ، والمفرغ الذي لا يكون مشغولا بحق الغير ، والمتميز المقسوم الذي قد تميز عن بقية الأنصباء ، لأن قبض الجزء الشائع لا يتصور بانفراده ، وقبض الكل لا يقتضيه العقد ، وكذا كونه مشغولا بحق الغير يخل بقبضه وحبسه ، وكذا المجهول لا يمكن قبضه ، ومقصود الرهن وهو الاستيثاق لا يحصل إلا بالحبس الدائم ، والحبس لا يتصور بدون القبض ، والقبض لا يمكن بدون هذه الأوصاف ، فلا يصح الرهن بدونها .

قال : ( فإذا قبضه المرتهن دخل في ضمانه ) لما روي أن رجلا رهن فرسا له بدين فنفق . فاختصما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال - عليه الصلاة والسلام - للمرتهن : " ذهب حقك " وقال - عليه الصلاة والسلام - : " إذا عمي الرهن فهو بما فيه " قالوا : معناه - والله أعلم - إذا هلك فاشتبهت قيمته; وقد نقل أصحابنا إجماع الأمة على أنه مضمون على اختلافهم في كيفية الضمان ، ولأنه لما ملك حبسه صار مستوفيا حقه من وجه لأنه الاستيفاء ليتوسل به إلى حقه مخافة الجحود ، وقد تأكد هذا الاستيفاء بالهلاك ، فلو وفاه ثانيا يؤدي إلى الربا ، ولا يمكنه المطالبة بحقه إلا أن ينقض القبض والحبس ويرده إلى الراهن ، وأنه عاجز عنه ففات شرط المطالبة فبطلت; ومن ادعى أنه أمانة فقد خالف الإجماع ، وتعلقه بقوله - عليه الصلاة والسلام - : " لا يغلق الرهن ، هو لصاحبه ، له غنمه ، وعليه غرمه " لا حجة له فيه لأن معناه لا يصير الرهن للمرتهن بدينه ولا يحبسه بحيث لا ينفك ، هذا معناه ، ويشهد له بيت ابن زهير :


وفارقتك برهن لا فكاك له يوم الوداع فأضحى الرهن قد غلقا

[ ص: 322 ] أي محبوسا لا فكاك له ، وكذا كانت عادتهم في الجاهلية ، فقال - عليه الصلاة والسلام - ذلك قلعا لهم عن العوائد الجاهلية ، لما فيه من تملك مال الغير بغير أمره وقوله : " له غنمه ، وعليه غرمه " أي إذا بيع ففضل من الثمن شيء فهو له ، وإن نقص فعليه ، أو له غنمه لسقوط الدين عنه بهلاكه ، وعليه غرمه ، وهو قضاء ما بقي الدين إن لم يف به . وعن علي - رضي الله عنه - في مثله ، قال يترادان الفضل .

قال : ( ويهلك على ملك الراهن حتى يكفنه ) لأنه ملكه حقيقة ، وهو أمانة في يد المرتهن حتى لو اشتراه لا ينوب قبض الرهن عن قبض الشراء ؛ لأنه قبض أمانة فلا ينوب عن قبض الضمان ، وإذا كان ملكه فمات كان عليه كفنه .

قال : ( ويصير المرتهن مستوفيا من ماليته قدر دينه حكما ، والفاضل أمانة ، وإن كان أقل سقط من الدين بقدره ) لأن المضمون قدر ما يستوفيه من الدين ، فعند زيادة قيمته الزيادة أمانة ، لأنها فاضلة عن الدين وقد قبضها بإذن المالك ، وعند النقصان قد استوفى قيمته فبقي الباقي عليه كما كان .

قال : ( وتعتبر القيمة يوم القبض ) لأنه يومئذ دخل في ضمانه وفيه يثبت الاستيفاء يدا ثم يتقرر بالهلاك ، ولو اختلفا في القيمة ، فالقول للمرتهن لأنه ينكر الزيادة ، والبينة للراهن لأنه يثبتها . قال : ( فإن أودعه أو تصرف فيه ببيع أو إجارة أو إعارة أو رهن ونحوه ضمنه بجميع قيمته ) .

وكذا إذا تعدى فيه كاللبس والركوب والسكنى والاستخدام لأنه متعد في ذلك إذ هو غير مأمور به من جهة المالك ، والزائد على قدر الدين أمانة ، والأمانات تضمن بالتعدي ، ولا ينفسخ عقد الرهن بالتعدي ، ولأنه ما رضي إلا بحفظه والناس يختلفون فيه فكان مخالفا ، بخلاف زوجته وولده وخادمه الذين في عياله ، لأن الإنسان إنما يحفظ ماله غالبا بهؤلاء ، فيكون الرضى بحفظه رضى بحفظهم ، ولأنه لا بد له من ذلك ؛ لأنه لا يمكنه ملازمة البيت ، ولا استصحاب الرهن ، فصار الحفظ بهؤلاء معلوما له فلا يضمن; ولبس الخاتم في خنصره تعد ، وفي غيرها حفظ ، والتقلد بالسيف والسيفين تعد للعادة وبالثلاث لا ; ووضع العمامة والطيلسان على الرأس كما جرت به العادة تعد ، ووضعهما على العاتق أو الكتف لا ; والتعمم بالقميص ليس بتعد; ووضع الخلخال موضع السوار وبالعكس ليس بتعد ، ولبسهما موضعهما تعد .

