صفحة جزء
[ ص: 345 ] فإذا قلد القضاء يطلب ديوان القاضي الذي قبله ، وينظر في خرائطه وسجلاته ، وعمل في الودائع وارتفاع الوقوف بما تقوم به البينة أو باعتراف من هو في يده ، ولا يعمل بقول المعزول إلا أن يكون هو الذي سلمها إليه ، ويجلس للقضاء جلوسا ظاهرا في المسجد ، والجامع أولى ، ويتخذ مترجما وكاتبا عدلا مسلما له معرفة بالفقه ، ويسوي بين الخصمين في الجلوس والإقبال والنظر والإشارة ، ولا يسار أحدهما ولا يلقنه حجته ، ولا يضحك ، ولا يستخلف على القضاء إلا أن يفوض إليه ذلك ، ولا يقضي على غائب إلا أن يحضر من يقوم مقامه ، أو ما يكون ما يدعيه على الغائب سببا لما يدعيه على الحاضر .


قال : ( فإذا قلد القضاء ) ينبغي له أن يتقي الله تعالى ويؤثر طاعته ويعمل لمعاده ويقصد إلى الحق بجهده فيما تقلده .

و ( يطلب ديوان القاضي الذي قبله وينظر في خرائطه وسجلاته ) لأنها وضعت لتكون حجة عند الحاجة ، فتجعل في يد المتولي ؛ لأنه يحتاج إليها ليعمل بها .

قال : ( وعمل في الودائع وارتفاع الوقوف بما تقوم به البينة ) لأنها حجة شرعية .

[ ص: 346 ] ( أو باعتراف من هو في يده ) لأنه أمين .

( ولا يعمل بقول المعزول ) لأنه شاهد وشهادة الفرد لا عمل بها .

قال : ( إلا أن يكون هو الذي سلمها إليه ) لأن يده كيده فيكون أمينا فيه ، وينبغي أن يبعث رجلين من ثقاته والواحد يكفي ، فيقبضان من المعزول ديوانه ، وهو ما ذكرنا من الخرائط والسجلات ، فيجمعان كل نوع في خريطة حتى لا يشتبه على القاضي ، ويسألان المعزول شيئا فشيئا لينكشف ما يشكل عليهما ويختمان عليه ، وهذا السؤال ليس للإلزام بل لينكشف به الحال ، فإن أبى المعزول أن يدفع إليهما النسخ أجبر على ذلك ، سواء كان البياض من بيت المال وهو ظاهر لأنه لمصالح المسلمين ، أو من الخصوم لأنهم وضعوها في يد العامل بها ، أو من ماله ؛ لأنه فعله تدينا لا تمولا ، ويأخذان الودائع وأموال اليتامى ويكتبان أسماء المحبوسين ويأخذان نسختهم من المعزول لينظر المولى في أحوالهم فمن اعترف بحق أو قامت عليه بينة ألزمه عملا بالحجة ، وإلا نادى عليه في مجلسه من كان يطالب فلانا المحبوس بحق فليحضر ، فمن حضر وادعى عليه ابتدأ الحكم بينهم ، وينادي أياما على حسب ما يرى القاضي وإن لم يحضر لا يخليه حتى يستظهر في أمره ، فيأخذ منه كفيلا بنفسه لاحتمال أنه محبوس بحق غائب وهو الظاهر ؛ لأن فعل المعزول لا يكون عبثا .

قال : ( ويجلس للقضاء جلوسا ظاهرا في المسجد ) لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يفصل بين الخصوم في المسجد ، وكذا الخلفاء الراشدون بعده ، ودكة علي - رضي الله عنه - في مسجد الكوفة إلى الآن معروفة . وقال - عليه الصلاة والسلام - : " إنما بنيت المساجد لذكر الله وللحكم " ولئلا يشتبه على الغرباء مكانه .

( والجامع أولى ) لأنه أشهر ، وإن كان الخصم حائضا أو نفساء خرج القاضي إلى باب المسجد فنظر في خصومتها أو أمر من يفصل بينهما ، كما لو كانت المنازعة في دابة فإنه يخرج [ ص: 347 ] لاستماع الدعوى والإشارة إليه في الشهادة ، وإن جلس في بيت جاز ، ويأذن للناس بالدخول فيه ، ولا يمنع أحدا من الدخول عليه ، ويجلس معه من كان يجلس معه في المسجد ، ويكون الأعوان بالبعد عنه بحيث لا يسمعون ما يكون بينه وبين ما تقدم إليه للخصومة ، ويستحب أن يجلس معه قريبا منه قوم من أهل الفقه والديانة ، ولا بأس بأن يجلس وحده إذا كان عالما بالقضاء .

قال : ( ويتخذ مترجما وكاتبا عدلا مسلما له معرفة بالفقه ) لأنه إذا لم يكن عدلا لا تؤمن خيانته ، وإذا لم يكن مسلما لا يؤمن أن يكتب ما لا تقتضيه الشريعة ، وإذا لم يكن فقيها لا يعرف كتبة السجلات وما يحتاج إليه القاضي من الأحكام ، ويجلس ناحية عنه حيث يراه حتى لا يخدع بالرشوة .

