صفحة جزء
[ ص: 16 ] كتاب الشركة

الشركة نوعان : شركة ملك ، وشركة عقد ، فشركة الملك نوعان : جبرية ، واختيارية ، وشركة العقود نوعان : شركة في المال ، وشركة في الأعمال ، فالشركة في الأموال أنواع : مفاوضة ، وعنان ، ووجوه ، وشركة في العروض ، والشركة في الأعمال نوعان : جائزة وهي شركة الصنائع ، وفاسدة وهي الشركة في المباحات ، أما المفاوضة فهو أن يتساويا في التصرف والدين ( س ) والمال الذي تصح فيه الشركة .

ولا تصح إلا بين الحرين البالغين العاقلين المسلمين أو الذميين ، ولا تنعقد إلا بلفظ المفاوضة ، أو تبيين جميع مقتضاها ، ولا يشترط تسليم المال ولا خلطهما ، وتنعقد على الوكالة والكفالة ، فما يشتريه كل واحد منهما على الشركة إلا طعام أهله وإدامهم وكسوتهم وكسوته ، وللبائع مطالبة أيهما شاء بالثمن ، وإن تكفل بمال عن أجنبي لزم صاحبه ( سم ) ، فإن ملك أحدهما ما تصح فيه الشركة صارت عنانا ، وكذا في كل موضع فسدت فيه المفاوضة لفوات شرط لا يشترط في العنان ، ولا تنعقد المفاوضة والعنان إلا بالدراهم والدنانير وتبريهما إن جرى التعامل به ، وبالفلوس الرائجة ، ولا تصح بالعروض ( ف ) إلا أن يبيع أحدهما نصف عروضه بنصف عروض الآخر إذا كانت قيمتاهما على السواء ، ثم يعقدان الشركة ، وشركة العنان تصح مع التفاضل في المال ، وتصح مع التفاضل في المال والتساوي في الربح إذا عملا أو شرطا زيادة الربح للعامل ، وإذا تساويا في المال وشرطا التفاوت في الربح والوضيعة فالربح على ما شرط ، والوضيعة على قدر المالين ، وتنعقد على الوكالة ، ولا تنعقد على الكفالة ولا تصح فيما لا تصح الوكالة به كالاحتطاب والاحتشاش ، وما جمعه كل واحد منهما فهو له ، فإن أعانه الآخر فله أجر مثله ، وإن هلك المالان أو أحدهما في شركة العنان قبل الشراء بطلت الشركة .

وإن اشترى أحدهما بماله ثم هلك مال الآخر فالمشترى بينهما على ما شرطا ، ويرجع على صاحبه بحصته من الثمن ، وإن هلك أحد المالين ثم اشترى أحدهما فالمشترى لصاحب المال خاصة ، ولا يجوز أن يشترطا لأحدهما دراهم مسماة من الربح ، ولشريك العنان والمفاوض أن يوكل ويبضع ويضارب ويودع ويستأجر على العمل ، وهو أمين في المال ، وشركة الصنائع : أن يشترك صانعان اتفقا في الصنعة أو اختلفا على أن يتقبلا الأعمال ويكون الكسب بينهما فيجوز ، وما يتقبله أحدهما يلزمهما ، فيطالب كل واحد منهما بالعمل ويطالب بالأجر .

وشركة الوجوه جائزة ، وهي أن يشتركا على أن يشتريا بوجوههما ويبيعا ، وتنعقد على الوكالة ، وإن شرطا أن المشترى بينهما فالربح كذلك ، ولا تجوز الزيادة فيه ، وإن اشتركا ولأحدهما بغل وللآخر راوية يستقي الماء لا يصح ، والكسب للعامل ، وعليه أجرة بغل الآخر أو راويته ، والربح في الشركة الفاسدة على قدر المال ويبطل شرط الزيادة ، وإذا مات أحد الشريكين ، أو لحق بدار الحرب مرتدا بطلت الشركة ، وليس لأحد الشريكين أن يؤدي زكاة مال الآخر إلا بإذنه ، فإن أذن كل واحد منهما لصاحبه فأديا معا ضمن كل واحد منهما نصيب صاحبه ، وإن أديا متعاقبا ضمن الثاني للأول علم بأدائه أو لم يعلم .


