صفحة جزء
[ ص: 435 ] ولا تصح حتى يكون الموكل ممن يملك التصرف وتلزمه الأحكام ، والوكيل ممن يعقل العقد ويقصده ، وكل عقد جاز أن يعقده بنفسه جاز أن يوكل به ، فيجوز بالخصومة في جميع الحقوق وإيفائها واستيفائها إلا الحدود ( س ) والقصاص فإنه لا يجوز استيفاؤها مع غيبة الموكل ، ولا يجوز بالخصومة إلا برضاء الخصم ، إلا أن يكون الموكل مريضا أو مسافرا ، وكل عقد يضيفه الوكيل إلى نفسه كالبيع والإجارة والصلح عن إقرار تتعلق حقوقه به من تسليم المبيع ونقد الثمن والخصومة في العيب وغير ذلك ، إلا العبد والصبي المحجورين ، فتجوز عقودهما ، وتتعلق الحقوق بموكلهما وإذا سلم المبيع إلى الموكل لا يرده الوكيل بعيب إلا بإذنه ، وللمشتري أن يمتنع من دفع الثمن إلى الموكل ، فإن دفعه إليه جاز ، وكل عقد يضيفه إلى موكله فحقوقه تتعلق بموكله : كالنكاح والخلع والصلح عن دم العمد والعتق على مال والكتابة والصلح عن إنكار والهبة والصدقة والإعارة والإيداع والرهن والإقراض والشركة والمضاربة .


[ ص: 435 ] كتاب الوكالة

وهي عبارة عن التفويض والاعتماد ، قال تعالى ( ومن يتوكل على الله فهو حسبه ) أي من اعتمد عليه وفوض أمره إليه كفاه ، ورجل وكل إذا كان قليل البطش ضعيف الحركة يكل أمره إلى غيره فيما ينبغي أن يباشره بنفسه; وقيل الوكالة في اللغة : الحفظ ، قال تعالى : ( حسبنا الله ونعم الوكيل ) أي نعم الحافظ . وقال أصحابنا : إذا قال وكلتك في كذا فهو وكيل في حفظه بقضية اللفظ ، ولا يثبت ما زاد عليه إلا بلفظ آخر ، وأنه قريب من الأول ، فإن من اعتمد على إنسان في شيء وفوض فيه أمره إليه كان أمرا بحفظه ، لأنه إنما فعل ذلك لينظر ما هو الأصلح له ، وأصلح الأشياء حفظ الأصل ؛ لأن التصرفات تبتنى عليه ، وهذه المعاني موجودة في الوكالة الشرعية ، فإن الموكل فوض أمره إلى الوكيل واعتمد عليه ووثق برأيه ليتصرف له التصرف الأحسن ، وكل ذلك يبتنى على الحفظ وهو مشروع بالكتاب ، وهو قوله تعالى : ( فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة ) وبالسنة ، وهو ما صح أنه - صلى الله عليه وسلم - وكل بالشراء عروة البارقي ، وفي رواية أخرى : حكيم بن حزام ، ووكل في النكاح أيضا عمرو بن أمية الضمري ، وعليه تعامل الناس من لدن الصدر الأول إلى يومنا من غير نكير ، ولأن الإنسان قد يعجز عن مباشرة بعض الأفعال بنفسه فيحتاج إلى التوكيل ، فوجب أن يشرع دفعا للحاجة .

[ ص: 436 ] قال : ( ولا تصح حتى يكون الموكل ممن يملك التصرف وتلزمه الأحكام ، والوكيل ممن يعقل العقد ويقصده ) لأن التوكيل استنابة واستعانة ، والوكيل يملك التصرف بتمليك الموكل ، وتلزمه الأحكام ، فوجب أن يكون الموكل مالكا لذلك ليصح تمليكه ، والوكيل يقوم مقام الموكل في الإيجاب والقبول ، فلا بد أن يكون من أهلهما ، فلو وكل صبيا لا يعقل أو مجنونا فهو باطل ، ولو وكل صبيا عاقلا مأذونا أو عبدا مأذونا أو محجورا بإذن مولاه جاز ، وكذلك إذا وكل المسلم ذميا أو بالعكس أو حربيا مستأمنا لما ذكرنا .

