صفحة جزء
[ ص: 39 ] كتاب اللقيط

وهو حر ونفقته في بيت المال ، وميراثه لبيت المال ، وجنايته عليه ، وديته له وولاؤه ، والملتقط أولى به من غيره ، وهو متبرع في الإنفاق عليه إلا أن يأذن له القاضي بشرط الرجوع ، ومن ادعى أنه ابنه ثبت نسبه منه ، وإن ادعاه اثنان معا ثبت منهما إلا أن يذكر أحدهما علامة في جسده .

والحر والمسلم أولى من العبد والذمي ، وان ادعاه عبد فهو ابنه وهو حر ، وإن ادعاه ذمي فهو ابنه وهو مسلم ، إلا أن يلتقطه من بيعة أو كنيسة أو قرية من قراهم فيكون ذميا ، ومن ادعى أنه عبده لم يقبل إلا ببينة ، وإذا كان على اللقيط مال مشدود فهو له وينفق عليه منه بأمر القاضي ، ويقبل له الهبة ، ويسلمه في صناعة ، ولا يزوجه ، ولا يؤاجره .


[ ص: 38 ] كتاب اللقيط

وهو فعيل من اللقط والالتقاط بمعنى مفعول ، ومعناه العثور على الشيء مصادفة من غير طلب ولا قصد . قال الراجز يصف ماء آجنا :


ومنهل وردته التقاطا أخضر مثل الزيت لما شاطا

.

أي وردته من غير طلب ولا قصد ، شاط الزيت إذا نضج حتى احترق ، وكذلك اللقيط يوجد من غير طلب .

والتقاط صغار بني آدم مفروض إن علم أنه يهلك إن لم يأخذه بأن كان في مفازة أو بئر أو مسبعة دفعا للهلاك عنه ، فإن غلب على ظنه عدم الهلاك بأن كان في مصر أو قرية فأخذه مندوب لما فيه من السعي في إحياء نفس محترمة ، قال الله - تبارك و تعالى - : ( ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ) وعن علي - رضي الله عنه - أنه قال للملتقط : " لأن أكون وليت منه مثل ما وليت أنت كان أحب إلي من كذا وكذا " .

قال : ( وهو حر ) تبعا للدار ، ولأن الأصل في بني آدم الحرية ( ونفقته في بيت المال ) لما روى عن سنين أبي جميلة قال : وجدت منبوذا على بابي : أي لقيطا ، فأتيت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال لي : " عسى الغوير أبؤسا ، نفقته علينا وهو حر " . وهذا مثل يقال عند [ ص: 39 ] التهمة . قال ابن الأعرابي : إنما عرض عمر بالرجل : أي لعلك صاحب اللقيط ، يريد أنك زنيت بأمه وادعيته لقيطا ، فشهد له جماعة بالخير فتركه .

قال : ( وميراثه لبيت المال وجنايته عليه ، وديته له وولاؤه ) ليكون الغرم بالغنم ، ولو قتل عمدا فإن شاء الإمام اقتص وإن شاء صالح على الدية . وقال أبو يوسف : تجب الدية في مال القاتل لا غير لاحتمال الولي وهو الظاهر إلا أنه غائب ولا يقتص دونه . ولهما قوله - عليه الصلاة والسلام - : " السلطان ولي من لا ولي له " ; لأن الولي الذي لا يعرف ولا ينتفع برأيه كالعدم فلا اعتبار به ، وليس له أن يعفو بالإجماع ; لأن فيه إبطال حق جماعة المسلمين ، ويحد قاذف اللقيط ولا يحد قاذف أمه ; لأن في حجرها ولدا لا يعرف أبوه فكانت تهمة الزنا قائمة كالملاعنة .

قال : ( والملتقط أولى به من غيره ) لسبق يده عليه كالمباحات ، فإن سأل القاضي أن يقبله إن شاء قبله وإن شاء لا لاحتمال أنه ولده فينفق عليه من بيت المال ، وكذلك إن علم أنه لقيط لأنه التزم حفظه وتربيته ، فإن دفعه الملتقط إلى آخر ليس له أن يسترده ; لأنه رضي بإبطال حقه .