[ ص: 16 ] كتاب الشركة

الشرك : النصيب ، قال - صلى الله عليه وسلم - : " من أعتق شركا له في عبد " أي نصيبا . قال النابغة الجعدي :


وشاركنا قريشا في تقاها وفي أحسابها شرك العنان

.

أي أخذنا نصيبا من التقى والحسب مثل نصيب قريش منهما ، كشركة العنان لكل واحد نصيب من المال والكسب ، وسمي الشريكان ; لأن كل واحد منهما شركا في المال : أي نصيبا .

وهي في الشرع : الخلطة وثبوت الحصة ، وهي مشروعة بالنصوص ، قال - عليه الصلاة والسلام - : " يد الله على الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه ، فإذا خان أحدهما صاحبه رفعها عنهما " وقال - عليه الصلاة والسلام - : " الشريكان الله ثالثهما ما لم يخونا ، فإذا خانا محيت البركة بينهما " وكان قيس بن السائب شريك رسول الله في تجارة البز والأدم . وذكر الكرخي أسامة بن شريك ، وقال - عليه الصلاة والسلام - في صفته : ( كان شريكي وكان خير شريك لا يشاري ولا يماري ولا يداري " أي لا يلح ولا يجادل ويدافع عن الحق ، وبعث [ ص: 17 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس يتعاملونها فلم ينكر عليهم وتعاملوا بها إلى يومنا هذا من غير نكير فكان إجماعا .

قال : ( الشركة نوعان : شركة ملك ، وشركة عقد . فشركة الملك نوعان : جبرية ، واختيارية . وشركة العقود نوعان : شركة في المال ، وشركة في الأعمال . فالشركة في الأموال أنواع : مفاوضة ، وعنان ، ووجوه ، وشركة في العروض . والشركة في الأعمال نوعان : جائزة وهي شركة الصنائع ، وفاسدة وهي الشركة في المباحات ) وسيأتيك بيان ذلك إن شاء الله - تعالى - .

أما شركة الأملاك ، أما الجبرية بأن يختلط مالان لرجلين اختلاطا لا يمكن التمييز بينهما أو يرثان مالا .

والاختيارية أن يشتريا عينا أو يتهبا أو يوصى لهما فيقبلان أو يستوليا على مال أو يخلطا مالهما ، وفي جميع ذلك كل واحد منهما أجنبي في نصيب الآخر ، لا يتصرف فيه إلا بإذنه لعدم إذنه له فيه ، ويجوز بيع نصيبه من شريكه في جميع الوجوه ، وأما من غيره فما ثبتت الشركة فيه بالخلط أو الاختلاط لا يجوز إلا بإذن شريكه ; لأن الخلط استهلاك معنى فأورث شبهة زوال ملك نصيب كل واحد منهما إلى صاحبه .

وفيما يثبت بالميراث والبيع والهبة والوصية يجوز بيع أحدهما نصيبه من أجنبي بغير إذن صاحبه ; لأن ملك كل واحد منهما قائم في نصيبه من كل وجه .

وأما شركة العقود فركنها الإيجاب والقبول وهو أن يقول : شاركتك في كذا وكذا فيقول الآخر : قبلت .

وشرطها أن يكون التصرف المعقود عليه قابلا للوكالة حتى لا يجوز على الاحتطاب وأشباهه ليكون الحاصل بالتصرف مشتركا بينهما إذ هو المطلوب من عقد الشركة .

( أما المفاوضة فهو أن يتساويا في التصرف والدين والمال الذي تصح فيه الشركة ) ; لأنها [ ص: 18 ] في اللغة تقتضي المساواة ، يقال : فاوض يفاوض : أي ساوى يساوي ، فلا بد من تحقق المساواة ابتداء وانتهاء وذلك فيما ذكرناه .