قالت : ( وكل عقد جاز أن يعقده بنفسه جاز أن يوكل به ) لما ذكرنا من الحاجة ( فيجوز بالخصومة في جميع الحقوق وإيفائها واستيفائها ) لما ذكرنا من الحاجة لأنه لا يعرف ذلك كل أحد ، والدليل عليه الحديث المشهور : " ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض " وعلي - رضي الله عنه - وكل أخاه عقيلا وابن أخيه عبد الله بن جعفر .

قال : ( إلا الحدود والقصاص فإنه لا يجوز استيفاؤها مع غيبة الموكل ) لأن احتمال العفو ثابت للندب إليه وللشفقة على الجنس ، وأنه شبهة وأنها تندرئ بالشبهات ، بخلاف ما إذا حضر لانتفاء هذا الاحتمال . وقال أبو يوسف : لا يجوز التوكيل بإثبات الحدود والقصاص لأنها نيابة ، فيتحرز عنها في هذا الباب كالشهادة على الشهادة .

ولأبي حنيفة - رحمه الله - أن الجناية سبب الوجوب والظهور يضاف إلى الشهادة ، والخصومة شرط ، فيجوز التوكيل به كسائر الحقوق ، بخلاف الاستيفاء على ما بينا .

قال : ( ولا يجوز بالخصومة إلا برضاء الخصم ، إلا أن يكون الموكل مريضا أو مسافرا ، وقالا : يجوز بغير رضاه ، ومعناه : أنه لا يجب على الخصم إلا الوكيل عنده وعندهما يجب ، لما [ ص: 437 ] روي أن عليا - رضي الله عنه - وكل بالخصومة مطلقا ، ولأنه توكيل بحق فيجوز كالتوكيل باستيفاء الدين . ولأبي حنيفة - رحمه الله - قوله - عليه الصلاة والسلام - : " يا علي لا تقض لأحد الخصمين حتى يحضر الآخر " وفي رواية : " حتى تسمع كلام الأخر " فيشترط حضوره أو استماع كلامه ، ولأن الخصومة تلزم المطلوب حتى يجب عليه الحضور والجواب ، فلا يجوز أن يحيله على غيره بغير رضاه كالدين ، ولأن الناس يتفاوتون في الخصومة ، فلعل الوكيل يكون أشد خصاما وأكثر احتجاجا فيتضرر الخصم بذلك فلا يلزمه إلا برضاه ، بخلاف المريض العاجز عن الخصومة ، فإنه لا يستحق عليه الحضور ، وكذلك المسافر ، لأن في تكليفه السفر مشقة فلا يلزمه الحضور فجاز لهما التوكيل ، ولا فرق في ظاهر الرواية بين الرجل والمرأة البكر والثيب ، واستحسن المتأخرون أن المرأة إذا كانت مخدرة جاز توكيلها بغير رضاء الخصم لعجزها عن الخصومة بسبب الحياء والدهشة .

قال : ( وكل عقد يضيفه الوكيل إلى نفسه كالبيع والإجارة والصلح عن إقرار تتعلق حقوقه به ، من تسليم ونقد الثمن والخصومة في العيب وغير ذلك ، إلا العبد والصبي المحجورين فتجور عقودهما ، وتتعلق الحقوق بموكلهما ) لأن الوكيل هو العاقد ، ولا يفتقر في هذه العقود إلى ذكر الموكل ، والعاقد الآخر اعتمد رجوع الحقوق إليه ، فلو لم ترجع إليه يتضرر على تقدير كون الموكل مفلسا ، أو من لا يقدر على مطالبته واستيفاء الثمن منه وأنه منتف ، بخلاف النكاح وأخواته فإنه لا بد من ذكر الموكل وإسناد العقد إليه فلا ضرر حينئذ ، وكذلك الرسول لأنه يضيف العقد إلى مرسله ، ولأن الوكيل هو العاقد حقيقة بكلامه ، وحكما لعدم إضافة العقد إلى غيره فيكون أصلا في الحقوق ، ثم يثبت الملك للموكل خلافة نظرا إلى التوكيل السابق كالعبد يتهب أو يصطاد . أما الصبي والعبد فينفذ تصرفهما لأنهما من أهله ، حتى لو كانا مأذونين جاز على ما مر في الحجر ، إلا أن الحقوق لا تتعلق بهما لأنهما ليسا من أهل التبرعات والتزام العهدة لقصور أهلية الصبي ولحق السيد فيلزم الموكل . وعن أبي يوسف لو علم العاقد الآخر أنه محجور عليه بعد العقد فله خيار العيب لاعتقاده رجوع الحقوق إلى العاقد ، وقد فاته فيتخير .