قال : ( وهو متبرع في الإنفاق عليه ) لعدم الولاية ( إلا أن يأذن له القاضي بشرط الرجوع ) لعموم ولايته ، فإن أذن له ولم يشترط الرجوع ذكر الطحاوي أنه يرجع عليه بعد البلوغ ; لأنه قضى حقا عليه واجبا بأمر القاضي فصار كقضاء دينه بأمره ، والأصح أنه لا يرجع لأنه أمره بقضاء حق واجب بغير عوض ترغيبا له في إتمام ما شرع فيه من التبرع ، فصار كما إذا قال له أد عني زكاة مالي فإنه لا يرجع إلا بالشرط ، بخلاف الدين ; لأنه وجب عليه بعوض ولو لم يأذن له القاضي ، لكن صدقه اللقيط بعد بلوغه فله الرجوع عليه لأنه اعترف بحقه .

قال : ( ومن ادعى أنه ابنه ثبت نسبه منه ) لما فيه من نفع الصغير ; لأن الناس يتشرفون بالأنساب ويعيرون بعدمها ، وإذا ثبت نسبه ترتب عليه أخذه فتبطل يد الملتقط .

( وإن ادعاه اثنان معا ثبت منهما ) لعدم الأولوية ( إلا أن يذكر أحدهما علامة في جسده ) [ ص: 40 ] فيكون أولى بشهادة الظاهر أو لسبق في الدعوى ; لأنه ثبت نسبه منه في زمان لا ينازعه فيه غيره ، إلا إذا أقام الآخر البينة ; لأنها أقوى .

قال : ( والحر المسلم أولى من العبد والذمي ) ومعناه إذا ادعى نسبه حر وعبد أو مسلم وذمي فالحر أولى من العبد ، والمسلم أولى من الذمي ; لأن ذلك أنفع له ( وإن ادعاه عبد فهو ابنه ) ; لأن ثبوت النسب أنفع له ( وهو حر ) لما تقدم ، ولا يلزم من رق أبيه أن يكون رقيقا ; لأن العبد يتزوج الحرة ( وإن ادعاه ذمي فهو ابنه ) لما مر ( وهو مسلم ) ; لأن الإسلام ثبت له بالدار وإبطاله إضرار به ، وليس من ضرورة كون الأب كافرا كفر الولد لاحتمال إسلام الأم .

قال : ( إلا أن يلتقطه من بيعة أو كنيسة أو قرية من قراهم فيكون ذميا ) ; لأن الظاهر أن أولاد المسلمين لا يكونون في مواضع أهل الذمة فكذلك بالعكس ، ففي ظاهر الرواية أنه اعتبر المكان دون الواجد كاللقيط إذا وجده مسلم في دار الحرب . وروى أبو سليمان عن محمد أنه اعتبر الواجد دون المكان ; لأن اليد أقوى ; وفي رواية اعتبر الإسلام نظرا للصغير .

قال : ( ومن ادعى أنه عبده لم يقبل إلا ببينة ) عملا بالأصل ، وإقراره بالرق قبل البلوغ لا يقبل ، وبعد البلوغ إن أجرى عليه أحكام الأحرار من قبول شهادته وحد قاذفه لم يصح وقبل ذلك يصح ، ولو التقطه مسلم فادعى نصراني أنه ابنه فهو ابنه وهو مسلم لما تقدم ، وإن كان عليه زي النصارى كالصليب والزنار فهو نصراني ; لأن الظاهر أنه ولد على فراشه ولا اعتبار بالمكان .

قال : ( وإذا كان على اللقيط مال مشدود فهو له ) عملا بالظاهر ( وينفق عليه منه بأمر القاضي ) لعموم ولايته ويصدق عليه في نفقة مثله ; وقيل لا يحتاج إلى أمر القاضي ; لأن المال له فينفق عليه منه ، وله ولاية ذلك فيشتري له ما يحتاج إليه من الكسوة والطعام وغيرهما .

قال : ( ويقبل له الهبة ) لأنه نفع محض ( ويسلمه في صناعة ) ; لأنه من باب التثقيف وفيه منفعته ( ولا يزوجه ) ; لأنه لا ولاية له عليه ، وولاية التزويج والبيع والشراء للسلطان لعموم [ ص: 41 ] ولايته ، فإن زوجه السلطان ولا مال له فالمهر في بيت المال ، وفي النوادر : إذا أمر الملتقط بختان الصبي فهلك ضمن لأنه ليس له هذه الولاية .

قال : ( ولا يؤاجره ) وهو الأصح ; لأنه لا يملك إتلاف منافعه كالعم بخلاف الأم ; لأنها تملك ذلك ، ولهذا كان لها إجارته لنفقتها واستخدامه .

التالي السابق


الخدمات العلمية