أما المال ; فلأنه الأصل في الشركة ومنه يكون الربح . وأما التصرف ; فلأنه متى تصرف أحدهما تصرفا لا يقدر الآخر عليه فاتت المساواة ، وكذا في الدين ; لأن الذمي يملك من التصرف في بيع الخمر والخنزير وشرائهما ما لا يملكه المسلم فلا مساواة بينهما ، فلهذا قلنا : لا يصح بينهما مفاوضة .

وقال أبو يوسف - رحمه الله - : تنعقد المفاوضة بينهما ; لأن ما يملكه الذمي من بيع الخمر والخنزير يملكه المسلم بالتوكيل فتحققت المساواة ، قلنا : الذمي يملك ذلك بنفسه وبنائبه ، ولا كذلك المسلم فانتفت المساواة ، فإذا عقدا المفاوضة صارت عنانا عندهما لفوات شرط المفاوضة ووجود شرط العنان ، وكذلك كل ما فات شرط من شرائط المفاوضة يجعل عنانا إذا أمكن تصحيحا لتصرفهما بقدر الإمكان .

قال : ( ولا تصح إلا بين الحرين البالغين العاقلين المسلمين أو الذميين ) وإن كان أحدهما كتابيا والآخر مجوسيا لتساويهما في التصرف ولا تصح بين العبد والحر ; ولا بين الصبي والبالغ للتفاوت بينهما ، فإن الحر والبالغ يملكان الكفالة والتبرعات ، ولا كذلك الصبي والعبد ، أو يملكانها بإذن الولي والمولى ، ولا تصح بين العبدين ولا بين الصبيين ولا بين المكاتبين ; لأن هؤلاء ليسوا من أهل الكفالة وأنها تنعقد على الكفالة على ما نبينه - إن شاء الله تعالى - .

والأصل في جوازها قوله - صلى الله عليه وسلم - : " فاوضوا فإنه أعظم للبركة " ; ولأنها تشتمل على الوكالة والكفالة والشركة في الربح ، وكل واحد منها جائز عند الانفراد فكذا عند الاجتماع .

قال : ( ولا تنعقد إلا بلفظ المفاوضة ) ; لأن العوام قلما يعلمون شرائطها ، وهذه اللفظة تتضمن شرائطها ومعناها ( أو تبيين جميع مقتضاها ) ; لأن العبرة للمعاني .

[ ص: 19 ] قال : ( ولا يشترط تسليم المال ) ; لأن الدراهم والدنانير لا يتعينان في العقود . قال : ( ولا خلطهما ) ; لأن المقصود الخلط في المشترى ، وكل واحد منهما يشتري بما في يده بخلاف المضاربة ; لأنه لا بد من التسليم ليتمكن من الشراء ، ويشترط حضوره عند العقد أو عند المشترى ; لأن الشركة تتم بالشراء لأن الربح به يحصل . قال : ( وتنعقد على الوكالة والكفالة ) ; لأن المساواة بذلك تتحقق ، وهو أن يكون كل واحد منهما مطالبا بما طولب به صاحبه بالتجارة وهو الكفالة ، وأن يكون الحاصل في التجارة بفعل أيهما كان مشتركا بينهما وهي الوكالة ، فكان معنى المفاوضة وهو المساواة يقتضي الكفالة والوكالة ، فكأن كل واحد منهما فوض إلى الآخر أمر الشركة على الإطلاق ورضي بفعله ، وذلك يقتضي الوكالة والكفالة أيضا .

قال : ( فما يشتريه كل واحد منهما على الشركة ) عملا بعقد المفاوضة ( إلا طعام أهله وإدامهم وكسوتهم وكسوته ) والقياس أن يكون على الشركة بمقتضى العقد ، إلا أنا استحسنا ذلك للضرورة ، فإن الطعام والكسوة من اللوازم ، ولا يمكن إيجادها من مال غيره فيجب في ماله ضرورة .

