صفحة جزء
[ ص: 42 ] كتاب اللقطة

وأخذها أفضل ، وإن خاف ضياعها فواجب ، وهي أمانة إذا أشهد أنه أخذها ليردها على صاحبها ، فإن لم يشهد ضمنها ويعرفها مدة يغلب على ظنه أن صاحبها لا يطلبها بعد ذلك .

فإن جاء صاحبها وإلا تصدق بها إن شاء ، وإن شاء أمسكها ، فإن جاء وأمضى الصدقة فله ثوابه ، وإلا له أن يضمنه ، أو يضمن المسكين ، أو يأخذها إن كانت باقية ، وأيهما ضمن لا يرجع على أحد ، ولا يتصدق بها على غني ، وينتفع بها إن كان فقيرا ، وإن كانت شيئا لا يبقى عرفه إلى أن يخاف فساده ، ويعرفها في مكان الالتقاط ومجامع الناس . وإن كانت حقيرة كالنوى وقشور الرمان ينتفع به من غير تعريف ، وللمالك أخذه ، والسنبل بعد الحصاد إذا جمعه فهو له خاصة ، ويجوز التقاط الإبل والبقر والغنم وسائر الحيوانات ، وهو متبرع فيما أنفق عليها ، فإن كان لها منفعة آجرها بإذن الحاكم وأنفق عليها ، وإن لم يكن لها منفعة باعها إن كان أصلح ، فإن جاء صاحبها فله حبسها حتى يعطيه النفقة ، فإن امتنع بيعت في النفقة ، فإن هلكت بعد الحبس سقطت النفقة وقبل الحبس لا ، وليس في رد اللقطة والضالة والصبي الحر شيء واجب ، ومن ادعى اللقطة يحتاج إلى البينة ، فإن أعطى علامتها جاز له أن يدفعها إليه ولا يجبر ، ولقطة الحل والحرم سواء .


[ ص: 42 ] كتاب اللقطة

وهي كاللقيط في الاشتقاق والمعنى ، وهي بضم اللام وفتح القاف : اسم للمال الملقوط ، وقال بعضهم : هي اسم الملتقط كالضحكة واللمزة والهمزة . فأما المال الملقوط فهو بسكون القاف ، والأول أصح .

قال : ( وأخذها أفضل ) لئلا تصل إليها يد خائنة ( وإن خاف ضياعها فواجب ) صيانة لحق الناس عن الضياع ، وإن كان يخاف على نفسه الطمع فيها وترك التعريف والرد فالترك أولى صيانة له عن الوقوع في المحرم .

واللقطة : ما يوجد مطروحا على الأرض ما سوى الحيوان من الأموال لا حافظ له . والضالة : الدابة تضل الطريق إلى مربطها وأخذها أفضل ; لأن الغالب في زماننا الضياع ، فإن أخذها وأشهد وعرفها ثم ردها إلى موضعها لم يضمن . وذكر الحاكم في مختصره ، أو ردها بعد ما حولها ضمن ; لأن بالتحويل التزم الحفظ ، فبالرد صار مضيعا ولا كذلك قبل التحويل .

قال : ( وهي أمانة إذا أشهد أنه يأخذها ليردها على صاحبها ) وهو أن يشهد عند الأخذ أنه يأخذها للرد أو يقول : من سمعتموه ينشد لقطة فدلوه علي ( فإن لم يشهد ضمنها ) خلافا لأبي يوسف إذا ادعى أنه أخذها للرد لأن الظاهر من حاله الحسبة لا المعصية . ولهما أن الأصل أن كل متصرف عاقل إنما يتصرف لنفسه ، وقد اعترف بالأخذ الذي هو سبب الضمان ثم ادعى ما يبرئه فلا يصدق إلا ببينة ، وإن قال أخذته لنفسي ضمن بالإجماع بإقراره ، وإن تصادقا أنه أخذها ليردها لم يضمن بالإجماع لأن تصادقهما كالبينة .

