صفحة جزء
[ ص: 343 ] والأولى أن يكون القاضي مجتهدا ، فإن لم يوجد فيجب أن يكون من أهل الشهادة موثوقا به في دينه وأمانته وعقله وفهمه ، عالما بالفقه والسنة ، وكذلك المفتي ، ولا يطلب الولاية ، ويكره الدخول فيه لمن يخاف العجز عن القيام به ، ولا بأس به لمن يثق من نفسه أداء فرضه ، ومن تعين له تفترض عليه الولاية ، ويجوز التقليد من ولاة الجور .


قال : ( والأولى أن يكون القاضي مجتهدا ) لأن الحادثة إذا وقعت يجب طلبها من الكتاب ثم من السنة ثم من الإجماع ، فإن لم يوجد في شيء من ذلك استعمل الرأي والاجتهاد ، ويشهد له حديث معاذ حين بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن وولاه الحكم بها ، فقال له : " كيف تصنع إن عرض لك حكم ؟ " قال : أقضي بما في كتاب الله ، قالت : " فإن لم تجد ؟ " قال : فبسنة رسول الله ، قال : " فإن لم تجد ؟ " قال : أجتهد برأيي ، فقال - عليه الصلاة والسلام - : " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي الله ورسوله " وإنما لم يذكر الإجماع ؛ لأنه لا إجماع مع وجوده عليه الصلاة والسلام ، لأنه بمنزلة القياس مع النص بعده عليه الصلاة والسلام .

قال : ( فإن لم يوجد فيجب أن يكون من أهل الشهادة موثوقا به في دينه وأمانته وعقله وفهمه ، عالما بالفقه والسنة ، وكذلك المفتي ) أما أهلية الشهادة ؛ فلأنها من باب الولاية والقضاء [ ص: 344 ] أقوى وأعم ولاية ، وكل من كان من أهل الشهادة كان من أهل القضاء ، ومن لا فلا; ولا تجوز ولاية الصبي والمجنون والعبد ؛ لأنه لا ولاية لهم ، ولا الأعمى ؛ لأنه ليس من أهل الشهادة ، ولوجود الالتباس عليه في الصوت وغيره; والأطروش يجوز لأنه يفرق بين المدعي والمدعى عليه ويميز بين الخصوم ، وقيل لا يجوز لأنه لا يسمع الإقرار ، فربما ينكر إذا استعاده فتضيع حقوق الناس; والفاسق يجوز قضاؤه كما تجوز شهادته ، ولا ينبغي أن يولي كما لا ينبغي أن يعمل بشهادته . وفي النوادر عن أصحابنا أنه لا يجوز قضاؤه ، ولو فسق بعد الولاية استحق العزل ولا ينعزل ، وقيل ينعزل لأن الذي ولاه ما رضي به إلا عدلا ، ويشترط دينه وأمانته ؛ لأنه يتصرف في أموال الناس ودمائهم ولا يوثق على ذلك من لا أمانة له ، وكذلك العقل ؛ لأنه الأصل في الأمور الدينية . وأما الفهم فلتفهم معاني الكتاب والحديث وما يرد عليه من القضايا والدعاوى وكتب القضاة وغير ذلك .

وأما العلم بالفقه والسنة فلأنه إذا لم يعلم بذلك لا يقدر على القضاء ولا يعلم كيف يقضي .

وعن أبي يوسف : لأن يكون القاضي ورعا أحب إلي من أن يكون مجتهدا . وقال : إذا كان عالما بالفرائض يكفي في جواز القضاء . وقيل يجوز تقليد الجاهل ؛ لأنه يقدر على القضاء بالاستفتاء ، والأولى أن يكون عالما قال - عليه الصلاة والسلام - : " من قلد إنسانا عملا وفي رعيته من هو أولى منه فقد خان الله ورسوله وجماعة المسلمين " وكذلك المفتي ؛ لأن الناس يرجعون إلى فتواه في حوادثهم ويقتدون به ويعتمدون على قوله ، فينبغي أن يكون بهذه الأوصاف; والفاسق لا يصلح أن يكون مفتيا ؛ لأنه لا يقبل قوله في أخبار الديانات; وقيل يصلح لأنه يتحرز لئلا ينسب إلى الخطأ .

قال : ( ولا يطلب الولاية ) لقوله - عليه الصلاة والسلام - لعبد الرحمن بن سمرة : " يا عبد الرحمن لا تسأل الولاية ، فإنك إن سألتها وكلت إليها ، وإن أعطيتها أعنت عليها " وقال - عليه الصلاة والسلام - : " من طلب عملا فقد غل " وعن عمر - رضي الله عنه - : ما عدل من طلب القضاء .

قال : ( ويكره الدخول فيه لمن يخاف العجز عن القيام به ) لما فيه من المحذور ، وقيل يكره الدخول لمن يدخله مختارا لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " من ولي القضاء فكأنما ذبح بغير [ ص: 345 ] سكين " قيل معناه إذا طلب ، وقيل إذا لم يكن أهلا .

قال : ( ولا بأس به لمن يثق من نفسه أداء فرضه ) لأن كبار الصحابة والتابعين تقلدوه وكفى بهم قدوة ، والنبي - عليه الصلاة والسلام - ولى عليا ولو كان مكروها لما ولاه . وقال - عليه الصلاة والسلام - : " إذا حكم الحاكم فأصاب فله أجران " واختيار أبي بكر الرازي الامتناع عنه; وقيل الدخول فيه رخصة والترك عزيمة وهو الصحيح .

( ومن تعين له تفترض عليه الولاية ) وقد بيناه ، ولو امتنع لا يجبر عليه; ولو كان في البلد جماعة يصلحون وامتنعوا والسلطان يفصل بين الخصوم لم يأثموا ، وإن كان لا يمكنه ذلك أثموا ، وإن امتنعوا حتى قلد جاهلا أثم الكل .

قال : ( ويجوز التقليد من ولاة الجور ) لأن الصحابة تقلدوه من معاوية وكان الحق مع علي - رضي الله عنه - ، والتابعون تقلدوه من الحجاج مع جوره ؛ ولأن فيه إقامة الحق ودفع الظلم حتى لو لم يمكنه من ذلك لا يجوز له الولاية منه .

التالي السابق


الخدمات العلمية