قال : ( وللبائع مطالبة أيهما شاء بالثمن ) بمقتضى الكفالة ثم يرجع الكفيل على المشتري بنصف ما أدى لأنه كفيل أدى عنه بأمره .

قال : ( وإن تكفل بمال عن أجنبي لزم صاحبه ) وقالا : لا يلزمه لأنه تبرع حتى لا يصح من الصبي والمأذون وصار كالإقراض ، وله أنه تبرع ابتداء لما ذكر معاوضة انتهاء لأنه يجب له الضمان على المكفول عنه حتى لو كفل عنه بغير أمره لا يلزم شريكه ، وبالنظر إلى المعاوضة يلزم شريكه ، والإقراض ممنوع أو يقول هو إعارة ، ولهذا لا يصح فيه التأجيل ، وللمردود في الإعارة حكم العين لا حكم البدل ، فلم توجد المعاوضة وضمان الغصب والاستهلاك كالكفالة ; لأنه معاوضة انتهاء ، وكذا ما يلزم أحدهما من الديون بسبب تصح فيه الشركة كالبيع والإجارة ونحوهما يلزم شريكه ، وما لزم بسبب لا تصح فيه الشركة لا يلزم كالنكاح وبدل الخلع والصلح عن دم العمد ونحوه .

[ ص: 20 ] قال : ( فإن ملك أحدهما ما تصح فيه الشركة صارت عنانا ) لزوال المساواة ، وذلك مثل الإرث والوصية والاتهاب ، والمساواة في العنان ليست بشرط فتصير عنانا لوجود شرائطها ( وكذا في كل موضع فسدت فيه المفاوضة لفوات شرط لا يشترط في العنان ) فتصير عنانا وإن ملك شيئا لا تصح فيه الشركة كالعقار والعروض ، فالمفاوضة بحالها لأن ذلك لا يبطلها في الابتداء فكذا حالة البقاء .

قال : ( ولا تنعقد المفاوضة والعنان إلا بالدراهم والدنانير وتبريهما إن جرى التعامل به وبالفلوس الرائجة ) ، أما الدراهم والدنانير فلأنهما ثمن الأشياء خلقة ووضعا ولا خلاف في ذلك . وأما التبر فقيل يجوز مطلقا ; لأن الذهب والفضة خلقا ثمنين ، وقيل لا يجوز إلا بالتعامل وهو الأصح ; لأنهما وإن خلقا للثمنية لكن بوصف الضرب حتى لا ينصرف الاسم عند الإطلاق إلى التبر ، وإنما ينصرف إلى المضروب ، إلا أنا أجرينا التعامل مجرى الضرب عملا بالعرف فألحقناه بهما عند التعامل .

وإن كان لأحدهما دراهم وللآخر دنانير ، أو لأحدهما سود وللآخر بيض جازت المفاوضة إن استوت قيمتهما ; لأنه جنس واحد من حيث الثمنية ، وإن تفاضلا في القيمة لا تصح مفاوضة وتصير عنانا لما تقدم .

وروى الحسن عن أبي حنيفة - رحمه الله - : أنه لا يجوز وإن استويا في القيمة ، وهو قول زفر ; لأن الشركة تنبئ عن الخلطة ، ولا اختلاط مع اختلاف الجنس .

وجوابه أنهما جنس واحد من حيث الثمنية نظرا إلى المقصود على ما بينا . وأما الفلوس فلأنها إذا راجت التحقت بالأثمان . وعن أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - : أنه لا يجوز لأن ثمنيتها تتعين بالاصطلاح ومحمد مر على أصله في ثمنيتها حتى لا تتعين بالتعيين حالة النفاق والرواج .

قال : ( ولا تصح بالعروض ) ; لأنه يؤدي إلى ربح ما لم يضمن ; لأنه لا بد من بيعها ، فإذا باع أحدهما عروضه بألف وباع الآخر عروضه بألف وخمسمائة ومقتضى العقد الشركة في [ ص: 21 ] الكيل ، فما يأخذه صاحب الألف زيادة على الألف ربح ما لم يضمن ، وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ربح ما لم يضمن .