[ ص: 438 ] قال : ( وإذا سلم المبيع إلى الموكل لا يرده الوكيل بعيب إلا بإذنه ) لأنه تعلق به حق الموكل وانتقل الملك إليه فصار كما إذا باعه من آخر .

قال : ( وللمشتري أن يمتنع من دفع الثمن إلى الموكل ) لما بينا أن الحقوق راجعة إلى الوكيل فهو أجنبي من العقد .

( فإن دفعه إليه جاز ) لأنه حقه ، وليس للوكيل أن يطالبه به ، إذ لا فائدة في الأخذ منه ثم يدفعه إليه ، ولو كان للمشتري عليهما دين أو على الموكل تقع المقاصة بدين الموكل لما بينا أنه حقه ، وتقع المقاصة بدين الوكيل لو كان وحده ، لأنه يملك الإبراء عنه لكن يضمنه للموكل .

قال : ( وكل عقد يضيفه إلى موكله فحقوقه تتعلق بموكله : كالنكاح والخلع والصلح عن دم العمد ) فلا يطالب وكيل الزوج بالمهر ، ولا يلزم وكيل المرأة تسليمها ، ولا بدل الخلع ؛ لأن الوكيل سفير ، ولهذا لا بد له من ذكر الموكل وإسناد العقد إليه ، حتى لو أضاف العقد إلى نفسه كان النكاح واقعا له لا لموكله كالرسول . والخلع ، والصلح عن دم العمد إسقاط كما يوجد يتلاشى فلا يمكن صدوره من شخص وثبوت حكمه لغيره .

( و ) على هذا . ( العتق على مال والكتابة والصلح عن إنكار والهبة والصدقة والإعارة والإيداع والرهن والإقراض والشركة والمضاربة ) لأن الحكم يثبت في هذه الأشياء بالقبض . وأنه يلاقي محلا مملوكا للموكل فكان سفيرا ، وكذا لو كان وكيلا من الجانب الآخر لأنه يضيف العقد إلى المالك إلا في الاستقراض فإن التوكيل به باطل ، ولا يثبت الملك فيه للموكل بخلاف الرسول .

فصل

الجهالة ثلاثة أنواع : فاحشة ، ويسيرة ، وبينهما .

فالأولى جهالة الجنس كالتوكيل بشراء ثوب أو دابة فإنه لا يصح وإن سمى الثمن ، لأنه لا يمكن الوكيل امتثال ما وكله به لتفاوته تفاوتا فاحشا .

[ ص: 439 ] والثانية جهالة النوع والصفة كالحمار والفرس وقفيز حنطة وثوب هروي ، فإنه يصح وإن لم يقدر الثمن ؛ لأن الوكيل يقدر على تحصيل مقصوده وتتعين الصفة بحال الموكل ، واختلاف الصفة لا يوجب اختلاف المقصود ، فصار كأنه وكله بشراء ثوب هروي بأي صفة كان وبالثمن المعتاد ، وقد صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكل حكيم بن حزام بشراء شاة للأضحية .

والثالثة التوكيل بشراء عبد أو جارية أو دار إن سمى الثمن صح وإلا فلا ، لأن الجمال منفعة مقصودة من بني آدم ، ويختلف في ذلك الهندي والتركي ، فإذا سمى الثمن ألحقناه بمجهول النوع ، وإن لم يسم ألحقناه بجهالة الجنس ؛ لأن بالتسمية يصير معلوم النوع عادة ، فإن ثمن كل نوع معلوم عادة .

التالي السابق


الخدمات العلمية