صفحة جزء
[ ص: 372 ] كتاب الإكراه

ويعتبر فيه قدرة المكره على إيقاع ما هدده به ، وخوف المكره عاجلا ، وامتناعه من الفعل قبل الإكراه لحقه أو لحق آدمي أو لحق الشرع ، وأن يكون المكره به نفسا أو عضوا أو موجبا غما ينعدم به الرضا ، فلو أكره على بيع أو شراء أو إجارة أو إقرار بقتل أو ضرب شديد أو حبس ففعل ثم زال الإكراه ، فإن شاء أمضاه ، وإن شاء فسخه ، وإن قبض العوض طوعا فهو إجازة ، وإن قبضه مكرها فليس بإجازة ، ويرده إن كان قائما ، فإن هلك المبيع في يد المشتري وهو غير مكره فعليه قيمته ، وللمكره أن يضمن المكره ، وإن أكره على طلاق أو عتاق ففعل وقع ويرجع على المكره بقيمة العبد ، والولاء للمعتق . وفي الطلاق بنصف المهر ، إن كان قبل الدخول ، وبما يلزمه من المتعة عند عدم التسمية ، فإن أكره على شرب الخمر أو أكل الميتة أو على الكفر أو إتلاف مال مسلم أو ذمي بالحبس أو الضرب فليس بمكره ، وإن أكرهه بإتلاف نفسه وسعه أن يفعل ، وإن صبر حتى قتل كان مأجورا ، ولو أكره بالقتل على القتل لم يفعل ويصبر حتى يقتل ، فإن قتل أثم ، والقصاص على المكره ( ز س ) ، وإن أكره على الردة لم تبن امرأته منه ، ومن أكره على الزنا لا حد عليه ( ز )


[ ص: 372 ] كتاب الإكراه

وهو الإلزام والإجبار على ما يكره الإنسان طبعا أو شرعا ، فيقدم عليه مع عدم الرضا ليدفع عنه ما هو أضر منه ، ثم قيل هو معتبر بالهزل المنافي للرضا ، فما لا يؤثر فيه الهزل لا يؤثر فيه الإكراه كالطلاق وأخواته; وقيل هو معتبر بخيار الشرط الخالي عن الرضا بموجب العقد ، فما لا يؤثر فيه الشرط لا يؤثر فيه الإكراه .

قال : ( ويعتبر فيه قدرة المكره على إيقاع ما هدده به ) لأنه إذا لم يكن قادرا عليه لا يتحقق الخوف فلا يتحقق الإكراه ، وما روي عن أبي حنيفة أن الإكراه لا يتحقق إلا من سلطان ، فاختلاف عصر وزمان .

( و ) لا بد من . ( خوف المكره عاجلا ) لأنه لو لم يخف فعله يكون راضيا فلا يكون مكرها; لأن الإكراه ما يفعله بغيره فينتفي به رضاه أو يفسد عليه اختياره مع بقاء أصل القصد ؛ لأنه طلب منه أحد الأمرين فاختار أحدهما ، فإذا فعل برضاه لا يكون مكرها .

( و ) لا بد من ( امتناعه من الفعل قبل الإكراه ) لأن الإكراه لا يتحقق إلا على فعل يمتنع عنه المكره . أما إذا كان بفعله فلا إكراه ويكون الامتناع . ( لحقه ) كبيع ماله والشراء ، وإعتاق عبده ونحو ذلك . ( أو لحق آدمي ) كإتلاف مال الغير ونحوه . ( أو لحق الشرع ) كالقتل والزنا وشرب الخمر ونحوها ؛ لأن الامتناع لا يكون إلا لأحد هذه الأشياء .

( و ) لا بد . ( أن يكون المكره به نفسا أو عضوا ، كالقتل والقطع . ( أو موجبا غما ينعدم به الرضا ) كالحبس والضرب; وأحكامه تختلف باختلاف هذه الأشياء ، فتارة يلزمه الإقدام على ما أكره عليه ، وتارة يباح له ، وتارة يرخص ، وتارة يحرم على ما نبينه إن شاء الله تعالى .

[ ص: 373 ] قال : ( فلو أكره على بيع أو شراء أو إجارة أو إقرار بقتل أو ضرب شديد أو حبس ففعل ثم زال الإكراه ، فإن شاء أمضاه ، وإن شاء فسخه ) لأن الملك يثبت بالعقد لصدوره من أهله في محله ، إلا أنه فقد شرط الحل وهو التراضي فصار كغيره من الشروط المفسدة ، حتى لو تصرف فيه تصرفا لا يقبل النقض كالعتق ونحوه ينفذ وتلزمه القيمة ، وإن أجازه جاز لوجود التراضي بخلاف البيع الفاسد ؛ لأن الفساد لحق الشرع يجوز بإجازتهما ، ولا ينقطع حق الاسترداد هاهنا وإن تداولته الأيدي ، بخلاف البيع الفاسد ، لأن الفساد لحق الشرع ، وقد تعلق بالبيع الثاني حق العبد ، وهنا أيضا الرد حق العبد ، وهما سواء ، ولو أكره بضرب سوط ، أو حبس يوم ، أو قيد يوم لا يكون إكراها ؛ لأنه لا يبالى به عادة ، إلا إذا كان ذا منصب يستضر به ، فيكون إكراها في حقه لزوال الرضى . وأما الإقرار فليس بسبب ، لكن جعل حجة لرجحان جانب الصدق ، وعند الإكراه يترجح جانب الكذب لدفع الضرر .

( وإن قبض العوض طوعا فهو إجازة ) لأنه دليل الرضا كالبيع الموقوف .

( وإن قبضه مكرها فليس بإجازة ، ويرده إن كان قائما ، فإن هلك المبيع في يد المشتري وهو غير مكره فعليه قيمته ) لأنه بيع فاسد والمقبوض فيه مضمون بالقيمة .

( وللمكره أن يضمن المكره ) لأنه كالآلة له فكأنه هو الذي دفعه إلى المشتري فصار كغاصب الغاصب ، فإن ضمن المكره رجع على المشتري لأنه صار كالبائع ، وإن ضمن المشتري نفذ كل بيع حصل بعد الإكراه ؛ لأنه ملكه بالضمان ، والمضمونات تملك بأداء الضمان مستندا إلى وقت القبض عندنا على ما عرف .

قال : ( كان أكره على طلاق أو عتاق ففعل وقع ) لما بينا أنه معتبر بالهزل لأنهما يجريان مجرى واحدا في عدم الرضا ، وقد بينا أن الإكراه لا يسلب القصد ، فقد قصد وقوع الطلاق والعتاق على منكوحته وعبده فيقع .

( ويرجع على المكره بقيمة العبد والولاء للمعتق ) لما بينا أنه آلة له فانضاف إليه فله تضمينه .

[ ص: 374 ] ( وفي الطلاق بنصف المهر إن كان قبل الدخول وبما يلزمه من المتعة عند عدم التسمية ) لأنه أكد ما كان على شرف السقوط بأن تجيء الفرقة من قبلها ، فكان إتلافا لهذا القدر من المال فيضاف إليه ، بخلاف ما بعد الدخول ، لأن المهر تأكد بالدخول ، وهكذا النذر واليمين والظهار والرجعة والإيلاء والفيء باللسان ؛ لأن هذه الأشياء لا تقبل الفسخ وتصح مع الهزل ، والخلع يمين أو طلاق وعليها البدل إن كانت طائعة ، ولا شيء عليه فيما وجب بالنذر واليمين ؛ لأنه لا مطالب له في الدنيا فلا يطلبه فيها ، والنكاح كالطلاق ، فإن كان بمهر المثل أو أقل لم يرجع بشيء ؛ لأنه وصل إليه عوض ما خرج من ملكه ، وإن كان أكثر من مهر المثل بطلت الزيادة ؛ لأن الرضا شرط للزوم الزيادة وقد فاتت . وإن أكرهت المرأة ، فإن كان الزوج كفؤا بمهر المثل جاز ولا ترجع بشيء لما بينا ، وإن كان أقل فالزوج إما أن يتم لها مهر المثل أو يفارقها ، ولا شيء عليه إن لم يدخل بها ؛ لأن الفرقة جاءت من قبلها حيث لم ترض بالمسمى ، وإن دخل بها وهي مكرهة فلها مهر مثلها حيث لم ترض بالمسمى ، وإن كانت طائعة فهو رضى بالمسمى ، ويبقى الاعتراض للأولياء عند أبي حنيفة على ما عرف .

قال : ( فإن أكره على شرب الخمر أو أكل الميتة أو على الكفر أو إتلاف مال مسلم أو ذمي بالحبس أو الضرب فليس بمكره ) والأصل في هذا أن شرب الخمر وأكل الميتة ومال الغير مباح في حالة المخمصة ، وهو خوف فوت النفس ، قال الله تعالى : ( فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه ) فإذا أكره على ذلك بالضرب والحبس لا يسعه ذلك لأنه ليس في معناه ، وإذا لم يبح بهذا النوع من الإكراه لا يباح الكفر ؛ لأنه أعظم جريمة وأشد حرمة وأقبح من هذه الأشياء ؛ لأن حرمتها بالسمع وحرمة الكفر به وبالعقل .

( وإن أكرهه بإتلاف نفسه وسعه أن يفعل ) أما شرب الخمر وأكل الخنزير والميتة فلما تلونا من النص . ووجهه أن حالة الضرورة صارت مستثناة من الحرمة ، فكانت الميتة والخمر حالة الضرورة كالخبز والماء في غير حالة الضرورة ، فلو لم يفعل حتى قتل وهو يعلم بالإباحة أثم كما في حالة المخمصة ؛ ولأن الحرمة لما زالت بقوله تعالى : ( فلا إثم عليه ) صار كالممتنع عن [ ص: 375 ] الطعام والشراب حتى مات فيأثم . وأما إتلاف مال الغير فكذلك يباح حالة المخمصة فزال الإثم ، والضمان على من أكرهه لما مر .