قال : ( إلا أن يبيع أحدهما نصف عروضه بنصف عروض الآخر إذا كانت قيمتاهما على السواء ) فتنعقد شركة أملاك ( ثم يعقدان الشركة ) على قيمتها وهذه شركة العروض .

وإن اشتركا على أن يبيع كل واحد منهما عروضه ويكون ثمنه بينهما لا يجوز لما تقدم .

وتصح الشركة بالمكيل والموزون والمعدود المتفاوت إذا خلطا واتحد الجنس ، وما ربحا لهما والوضيعة عليهما . وذكر الكرخي أن عند أبي يوسف - رحمه الله - : هي شركة أملاك ; لأنها ليست بأثمان فلا يصح التفاضل في الربح . وعند محمد : تصح شركة عقد بالخلط ; لأنها تصلح ثمنا لوجوبها دينا في الذمة ، إلا أن قبل الخلط لا تتحقق الوكالة ، فإنه لو قال له : اشتر بحنطتك شيئا على أن يكون بيننا لا يصح ; لأن توكيل الغير ببيع ملك نفسه لا يجوز ، وبعد الخلط تتحقق الوكالة فصحت الشركة .

قال : ( وشركة العنان تصح مع التفاضل في المال ) إلا أنها لا تقتضي المساواة فيجوز أن يشتركا في عموم التجارات وفي خصوصها وببعض ماله ; لأنها تنبئ عن الحبس ، يقال : عن الرجل إذا حبس ، والعنين محبوس عن النساء ، والعنان يحبس الدابة عن بعض الإطلاق ، فكأن شريك العنان حبس بعض ماله عن الشركة ، أو حبس شريكه عن بعض التجارات في ماله ، وتعتبر قيمة رأس المالين المختلفين يوم الشركة ; لأنه إنما يستحق زيادة الربح بالشرط يوم الشركة ، ويعتبر قيمتهما يوم الشراء ليعرف مقدار ملكهما في المشترى ; لأن حقهما ينتقل إلى المشترى بالشراء ، ويعتبر قيمتهما يوم القسمة أيضا ; لأن عند القسمة يظهر الربح .

قال : ( وتصح مع التفاضل في المال والتساوي في الربح إذا عملا أو شرطا زيادة الربح للعامل ) ، وقال زفر : لا تصح المساواة في المال والتفاوت في الربح ولا على العكس ، ولا يجوز إلا أن يكون الربح على قدر رأس المال ; لأنه يؤدي إلى ربح ما لم يضمن كالمفاوضة ، ولأنه لا يجوز اشتراط الوضيعة هكذا فكذا الربح . ولنا قول علي - رضي الله عنه - : الربح على ما اشترط [ ص: 22 ] المتعاقدان ، والوضيعة على المال . ولأن الربح كما يستحق بالمال يستحق بالعمل كالمضارب ، فإن أحدهما قد يكون أعرف بأمور التجارات وأهدى إلى البياعات فلا يرضى بالمساواة .

( وإذا تساويا في المال وشرطا التفاوت في الربح والوضيعة ، فالربح على ما شرطا والوضيعة على قدر المالين ) قال - صلى الله عليه وسلم - : " الربح على ما شرطا والوضيعة على قدر المالين " من غير فصل ، ولأنا جوزنا اشتراط زيادة الربح بمقابلة العمل تقديرا . أما زيادة الوضيعة فلا وجه لها ، وصار كما إذا شرطا الوضيعة على الضارب فإنه لا يصح كذلك هنا .

قال : ( وتنعقد على الوكالة ) لما مر ( ولا تنعقد على الكفالة ) ; لأنها إنما ثبتت في المفاوضة قضية للمساواة ولا مساواة هنا .