[ ص: 323 ] قال : ( ونفقة الرهن ، وأجرة الراعي على الراهن ) وكذلك كل ما يحتاج إليه لبقاء الرهن ومصلحته ؛ لأنه باق على ملكه وذلك مؤونة الملك ، والرعي من النفقة لأنه علف الحيوان والكسوة والظئر ، وإصلاح شجر البستان وسقيها ، وجذاذ الثمرة من النفقة .

قال : ( ونماؤه له ) لبقائه على ملكه كالولد واللبن والسمن والثمرة .

( ويصير رهنا مع الأصل ) لأن الرهن حق لازم فيسري إلى التبع .

( إلا أنه إن هلك يهلك بغير شيء ) لأنه لم يدخل تحت العقد مقصودا فلا يكون له قسط من الدين ، ولأن المرتهن لم يقبضها بجهة الاستيفاء ، ولا التزم ضمانها فلا يلزمه كولد المبيعة قبل القبض مبيع وليس بمضمون على البائع ، ولا معتبر بنقصان القيمة وزيادتها لأن ذلك يختلف باختلاف رغبات الناس ، أما العين فلم تتغير ، والقبض ورد على العين دون القيمة ، وغلة العقار وكسب الرهن ليس برهن لأنه غير متولد منه ولا بدل عنه ككسب المبيع وغلته .

قال : ( وإن بقي النماء وهلك الأصل افتكه بحصته ) لأن الرهن مضمون بالقبض ، والزيادة مقصودة بالفكاك ، ومتى صار التبع مقصودا قابله شيء من البدل كولد المبيع .

قال : ( يقسم الدين على قيمته يوم الفكاك ، وقيمة الأصل يوم القبض ) لما بينا .

( وتسقط حصة الأصل ) لما مر .

قال : ( وتجوز الزيادة في الرهن ولا تجوز في الدين ، ولا يصير الرهن رهنا بهما ) وقال أبو يوسف : تجوز الزيادة في الدين أيضا ، لأن الدين والرهن كالثمن والمبيع ، فتجوز الزيادة فيهما بجامع دفع الحاجة ، بدليل إقدامهما وصحة تصرفهما .

ولنا أن الزيادة في الرهن توجب شيوع الدين ، وذلك غير مانع من صحة الرهن ، والزيادة في الدين توجب شيوع الرهن لأنه لا بد أن يقابله شيء من الرهن وشيوع الرهن مانع من صحته على ما بينا .

وقال زفر : لا يجوز فيهما ، أما في الدين فلما قالا ، وأما في الرهن فلأنه جعله رهنا ببعض الدين فلا يجوز كما إذا جعله رهنا بكله ، فإنه لو جعله رهنا بكله لا يجوز حتى يرد المرتهن الرهن الأول ، وجوابه أن الزيادة تلحق بأصل [ ص: 324 ] العقد كما مر في البيع فيصير كأنه رهنهما من الابتداء .

قال : ( وأجرة مكان الحفظ على المرتهن ) لأن الحفظ عليه ليرده إلى الراهن ليسلم له حقه فيكون عليه بدله أيضا ، وكذلك أجرة الحافظ ، وجعل الآبق ؛ لأنه يحتاج إلى إعادة يده ليرده على مالكه فكان من مؤونة الرد فيجب عليه ، وإن كانت قيمته أكثر من الدين فعلى الراهن قدر الزيادة لأنها أمانة فتكون يده يد المالك فتكون المؤونة على المالك ، وهذا في جعل الآبق ظاهر ؛ لأنه لأجل الضمان فيتقدر بقدر المضمون; أما أجرة البيت فالجميع على المرتهن لأنه بسبب الاحتباس ، والحبس ثابت له في الكل ، والخراج على الراهن لأنه مؤونة ملكه .

قال : ( وله أن يحفظه بنفسه وزوجته وولده وخادمه الذي في عياله ) وقد تقدم .

قال : ( وليس له أن ينتفع بالرهن ) لأنه غير مأذون له في ذلك ، وإنما له ولاية الحبس لا غير .

( فإن أذن له الراهن فهلك حالة الاستعمال هلك أمانة ) لأنه عارية على ما يأتي في بابها ، وإن هلك قبل الاستعمال هلك مضمونا لبقاء يد الراهن ، وكذا بعد الاستعمال لزوال يد العارية وعود الراهن .

التالي السابق


الخدمات العلمية