وكذلك لو توعدوه بضرب يخاف منه على نفسه أو بقطع عضو منه ولو أنملة ؛ لأن حرمة الأعضاء كحرمة النفس ، ألا ترى أنه كما لا يباح له القتل حالة المخمصة لا يباح له قطع العضو ، ولو خوفوه بالجوع لا يفعل حتى يجوع جوعا يخاف منه التلف فيصير كالمضطر . وأما الكفر فإنه يسعه أن يأتي به وقلبه مطمئن بالإيمان ، لما روي " أن عمار بن ياسر - رضي الله عنه - أكرهه المشركون على الكفر ، فأعطاهم بلسانه ما أرادوا ، ثم جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يبكي ، فقال له : " ما وراءك " ; فقال : شر ، نلت منك ، فقال : " كيف وجدت قلبك ؟ " قال : مطمئنا بالإيمان ، فجعل رسول الله - صلى لله عليه وسلم - يمسح عينيه ويقول : " ما لك ، إن عادوا فعد " ونزل قوله تعالى : ( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) وفيه دليل الكتاب; والسنة وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - : " إن عادوا فعد " والأثر فعل عمار رضي الله عنه .

( وإن صبر حتى قتل كان مأجورا ) وهو العزيمة فإن خبيب بن عدي الأنصاري - رضي الله عنه - صبر حتى قتل ، وسماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيد الشهداء ، وقال : " هو رفيقي في الجنة " ولأنه بذل مهجته وجاد بروحه تعظيما لله تعالى وإعلاء لكلمته لئلا يأتي بكلمة الكفر ، فكان شهيدا كمن بارز بين الصفين مع علمه أنه يقتل فإنه يكون شهيدا . ومن هذا القبيل سب النبي صلى الله عليه وسلم ، وترك الصلوات الخمس ، وكل ما ثبتت فرضيته بالكتاب; ولو أكره الذمي على الإسلام صح إسلامه ، كما لو قوتل الحربي على الإسلام فأسلم ، فإنه يصح بالإجماع . قال الله تعالى : ( وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها ) سمى المكره على الإسلام مسلما ، فإن رجع الذمي لا يقتل لكن يحبس حتى يسلم لأنه وقع الشك في اعتقاده ، فاحتمل أنه صحيح فيقتل بالردة ، ويحتمل أنه غير [ ص: 376 ] .

معتقد فيكون ذميا فلا يقبل ، إلا أنا رجحنا جانب الوجود حالة الإسلام تصحيحا لإسلامه لترجيح الإسلام على الكفر .

قال : ( ولو أكره بالقتل على القتل لم يفعل ويصبر حتى يقتل ) وكذا قطع العضو ، وسب المسلم وأذاه ، وضرب الوالدين ضربا مبرحا ؛ لأن الظلم حرام شرعا وعقلا ، لا يستباح بحال ولا بوجه ما ، وكذا قتل المسلم البريء لا يباح بوجه ما .

( فإن قتل أثم ) لقيام الحرمة .

( والقصاص على المكره ) لأنه آلة له فيما يصلح أن يكون آلة وهو القتل ، ولا يصلح أن يكون آلة في الإثم ؛ لأنه بالجناية على الدين وأنه حرام فلا يباح إلا من جهة صاحب الحق . وقال أبو يوسف : لا قصاص على واحد منهما لأن القصاص يندرئ بالشبهات قد تحققت الشبهة في حق كل واحد منهما ، أما المكره فهو محمول عليه ، وأما المكره فلعدم المباشرة . وقال زفر : يجب على المكره ؛ لأن المباشرة موجبة للقتل ولهذا تعلق به الإثم ، ولهما ما تقدم أنه آلة فهو يصلح ، والقتل يصلح بأن يلقيه عليه وصار كمن أكره مجوسيا على ذبح شاة مسلم ، فالفعل ينتقل إلى المكره في الإتلاف حتى يجب عليه الضمان ولا ينتقل الحكم حتى لا يحل أكلها .

قال : ( وإن أكره على الردة لم تبن امرأته منه ) ؛ لأن البينونة تبتنى على الردة ، والردة غير متحققة ؛ لاحتمال عدم اعتقاد الكفر ، بل هو الظاهر عند الإكراه; ولو اختلفا فالقول قوله في عدم الاعتقاد ؛ لأنه لا يعرف إلا من جهته .

قال : ( ومن أكره على الزنا لا حد عليه ) لوجود الشبهة ويأثم بالفعل ، ولو صبر كان مأجورا كالقتل ؛ لأن الزنا لا يباح بوجه ما . وقال أبو حنيفة أولا وهو قول زفر : يحد لأن انتشار الآلة دليل الطواعية . قلنا : وقد يكون طبعا والشبهة موجودة ، ولو أكرهت المرأة وسعها ذلك ولا تأثم ، نص عليه محمد ؛ لأن الفاعل الرجل دونها ؛ لأن الإيلاج فعله فلم يتحقق الزنا منها ، لكن تمكينها وسيلة إلى فعله فيباح عند الضرورة; ولو أمره ولم يكرهه في هذه المسائل كلها إلا أنه يخاف القتل إن لم يفعل فهو في حكم المكره لأن الإلجاء باعتبار الخوف ، وقد تحقق .

التالي السابق


الخدمات العلمية