قال : ( ولا تصح فيما لا تصح الوكالة به كالاحتطاب والاحتشاش ) ; لأن الوكالة في ذلك باطلة ; لأنها مباحة ; لأن الآخذ يملكه بدون التوكيل فيكون فاعلا لنفسه ، ومن ذلك اجتناء الثمار من الجبال والاصطياد وحفر المعادن وأخذ الملح والجص والكحل وغيرها من المباحات ( وما جمعه كل واحد منهما فهو له ) دون صاحبه ; لأنه مباح سبقت يده عليه ( فإن أعانه الآخر فله أجر مثله ) بالغا ما بلغ ; لأن الشركة متى فسدت صارت إجارة فاسدة ، ولو استأجره في ذلك بنصف المجموع كان له أجر المثل بالغا ما بلغ كذلك هنا . وقال أبو يوسف : له أجر مثله لا يجاوز به نصف الثمن تحقيقا للفائدة ، وهذه الشركة فاسدة .

قال : ( وإن هلك المالان أو أحدهما في شركة العنان قبل الشراء بطلت الشركة ) أما إذا هلكا فلأن المعقود عليه المال وأنه يتعين فيها كالهبة والوصية وقد هلك فيبطل العقد كالبيع ، [ ص: 23 ] وأما إذا هلك أحدهما فلأن الآخر ما رضي بشركة في ماله إلا ليشركه في ماله أيضا ، وقد فاتت الشركة في الهالك فيفوت الرضى ويبطل العقد .

قال : ( وإن اشترى أحدهما بماله ثم هلك مال الآخر فالمشترى بينهما على ما شرطا ) ; لانعقاد الشركة وقت الشراء ( ويرجع على صاحبه بحصته من الثمن ) ; لأنه اشترى له بالوكالة ونقد الثمن من ماله فيرجع عليه لما مر .

( وإن هلك أحد المالين ثم اشترى أحدهما فالمشترى لصاحب المال خاصة ) ; لأن الوكالة بطلت بهلاك أحد المالين كما تقدم فيكون مشتريا لنفسه خاصة ، وإن كانا نصا على الوكالة في عقد الشركة كان المشترى بينهما على ما شرطا وتكون شركة أملاك ; لأن الشركة بطلت لما بينا ، والمشترى بحكم الوكالة المصرح بها لا بحكم الشركة المعقودة فكانت شركة أملاك ، ويرجع عليه بحصته من الثمن لما مر .

قال : ( ولا يجوز أن يشترطا لأحدهما دراهم مسماة من الربح ) ; لأنه قد لا يربح ما سميا أو يربح ذلك لا غير فتبطل الشركة فكان شرطا مبطلا للشركة فلا يجوز .

قال : ( ولشريك العنان والمفاوض أن يوكل ويبضع ويضارب ويودع ويستأجر على العمل ) ; لأن كل ذلك من أفعال التجار ( وهو أمين في المال ) ; لأنه قبضه من المالك بإذنه وليس له أن يشارك ; لأن الشيء لا يستتبع مثله ، فلو شارك المفاوض عنانا جاز عليهما لأنه دون المفاوضة ، ولو فاوضه جاز بإذن شريكه ، فإن لم يأذن ينعقد عنانا ; لأن الشيء لا يستتبع مثله ، فإذا أجاز المفاوضة كانت شركة مبتدأة ، وإلا فهي عنان ; لأنه لا بد له من الاستعانة بغيره ، وهذا دونه فيجوز كالمضارب له أن يوكل وليس له أن يضارب .

