صفحة جزء
[ ص: 405 ] فصل

[ الاستثناء في الإقرار ]

إذا استثنى بعض ما أقر به متصلا صح ولزمه الباقي ، واستثناء الكل باطل . وإن قال متصلا بإقراره إن شاء الله بطل إقراره ، وكذلك إن علقه بمشيئة من لا تعرف مشيئته كالجن والملائكة ، ومن أقر بمائة درهم إلا دينارا ، أو إلا قفيز حنطة لزمه المائة إلا قيمة الدينار ( م ز ) أو القفيز ، وكذلك كل ما يكال أو يوزن ( م ) أو يعد ( ز ) ، ولو استثنى ثوبا أو شاة أو دارا لا يصح . ولو قال : غصبته من زيد لا بل من عمرو فهو لزيد وعليه قيمته لعمرو ( ف ) ، ومن أقر بشيئين فاستثنى أحدهما أو أحدهما وبعض الآخر فالاستثناء باطل ( سم ) وإن استثنى بعض أحدهما أو بعض كل واحد منهما صح ، ويصرف إلى جنسه ، واستثناء البناء من الدار باطل; ولو قال : بناؤها لي والعرصة لفلان فكما قال; ولو قال له : علي ألف من ثمن عبد لم أقبضه ولم يعينه لزمه الألف ( سم ) وإن عين العبد ، فإن سلمه إليه لزمته الألف وإلا فلا ، وإن قال : من ثمن خنزير أو خمر لزمته; ولو قال : من ثمن متاع أو أقرضني ثم قال : هي زيوف أو نبهرجة ، وقال المقر له : جياد فهي جياد; ولو قال : غصبتها منه أو أودعنيها صدق في الزيوف والنبهرجة ، وفي الرصاص والستوقة إن وصل صدق وإلا فلا .


فصل

( إذا استثنى بعض ما أقر به متصلا صح ولزمه الباقي ) والأصل أن الاستثناء تكلم بالباقي بعد الثنيا والاستثناء صحيح ، ويجوز استثناء الأكثر كما يجوز استثناء الأقل ، وبكله ورد النص . قال تعالى : ( فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما ) المعنى : لبث فيهم تسعمائة وخمسين سنة; فهذا استثناء الأقل من الأكثر . وقال تعالى : ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين ) وهذا استثناء الأكثر ؛ لأن الذين اتبعوه كثر العباد ولا بد من الاتصال ، قال - عليه الصلاة والسلام - : " من حلف وقال إن شاء الله متصلا بيمينه فلا حنث عليه " شرط الاتصال في المشيئة وأنها استثناء ؛ ولأن الأصل لزوم الإقرار لما بينا ، إلا أن القدر المستثنى يبطل بالاتصال ؛ لأن الكلام لا يتم إلا بآخره ، فإذا انقطع الكلام فقد تم ، ولا يعتبر الاستثناء بعده ، ويصح استثناء البعض قل أو كثر ، كقوله : له علي ألف درهم إلا درهما ، فيلزمه تسعمائة وتسعة وتسعون; ولو قال : إلا تسعمائة وخمسين يلزمه خمسون ، وعلى هذا .

( واستثناء الكل باطل ) لأنه رجوع لما بينا أنه تكلم بالباقي بعد الثنيا ولا باقي فلا يكون [ ص: 406 ] استثناء ، والرجوع عن الإقرار لا يصح ، ولو قال : لفلان علي ألف درهم يا فلان إلا عشرة صح الاستثناء ؛ لأن النداء لتنبيه المخاطب وأنه محتاج إليه لتأكيد ذلك فلا يكون فاصلا ، ولو قال : له علي ألف درهم فاشهدوا علي بذلك إلا عشرة دراهم لا يصح الاستثناء ؛ لأن الإشهاد يكون بعد تمام الإقرار فكان الإشهاد بعد التمام .

قال : ( وإن قال متصلا بإقراره إن شاء الله بطل إقراره ) لما روينا .

( وكذلك إن علقه بمشيئة من لا تعرف مشيئته كالجن والملائكة ) لأن الأصل براءة الذمم فلا يثبت بالشك ، وإن قال : إن شاء فلان فشاء لا يلزمه شيء ؛ لأن مشيئة فلان لا توجب الملك ، وكذلك إن جاء المطر أو هبت الريح أو كان كذا لما بينا .

قال : ( ومن أقر بمائة درهم إلا دينارا ، أو إلا قفيز حنطة لزمه المائة إلا قيمة الدينار أو القفيز ، وكذلك كل ما يكال أو يوزن أو يعد ، ولو استثنى ثوبا أو شاة أو دارا لا يصح ) وقال محمد : لا يصح في الكل ؛ لأن المستثنى غير داخل في الإيجاب ، والاستثناء ما لولاه لدخل تحت المستثنى منه فلا يكون استثناء . ولهما أن ما يجب في الذمة كله كجنس واحد نظرا إلى المقصود وهو الثمنية التي يتوسل بها إلى الأعيان; أما الثوب وأخواته فليس بثمن أصلا حتى لا يجب في الذمة عند الإطلاق ، وإنما يجب الثوب نصا لا قياسا ، فما يكون ثمنا يصلح مقدرا للدرهم فيصير بقدره مستثنى ، وما لا فلا ، فيبقى المستثنى مجهولا فلا يصح .

ولو قال : له علي ألف إلا شيئا لزمه نصف الألف وزيادة ، والقول قوله في الزيادة ؛ لأن الجهالة في المقر به غير مانعة ، ففي المستثنى أولى ، إلا أن قوله شيء يعبر به عن القليل عرفا فيكون أقل من الباقي; ولو قال له علي مائة درهم إلا قليلا ، قال أبو حنيفة : عليه أحد وخمسون; ولو قال : عشرة إلا بعضها فعليه أكثر من النصف ، ولو قال : له علي ألف درهم إلا عشرة دنانير إلا قيراطا ، لزمه ألف درهم إلا عشرة دنانير إلا قيراطا ؛ لأن استثناء العشرة دنانير صحيح ، واستثناء القيراط من العشرة صحيح أيضا; لأن الاستثناء من الاستثناء صحيح ويلحق بالمستثنى منه ، قال [ ص: 407 ] الله تعالى : ( إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته ) استثنى آل لوط من الهالكين ، ثم استثنى امرأته من الناجين ، فكانت من الهالكين .

قال : ( ولو قال : غصبته من زيد لا بل من عمرو فهو لزيد وعليه قيمته لعمرو ) لأن قوله من زيد إقرار له ، ثم قوله لا رجوع عنه لا يقبل ، وقوله بل من عمرو إقرار منه لعمرو ، وقد استهلكه بالإقرار لزيد فيجب قيمته لعمرو; ولو قال : له علي ألف لا بل ألفان يلزمه ألفان استحسانا ، وفي القياس يلزمه ثلاثة آلاف وهو قول زفر ، ولو قال : غصبته عبدا أسود لا بل أبيض لزمه عبد أبيض ، ولو قال غصبته ثوبا هرويا لا بل مرويا لزماه ، وكذا : له علي كر حنطة لا بل كر شعير لزماه; ولو قال : لفلان علي ألف درهم لا بل لفلان لزمه المالان; ولو قال : له علي ألف لا بل خمسمائة لزمه الألف ، والأصل في ذلك أن " لا بل " متى تخللت بين المالين من جنسين لزماه ، وكذلك من جنس واحد إذا كان المقر له اثنين ، وإذا كان واحدا والجنس واحد لزم أكثر المالين ، لأن لا بل لاستدراك الغلط ، والغلط إنما يقع غالبا في جنس واحد ، إلا أنه إذا كان لرجلين كان رجوعا عن الأول فلا يقبل ، ويثبت للثاني بإقراره الثاني ، وإذا كان الإقرار الثاني أكثر صح الاستدراك ويصدقه المقر له ، وإن كان أقل كان متهما في الاستدراك والمقر له لا يصدقه فيلزمه الأكثر; وجه قول زفر أنه أقر بألف فيلزمه ، وقوله لا رجوع فلا يصدق فيه ، ثم أقر بألفين فصح الإقرار وصار كقوله : أنت طالق واحدة لا بل ثنتين ، وجوابه أن الإقرار إخبار يجري فيه الغلط فيجري فيه الاستدراك ، فيلزمه الأكثر والطلاق إنشاء ، ولا يملك إبطال ما أنشأ فافترقا .

قال : ( ومن أقر بشيئين فاستثنى أحدهما أو أحدهما وبعض الآخر فالاستثناء باطل وإن استثنى بعض أحدهما أو بعض كل واحد منهما صح ويصرف إلى جنسه ) .

وصورته إذا قال : له علي كر حنطة وكر شعير إلا كر حنطة ، أو قال : إلا كر حنطة وقفيز شعير فهذا باطل ، وقالا : يصح استثناء القفيز ، وهو نظير اختلافهم في قوله : أنت حر وحر إن شاء الله ، وأنت طالق ثلاثا وثلاثا إن شاء الله ، فإنه يبطل الاستثناء عنده ، ويقع الطلاق والعتاق ، وعندهما الاستثناء صحيح لأنه كلام متصل ؛ لأن قوله : إلا كر حنطة استثناء صحيح لفظا إلا أنه [ ص: 408 ]

غير مفيد ، وإذا كان كلاما متصلا كان استثناء القفيز متصلا فيصح .

ولأبي حنيفة أن استثناء الكر باطل بالإجماع فكان لغوا وكان قاطعا للكلام الأول فيكون الاستثناء منقطعا وهكذا قوله وثلاثة وحر لغو لا حاجة إليه; ولو قال : إلا قفيز حنطة ، أو إلا قفيز شعير صح في الاستثناء لعدم تخلل القاطع; وكذا لو قال : إلا قفيز حنطة وقفيز شعير ؛ لأن قوله إلا قفيز حنطة استثناء صحيح مفيد فلا يكون قاطعا ، فيصح العطف عليه فيلزمه كر حنطة وكر شعير إلا قفيز حنطة وقفيز شعير .

قال : ( واستثناء البناء من الدار باطل ) مثل أن يقول : هذه الدار لفلان إلا بناءها ، أو قال : وبناؤها لي ؛ لأن البناء داخل في هذا الإقرار معنى ؛ لأن البناء تبع للأرض والاستثناء تصرف في الملفوظ ، وعلى هذا النخل والشجر مع البستان والظهارة والبطانة من الجبة والفص من الخاتم ؛ لأن الاسم يتناول الكل ، ولا قوام لهذه الأشياء بدون ما استثناه فيكون باطلا; ولو قال : إلا ثلثها أو إلا بيتا منها صح ؛ لأنه داخل فيه لفظا .

( ولو قال : بناؤها لي والعرصة لفلان ، فكما قال ) لأن العرصة اسم للبقعة دون البناء ، وهو أقر له بحائط لزمه بأرضه ؛ لأن الحائط اسم للمبنى ولا يتصور بدون الأرض ، وكذلك إذا أقر له بأسطوانة من آجر ، وإن كانت من خشب لا يلزمه الأرض ؛ لأن الخشبة تسمى أسطوانة قبل البناء ، فإن أمكنه رفعها بغير ضرر رفعها وإلا ضمن قيمتها للمقر بنخلة أو شجرة يلزمه موضعها من الأرض ؛ لأنه لا يسمى شجرة ونخلا إلا وهو ثابت وكذلك الكلام ، ولا يلزم الطريق لأنه ليس من ضرورات الملك .

قال : ( ولو قال : له علي ألف من ثمن عبد لم أقبضه ولم يعينه لزمه الألف ) وصل أم فصل ، ولا يصدق في قوله : ما قبضته ؛ لأن علي للإلزام ، وقوله : لم أقبضه ينافي ذلك ؛ لأنه لا يجب إلا بعد القبض وهو غير عين ، فأي عبد أحضره يقول : المبيع غيره ، فعلم أن قوله لم أقبضه جحودا بعد الإقرار فلا يقبل . وقال أبو يوسف ومحمد إن صدقه في أنه ثمن صدق وصل أم فصل ، وإن كذبه وقال : لي عليك ألف من قرض أو غصب أو غير ذلك إن وصل صدق وإلا فلا ، ووجهه أنهما إذا تصادقا على الجهة فقد تصادقا على أن المقر به ثمن فلا يلزمه قبل القبض والمقر ينكر القبض فالقول قوله وصل أم فصل ، ومتى كذبه كان تغييرا لإقراره ، فإن وصل صدق وإلا فلا .

[ ص: 409 ] قال : ( وإن عين العبد ، فإن سلمه إليه لزمته الألف وإلا فلا ) وهذا إذا صدقه لأنهما إذا تصادقا على ذلك صار كابتداء البيع وإن قال له : العبد في يدك وما بعتك غيره لزمه المال ، لأنه إقرار به عند سلامة العبد وقد سلم; ولو قال : العبد عبدي ما بعتكه لا يلزمه شيء ؛ لأنه إنما أقر بالمال عوضا عن هذا العبد فلا يلزمه دونه; ولو قال : إنما بعتك غيره يتحالفان على ما مر .

قال : ( وإن قال من ثمن خمر أو خنزير لزمته ) وقالا : لا يلزمه إن وصل ؛ لأن بآخر كلامه ظهر أنه ما أراد الإيجاب كقوله إن شاء الله تعالى . وله أن هذا رجوع فلا يقبل لأن ثمنهما لا يكون واجبا ، وما ذكرا فهو تعليق وهذا إبطال .

( ولو قال من ثمن متاع أو أقرضني ثم قال : هي زيوف أو نبهرجة ، وقال المقر له : جياد ، فهي جياد ) وقالا : يصدق إن وصل ، وعلى هذا إذا قال هي ستوقة أو رصاص . لهما أنه بيان مغير ؛ لأن اسم الدراهم يتناول هذه الأنواع فيصح موصولا كما تقدم وصار كقوله إلا أنها وزن خمسة ، وله أن مقتضى العقد يقتضي السلامة عن العيب ، فإقراره يقتضي الجياد ، ثم قوله هي زيوف إنكار فلا يصدق ، فصار كما إذا ادعى الجياد وادعى المشتري الزيوف يلزمه الجياد عملا بما ذكرنا من الأصل ، وقوله وزن خمسة مقدار فيصح استثناؤه ولا يصح استثناء الوصف لما مر في البناء .

( ولو قال : غصبتها منه ، أو أودعنيها صدق في الزيوف والنبهرجة ) لأن الغصب يرد على ما يجده والإنسان يودع ما يملكه ، وذلك لا يقتضي السلامة عن العيوب .

( وفي الرصاص والستوقة إن وصل صدق وإلا فلا ) لأنهما ليست من جنس الدراهم ؛ لأن الاسم يتناولهما مجازا فلذلك يشترط الوصل; ولو قال : له علي ألف إلا أنها تنقص كذا فهو استثناء صحيح إن وصل صدق وإلا فلا .

التالي السابق


الخدمات العلمية