[ ص: 43 ] قال : ( ويعرفها مدة يغلب على ظنه أن صاحبها لا يطلبها بعد ذلك ) هو المختار ; لأن ذلك يختلف بقلة المال وكثرته . وعن أبي حنيفة إن كانت أقل من عشرة دراهم عرفها أياما ، وإن كانت عشرة فصاعدا عرفها حولا . وعن محمد : التقدير بالحول من غير فصل لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " من التقط شيئا فليعرفه حولا " من غير فصل . وجه الأول ما روي عن أبي بن كعب قال : " وجدت مائة دينار على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألته عنها ، فقال : عرفها حولا " ، والعشرة وما فوقها في معناها من حيث وجوب القطع في سرقة واستباحة الفرج بها ولا كذلك ما دونها . وروى الحسن عن أبي حنيفة إن كانت مائتي درهم فما فوقها يعرفها حولا ، وفوق العشرة إلى مائة درهم شهرا ، وفي العشرة جمعة ، وفي ثلاثة دراهم ثلاثة أيام ، وفي درهم يوما ، وإن كانت تمرة ونحوها تصدق بها مكانها ، وإن كان محتاجا أكلها مكانها قدر لكل لقطة على قدرها فكأنه والأول سواء . والتعريف أن ينادي في الأسواق والشوارع والمساجد : من ضاع له شيء فليطلب عندي .

قال : ( فإن جاء صاحبها وإلا تصدق بها إن شاء ) إيصالا للحق إلى مستحقه بقدر الإمكان ; لأن الواجب إيصاله إلى مالكه صورة ومعنى ، فإذا تعذرت الصورة يوصله إليه معنى وهو الثواب .

( وإن شاء أمسكها ) لاحتمال مجيء صاحبها ( فإن جاء وأمضى الصدقة فله ثوابه ) لأنه ماله ( وإلا له أن يضمنه أو يضمن المسكين أو يأخذها إن كانت باقية ) ، أما تضمينه فلأنه سلم ماله إلى غيره بغير أمره ، وإذن الشرع في ذلك لا يمنع الضمان كأكل مال الغير حال المخمصة . وأما تضمين المسكين فلأنه قبض ماله بغير أمره . وأما أخذها فلأنه وجد عين ماله .

[ ص: 44 ] قال : ( وأيهما ضمن لا يرجع على أحد ) أما الملتقط فلأنه ملكها من وقت التصدق بالضمان فظهر أنه تصدق بماله ، وأما الفقير فلأنه عوض ما وصل إليه . قال : ( ولا يتصدق بها على غني ) لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " فإن لم يأت صاحبها فليتصدق بها " ، والصدقة لا تكون على الغني كالواجبات .

قال : ( وينتفع بها إن كان فقيرا ) كغيره من الفقراء ، ويعطيها أهله إن كانوا فقراء لما مر .

قال : ( وإن كانت شيئا لا يبقى ) كاللحم واللبن والفواكه الرطبة ونحوها ( عرفه إلى أن يخاف فساده ) ثم يتصدق به خوفا من الفساد وفيه نظر لصاحبه بالثواب دنيا وأخرى .

( ويعرفها في مكان الالتقاط ومجامع الناس ) فهو أجدر أن يصل صاحبها . وسأل رجل عليا - رضي الله عنه - فقال : اذهب حيث وجدتها فإن وجدت صاحبها فادفعها إليه وإلا فتصدق بها ، فإن جاء صاحبها فخيره بين الأجر والقيمة .

قال : ( وإن كانت حقيرة كالنوى وقشور الرمان ينتفع به من غير تعريف ) ; لأن رميها إباحة للأخذ دلالة . قال : ( وللمالك أخذه ) ; لأن الإباحة لا تسقط الملك عن العين خصوصا لغير معين ، وإن كان كثيرا لم يجز للملتقط الانتفاع به .

قال : ( والسنبل بعد الحصاد إذا جمعه فهو له خاصة ) بدلالة الحال وعليه جميع الناس في جميع البلاد . قال أبو يوسف : من ألقى شاة ميتة فجاء آخر فأخذ صوفها وجلدها ودبغه فهو له ، فإن جاء صاحبها فله أخذ الصوف والجلد وعليه ما زاد الدباغ كالغاصب .

غريب مات في دار رجل ليس له وارث معروف وخلف مالا وصاحب المنزل فقير فله الانتفاع به بمنزلة اللقطة .