قال : ( وشركة الصنائع ) وتسمى شركة التقبل ، وهي ( أن يشترك صانعان اتفقا في الصنعة أو اختلفا على أن يتقبلا الأعمال ويكون الكسب بينهما فيجوز ) وقال زفر : لا يجوز مع اختلاف [ ص: 24 ] العمل لأن الشركة تنبئ عن الخلطة ولا اختلاط مع الاختلاف . ولنا أنها شركة في ضمان العمل وفيما يستفاد به وهو الأجر لا في نفس العمل ، والوكالة فيه ممكنة ; لأن ما يتقبل كل واحد منهما من العمل فهو أصيل في نصفه وكيل في نصفه ، وبذلك تتحقق الشركة ، ولو استويا في العمل وتفاضلا في المال جاز أيضا ; لأن الأجرة بدل عملهما ، وأنهما يتفاوتان فيكون أحدهما أجود عملا وأحسن صناعة فيجوز ، والقياس أن لا يجوز لأنه يؤدي إلى ربح ما لم يضمن ; لأن الضمان بقدر العمل فالزيادة عليه زيادة ربح ما لم يضمن . قلنا المأخوذ هنا ليس بربح ; لأن الربح يقتضي المجانسة بينه وبين رأس المال ولا مجانسة ; لأن رأس المال هو العمل والربح مال ، فكان بدل العمل على ما بينا .

قال : ( وما يتقبله أحدهما يلزمهما فيطالب كل واحد منهما بالعمل ويطالب بالأجر ) استحسانا . والقياس أنه لا يلزم شريكه ; لأن ذلك مقتضى المفاوضة ، والشركة هنا مطلقة ; وجه الاستحسان أن هذه الشركة تقتضي الضمان حتى كان ما يتقبله كل واحد منهما مضمونا على الآخر ، ويستوجب الأجر بما تقبله شريكه فكان كالمفاوضة في ضمان الأعمال والمطالبة بالأبدال .

قال : ( وشركة الوجوه جائزة ) وتسمى شركة المفاليس ( وهي أن يشتركا على أن يشتريا بوجوههما ويبيعا ) سميت بذلك ; لأن الشراء بالنسيئة إنما يكون لمن له وجاهة عند الناس ، والتعامل بذلك جائز بين الناس من غير نكير .

قال : ( وتنعقد على الوكالة ) ; لأن التصرف على الغير إنما يجوز بوكالته إذ لا ولاية عليه وهذا عند الإطلاق ، ولو شرط الكفالة أيضا جاز وتكون مفاوضة لأنه يمكن تحقيق ذلك ، لكن عند الإطلاق يصرف إلى العنان لأنه أدنى .

قال : ( وإن شرطا أن المشترى بينهما فالربح كذلك ، ولا تجوز الزيادة فيه ) ; لأن استحقاق الربح بالضمان ، والضمان يتبع الملك في المشترى فيتقدر بقدره .

[ ص: 25 ] قال : ( وإن اشتركا ولأحدهما بغل وللآخر راوية يستقي الماء لا يصح ، والكسب للعامل ) ; لأن الماء مباح وأخذه لا يستفاد بالوكالة وقد تقدم ( وعليه أجرة بغل الآخر أو راويته ) ; لأنه قد انتفع بملك الغير بعقد فاسد فيلزمه أجرته .

قال : ( والربح في الشركة الفاسدة على قدر المال ويبطل شرط الزيادة ) ; لأن الربح تبع لرأس المال فيتبعه في الملكية ، والزيادة إنما تستحق بالشرط وقد بطل .

قال : ( وإذا مات أحد الشريكين أو لحق بدار الحرب مرتدا بطلت الشركة ) لتضمنها الوكالة ، وهي تبطل بذلك على ما مر .

قال : ( وليس لأحد الشريكين أن يؤدي زكاة مال الآخر إلا بإذنه ) ; لأن ذلك ليس بداخل في الشركة لأنه ليس من التجارة ( فإن أذن كل واحد منهما لصاحبه فأديا معا ضمن كل واحد منهما نصيب صاحبه ، وإن أديا متعاقبا ضمن الثاني للأول علم بأدائه أو لم يعلم ) عند أبي حنيفة - رحمه الله - ، وعنه إن لم يعلم لا يضمن ، وهو قولهما ; لأنه مأمور بالدفع إلى الفقير وقد فعل . وله أنه مأمور بالدفع إليه زكاة ، والمدفوع لم يقع زكاة فكان مخالفا ، ولأنه أمره بأداء يخرجه عن العهدة ولم يوجد فكان مخالفا فيضمن ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية