صفحة جزء
[ ص: 419 ] ويجوز أن يشهد بكل ما سمعه أو أبصره من الحقوق والعقود ، وإن لم يشهد عليه إلا الشهادة على الشهادة فإنه لا يجوز أن يشهد على شهادة غيره ما لم يشهده ( ف ) . ولا يجوز أن يشهد بما لم يعاينه إلا النسب والموت والدخول والنكاح ، وولاية القاضي ، وأصل الوقف ، ويجوز أن يشهد على الملك المطلق فيما سوى العبد والأمة ، وإذا رأى الشاهد خطه لا يشهد ما لم يذكر الحادثة ، وشاهد الزور يشهر ولا يعزر ( سم ف ) ، وتعتبر موافقة الشهادة الدعوى ، ويعتبر اتفاق الشاهدين في اللفظ والمعنى ( سم ) ، فلو شهد أحدهما بألف والآخر بألفين لم تقبل ( سم ) ، ولو شهدا على سرقة بقرة واختلفا في لونها قطع ( سم ) ، وإن اختلفا في الأنوثة والذكورة لم يقطع . شهدا بقتل زيد يوم النحر بمكة وآخران بقتله يوم النحر بالكوفة ردتا ، فإن سبقت إحداهما وقضي بها بطلت الأخرى .


فصل

( ويجوز أن يشهد بكل ما سمعه أو أبصره من الحقوق والعقود وإن لم يشهد عليه ) لأنه علم الموجب وتيقنه . قال - عليه الصلاة والسلام - : " إن علمت مثل الشمس فاشهد " ويقول أشهد بكذا لأنه علمه ولا يقول أشهدني فإنه كذب .

قال : ( إلا الشهادة على الشهادة فإنه لا يجوز أن يشهد على شهادة غيره ما لم يشهده ) لأن الشهادة ليست موجبة إلا بالنقل إلى مجلس الحكم ولا يكون ذلك إلا بالتحمل ، ولو سمعه يشهد غيره على شهادته لا يسعه أن يشهد لأنه ما حمله وتجوز شهادة المختبئ ، وهو أن يقر الرجل بحق والشهود مختبئون في بيت يسمعون إقراره ، فإنه يحل لهم الشهادة إذا كانوا يرون وجهه ويعرفونه ، وإن لم يروه لا يحل لهم إلا إذا علموا أن ليس في البيت غيره فيحل لهم ذلك ، وكذا إذا سمعوا صوت امرأة من وراء حجاب .

قال : ( ولا يجوز له أن يشهد بما لم يعاينه إلا النسب والموت والدخول والنكاح وولاية القاضي ، وأصل الوقف ، والقياس أنه لا يجوز ؛ لأن الشهادة من المشاهدة وهي المعاينة ولم توجد . وجه الاستحسان أن هذه الأشياء تباشر بحضور جماعة مخصوصين وتتعلق بها أحكام مستمرة فأقيمت الشهرة والاستفاضة مقام العيان والمشاهدة كي لا تتعطل هذه الأحكام ، وعلى هذا الناس من الصدر الأول إلى يومنا هذا ، ألا ترى أنا نشهد أن عائشة - رضي الله عنها - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - وكذلك [ ص: 420 ] سائر زوجاته وفاطمة - رضي الله عنها - زوجة علي - رضي الله عنه - وغير ذلك ، ونشهد بنسب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، ونشهد بقضاء شريح وابن أبي ليلى وأبي يوسف ، ونشهد بموت الخلفاء الراشدين وغيرهم ، والشهرة إنما تكون إما بالتواتر أو بإخبار من يثق به ، حتى لو أخبره واحد يثق به جاز; واشترط بعضهم رجلين أو رجلا وامرأتين; وقيل يكتفي في الموت بشهادة الواحد ؛ لأنه قل ما يحضره غير الواحد ، وإذا رأى رجلا يجلس للقضاء ويدخل عليه الخصوم حل له الشهادة بولايته; وكذا إذا رأى رجلا وامرأة يسكنان في بيت واحد ويتعاشران معاشرة الأزواج حل له الشهادة بالنكاح بينهما كما إذا رأى عينا في يد رجل .