قال : ( ويجوز التقاط الإبل والبقر والغنم وسائر الحيوانات ) ; لأنه مال يتوهم ضياعه فيستحب أخذه ليرده على صاحبه صيانة لأموال الناس ، وما روي أنه - عليه الصلاة والسلام - سئل [ ص: 45 ] عن ضالة الإبل فقال : " ما لك ولها عليها حذاؤها ومعها سقاؤها ترد الماء وترعى الشجر " . وسئل - عليه الصلاة والسلام - عن ضالة الغنم فقال : " هي لك أو لأخيك أو للذئب " فجوابه أن ذلك كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين كان الخوف من الافتراس لا من أخذ الناس ; أما اليوم كثر الفساد والخيانة وقلة الأديان والأمانة فكان أخذه أولى .

قال : ( وهو متبرع فيما أنفق عليها ) لعدم ولايته على مالكها إلا أن يأذن له القاضي فيكون دينا على صاحبها لعموم ولايته وفي ذلك نظر للمالك . قال : ( فإن كان لها منفعة آجرها بإذن الحاكم وأنفق عليها ) ; لأن فيه بقاء الملك على مالكه من غير أن يلزمه دين فكذلك حكم الآبق ( وإن لم يكن لها منفعة باعها إن كان أصلح ) ، وإن كان الأصلح الإنفاق عليها أمر بذلك وجعلها دينا على مالكها ; لأن ولايته نظرية . وللقاضي أن يأمره بالنفقة عليها يومين وثلاثة رجاء مجيء صاحبها ، وبعد ذلك يبيعها لئلا تستأصلها النفقة فلا نظر حينئذ في حقه .

قال : ( فإن جاء صاحبها فله حبسها حتى يعطيه النفقة ) ; لأنه استفاد الملك من جهته لأنه صار هالكا معنى وقد أحياه بنفقته فصار كالبائع ( فإن امتنع بيعت في النفقة ) كالرهن ; لأن أمر القاضي كأمره ، فصار كأنه أنفق عليها وحبسها بأمره ( فإن هلكت بعد الحبس سقطت النفقة ) كالرهن ( وقبل الحبس لا ) ; لأنها أمانة .

قال : ( وليس في رد اللقطة والضالة والصبي الحر شيء واجب ) ; لأنه متبرع في الرد فإن أعطاه المالك شيئا فحسن ، بخلاف الآبق لأن جعله واجب نصا لا قياسا . وعن الكرخي في اللقطة : إذا قال من وجدها فله كذا فله أجر مثله ; لأنها إجارة فاسدة . وعن أبي يوسف : لو ضاعت اللقطة فوجدها آخر لا يكون الأول خصما فيها ; لأنهما سواء في الالتقاط وليس كالمستودع ; لأن حفظ الوديعة عليه فله أخذها .

قال : ( ومن ادعى اللقطة يحتاج إلى البينة ) ; لأنها دعوى ( فإن أعطى علامتها جاز له أن يدفعها إليه ولا يجبر ) لجواز أنه عرفها من صاحبها أو رآها عنده ، ولأن حق اليد كالملك فلا

[ ص: 46 ] تستحق إلا ببينة كالملك إلا أنه يجوز له الدفع عند العلامة لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " فإن جاء صاحبها فعرف عفاصها ووكاءها فادفعها إليه " فحملناه على الإباحة جمعا بينه وبين الحديث المشهور " البينة على المدعي " ، ولو صدقه ودفعها إليه بغير قضاء ثم جاء آخر وأقام البينة فله أن يضمن أيهما شاء ، ولا يرجع القابض على الدافع ، وإن دفعها بقضاء فهو مجبور فيرجع على القابض لا غير .

قال : ( ولقطة الحل والحرم سواء ) لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة " ، ولأنها لقطة ، وفي التصدق بعد سنة إيصالها إلى مالكها بقدر الوسع على ما تقدم فيشرع ، وتأويل قوله - عليه الصلاة والسلام - في الحرم : " لا تحل لقطته إلا لمنشد " أي لمعرف ، والتخصيص بالحرم لئلا يتوهم السقوط طمعا أنها للغرباء .

التالي السابق


الخدمات العلمية