قال : ( ويستوي بين الخصمين في الجلوس والإقبال والنظر والإشارة ) قال الله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء ) أي بالعدل والتسوية . وقال - عليه الصلاة والسلام - : " إذا ابتلي أحدكم بالقضاء فليسو بين الخصوم في المجلس والإشارة والنظر " وفي كتاب عمر - رضي الله عنه - : آس بين الناس في مجلسك ووجهك وعدلك ، ومعناه ما ذكرنا ، ثم نبه على العلة فقال : حتى لا يطمع شريف في حيفك ، ولا يخاف ضعيف جورك ، ولأنه إذا فضل أحدهما ينكسر قلب الآخر فلا ينشرح للدعوى والجواب ، وينبغي أن يجلسوا بين يدي القاضي جثوا ولا يجلسهما في جانب ، ولا أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله ، وإذا تقدم إليه الخصمان إن شاء بدأهما فقال ما لكما ، وإن شاء سكت حتى يتكلما ، فإذا تكلم أحدهما أسكت الآخر ليفهم دعواه .

قال : ( ولا يسار أحدهما ولا يلقنه حجته ) لما بينا; ولما فيه من التهمة .

[ ص: 348 ] لأحدهما ، ولا يمازحهما ، ولا أحدهما ، ولا يضيف أحدهما دون الآخر ، ولا يقبل هدية أجنبي لم يهد له قبل القضاء ، ولا يحضر دعوة إلا العامة ، ويعود المرضى ، ويشهد الجنائز ، فإن حدث له هم ، أو نعاس ، أو غضب ، أو جوع ، أو عطش ، أو حاجة حيوانية كف عن القضاء . ولا يبيع ولا يشتري في المجلس لنفسه ، . . . . . . . . .

( ولا يضحك لأحدهما ) لأن ذلك يجرئه على خصمه .

( ولا يمازحهما ولا أحدهما ) لأنه يخل بهيبة القضاء .

( ولا يضيف أحدهما دون الآخر ) لما بينا ، وقد ورد النهي عنه .

قال : " ولا يقبل هدية أجنبي لم يهد له قبل القضاء ) قال - عليه الصلاة والسلام - : " هدايا الأمراء غلول " ولأنه إنما أهدى له للقضاء ظاهرا فكان آكلا بالقضاء فأشبه الرشوة ، بخلاف من جرت عادته بمهاداته قبل القضاء ؛ لأن الظاهر أنه جرى على عادته حتى لو زاد على العادة أو كان له خصومة لا يقبلها ، والقريب على هذا التفصيل .

قال : ( ولا يحضر دعوة إلا العامة ) كالعرس والختان ؛ لأنه لا تهمة فيها والإجابة سنة ، ولا يجيب الخاصة لمكان التهمة إلا إذا كانت من قريب أو من جرت عادته بذلك قبل القضاء على التفصيل المتقدم ، والعشرة فما دونها خاصة وما فوقها عامة ، وقيل الخاصة ما لو علم أن القاضي لا يحضرها لا يعملها .

قال : ( ويعود المرضى ويشهد الجنائز ) لأنها من حقوق المسلم على المسلم على ما نطق به النص ، ولا يطيل مكثه في ذلك المجلس ، ولا يمكن أحدا من التكلم فيه بشيء من الخصومات .

قال : ( فإن حدث له هم أو نعاس ، أو غضب أو جوع ، أو عطش ، أو حاجة حيوانية كف عن القضاء ) قال - عليه الصلاة والسلام - : " لا يقضي القاضي وهو غضبان " وفي رواية " وهو شبعان " ولأنه يحتاج إلى الفكر ، وهذه الأعراض تمنع صحة الفكر فتخل بالقضاء ، ويكره له صوم التطوع يوم القضاء ، لأنه لا يخلو عن الجوع ، ولا يتعب نفسه بطول الجلوس ؛ لأنه ربما ضجر ومل ويقعد طرفي النهار; وإذا طمع في رضى الخصمين ردهما مرة ومرتين لقول عمر - رضي الله عنه - : ردوا الخصوم حتى يصطلحوا ، وإن لم يطمع أنفذ القضاء بينهما لعدم الموجب للتأخير .

قال : ( ولا يبيع ولا يشتري في المجلس لنفسه ) لما فيه من التهمة ، ولا بأس في غير [ ص: 349 ] المجلس . وعن أبي حنيفة - رحمه الله - يكره أيضا ، وإنما يبيع ويشتري ممن لا يعرفه ولا يحابيه .

قال : ( ولا يستخلف على القضاء إلا أن يفوض إليه ذلك ) لأنه كالوكيل عن الإمام; والوكيل ليس له أن يوكل إلا أن يؤذن له .

قال : ( ولا يقضي على غائب ) لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " يا علي لا تقض لأحد الخصمين حتى تسمع كلام الآخر " ؛ ولأن القضاء لقطع المنازعة ، ولا منازعة بدون الإنكار فلا وجه إلى القضاء .

قال : ( إلا أن يحضر من يقوم مقامه ) إما بإنابته كالوكيل ، أو بإنابة الشرع كالوصي من جهة القاضي .

( أو ما يكون ما يدعيه على الغائب سببا لما يدعيه على الحاضر ) كمن ادعى دارا في يد رجل فأنكر فأقام المدعي البينة أنه اشتراها من فلان الغائب يقضي بها على الحاضر والغائب ، وكذا لو ادعى شفعة وأنكر ذو اليد الشراء ، فأقام البينة أن ذا اليد اشتراها من الغائب يقضي على الحاضر والغائب جميعا ، وكذا إذا شهدا على رجل فقال : هما عبدان ، فأقام المشهود له البينة أن مولاهما أعتقهما حكم بعتقهما في حق الحاضر والغائب جميعا .

التالي السابق


الخدمات العلمية