وأما الوقف فالصحيح ما ذكرنا أنه يجوز على أصله دون شرطه ، لأن الأصل هو الذي يشتهر ، فلو لم تجز الشهادة عليه أدى إلى استهلاك الأوقاف القديمة ، وكذلك الولاء عند أبي يوسف كما في النسب ، قال - عليه الصلاة والسلام - : " الولاء لحمة كلحمة النسب " ولأنا نشهد أن ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبلالا مولى أبي بكر - رضي الله عنه - إلى غير ذلك ، ولا يجوز عند أبي حنيفة ومحمد ، رحمهما الله ؛ لأن الخبر لا يشتهر ؛ لأنه مبني على الإعتاق وذلك يكون بحضرة من لا يشتهر غالبا وصار كالعتاق والطلاق ، والمراد بالحديث أنه مثله لا يباع ولا يوهب ، وينبغي للشاهد أن يطلق الشهادة عند القاضي حتى لو فسرها وقال إنه شهد بالتسامع لا يقبلها ، وكذلك في الشهادة باليد لا يفسرها .

قال : ( ويجوز أن يشهد على الملك المطلق ) إذا رآه في يده .

( فيما سوى العبد والأمة ) لأن اليد دليل الملك وهو المرجع في الأسباب كالبيع والهبة والوصية والإرث وغيرها . واشترط أبو يوسف أن يقع في قلبه أنه له ، ويجوز أن يكون تفسيرا للأول ، واشترط الخصاف التصرف مع اليد فإن اليد تتنوع . قلنا والتصرف أيضا يتنوع إلى أمانة وملك ، وإنما يحل له ذلك إذا عاين الملك والمالك ، أو عاين الملك وحده وعرف المالك بالاشتهار بنسبه . أما إذا عاين المالك وحده لا يحل له ، وهذا بخلاف العبد والأمة ؛ لأن الحر يستخدم كما يستخدم العبد كالأجير الخاص ونحوه ، فلا تكون اليد دليلا حتى يعلم أنه رقيق ، [ ص: 421 ] فيجوز أن يشهد أنه له باليد ؛ لأن الرقيق لا يكون في يد نفسه ، وكذلك إن كانا صغيرين لا يعبران عن أنفسهما يجوز أن يشهد ، وإن لم يعرف رقهما ؛ لأنه لا بد لهما بخلاف الكبيرين .

قال : ( وإذا رأى الشاهد خطه لا يشهد ما لم يذكر الحادثة ) وهكذا القاضي والراوي ؛ لأن الخط يشبه الخط فلا يحصل العلم ، قالوا : وهذا عند أبي حنيفة ، وقيل هو إجماع; وإنما الخلاف إذا وجد القاضي القضية في ديوانه تحت ختمه ، وكذا إذا رأى الشاهد رقم شهادته عنده تحت ختمه ; وكذلك الراوي فيجوز عندهما ، وإن لم يذكر الحادثة لوقوع الأمن من الزيادة والنقصان .

أما ما كان في الصك بيد الخصم وليس عنده نسخته لا يجوز لما بينا ، وعند أبي حنيفة لا يجوز ما لم يذكر الحادثة ، قال - صلى الله عليه وسلم - : " إن علمت مثل الشمس فاشهد وإلا فدع " ولا علم مع النسيان ، وشرط حل الرواية عنده أن يحفظ من حين سمع إلى أن يروي ، ولهذا قلت رواية أبي حنيفة رضي الله عنه ، وكذا إذا ذكر المجلس الذي كان فيه الحادثة أو أخبره بها من يثق به لا يحل له ما لم يذكرها .

قال : ( وشاهد الزور يشهر ولا يعزر ) وقالا : يوجعه ضربا ويحبسه ، لما روي أن عمر - رضي الله عنه - ضرب شاهد الزور أربعين سوطا وسخم وجهه ؛ ولأنها إضرار بالناس وليس فيها حد فيعزره . ولأبي حنيفة أن الزجر يحصل بالتشهير ، والضرب وإن كان أزجر لكنه يمنع من الرجوع ، وفعل عمر - رضي الله عنه - كان سياسة ولهذا بلغ الأربعين وسخم . والتشهير : أن يبعثه القاضي إلى أهله أو سوقه أجمع ما يكونون ويقول : القاضي يقرئ السلام ويقول : إنا وجدنا هذا شاهد زور فاحذروه وحذروه الناس ، منقول ذلك عن شريح . وعنهما أنه يفعل ذلك مع الضرب .

قال : ( وتعتبر موافقة الشهادة الدعوى ) لأن الشهادة لا تقبل إلا بعد الدعوى ، فإن لم توافقها فقد انعدمت .

[ ص: 422 ] ( ويعتبر اتفاق الشاهدين في اللفظ والمعنى ، فلو شهد أحدهما بألف والآخر بألفين لم تقبل ) وقالا : تقبل على الألف إذا ادعى المدعي ألفين لأنهما اتفقا على الألف ، وتفرد أحدهما بزيادة فيثبت ما اتفقا عليه ، كما إذا شهد أحدهما بألف والآخر بألف وخمسمائة ، فإنه يقضي بالألف ، كذا هذا ، وعلى هذا الطلقة والطلقتين .

ولأبي حنيفة - رحمه الله - أنه وجد الاختلاف لفظا ، وأنه دليل الاختلاف معنى ؛ لأن معنى الألف غير معنى الألفين ، وهما جملتان متغايرتان حصل على كل واحدة شاهد واحد فلا يقبل كاختلاف الجنس بخلاف ما ذكرا ، لأنهما اتفقا على الألف لفظا ومعنى ، لأنه عطف الخمسمائة على الألف ، والعطف يقرر المعطوف عليه ، ومثله الطلقة والطلقة والنصف بخلاف العشرة والخمسة عشر ، لأنه ليس بعطف فهو نظير الألف والألفين . والعشرون ، والخمس والعشرون نظير الألف والألف والخمسمائة ، ولو كان المدعي ادعى الأقل لا تقبل الشهادة في المسائل كلها لأنه يكذب أحد شاهديه ، ولو قال : كان حقي ألفا وخمسمائة فقبضت خمسمائة أو أبرأته عنها قبل التوفيق ، وإن شهدا بألف فقال أحدهما قضاه منها خمسمائة قضى بالألف لاتفاقهما عليها ، ولا يثبت القضاء ؛ لأنها شهادة واحدة ، فلو شهد آخر يثبت ، وينبغي للشاهد إذا علم ذلك أن لا يشهد بالألف حتى يعترف المدعي بالقبض ليظهر الحق ولا يعين على الظلم .

قال : ( ولو شهدا على سرقة بقرة واختلفا في لونها قطع ، وإن اختلفا في الأنوثة والذكورة لم يقطع ) وقالا : لا يقطع فيهما لأن المشهود به مختلف ، ولم يقم على كل واحد شاهدان وصار كالمسألة الثانية . وله أن اشتمال البقرة على اللونين جائز ، فيشهد كل واحد على ما رأى في جانبه وهي حالة اشتباه ؛ لأن السرقة تكون دليلا ، والعمل بالبينة واجب ما أمكن فتقبل ، بخلاف الذكورة والأنوثة لأنهما لا يجتمعان في بقرة فكانا متغايرين .

قال : ( شهدا بقتل زيد يوم النحر بمكة ، وآخران بقتله يوم النحر بالكوفة ردتا ) لأن إحداهما كاذبة بيقين ولا تدرى ، وليست إحداهما أولى من الأخرى بالرد ولا بالقبول فيردان .

( فإن سبقت إحداهما وقضي بها بطلت الأخرى ) لأن الأولى ترجحت بالقضاء فلا تنقض بما هو دونها .

التالي السابق


الخدمات العلمية