صفحة جزء
[ ص: 95 ] كتاب الشرب

وهو النصيب من الماء ، وقسمة الماء بين الشركاء .

ويجوز دعوى الشرب بغير أرض ، ويورث ، ويوصي بمنفعته دون رقبته ولا يباع ، ولا يوهب ، ولا يتصدق به ، ولا يصلح مهرا ، ولا بدلا في الخلع ، ولا بدلا في الصلح عن دعوى المال ولا في القصاص .

والمياه أنواع : ماء البحر ، وهو عام لجميع الخلق الانتفاع به بالشفة وسقي الأراضي وشق الأنهار ، والأودية والأنهار العظام كجيحون وسيحون والنيل والفرات ودجلة ، فالناس مشتركون فيه في الشفة وسقي الأراضي ونصب الأرحية .

وما يجري في نهر خاص لقرية فلغيرهم فيه شركة في الشفة ، وما أحرز في جب ونحوه فليس لأحد أن يأخذ منه شيئا بدون إذن صاحبه وله بيعه ، ولو كانت البئر أو العين أو النهر في ملك رجل له منع من يريد الشفة من الدخول في ملكه إن كان يجد غيره بقربه في أرض مباحة ، فإن لم يجد فإما أن يتركه يأخذ بنفسه أو يخرج الماء إليه ، فإن منعه وهو يخاف العطش على نفسه أو مطيته قاتله بالسلاح ، وفي المحرز بالإناء يقاتله بغير سلاح ، والطعام حالة المخمصة كالماء المحرز بالإناء .


[ ص: 94 ] كتاب الشرب

( وهو النصيب من الماء ) للأراضي وغيرها . قال الله - تعالى - : ( لها شرب ولكم شرب يوم معلوم ) .

قال : ( وقسمة الماء بين الشركاء جائزة ) ، وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس يفعلونه فأقرهم عليه ، وتعامله الناس إلى يومنا من غير نكير ، وهو قسمة باعتبار الحق دون الملك ; لأن الماء غير مملوك في النهر ، والقسمة تارة تكون باعتبار الملك ، وتارة باعتبار الحق كقسمة الغنائم .

قال : ( ويجوز دعوى الشرب بغير أرض ) استحسانا لجواز أن يكون الشرب حقا له بدون الأرض بأن اشترى الأرض والشرب ثم باع الأرض وبقي الشرب أو ورثه ، وقد يملك بالإرث ما لا يملك بالبيع كالقصاص والخمر ، وإذا شهدوا بشرب يوم من النهر لا تقبل إذا لم يقولوا من كم يوم ، ولو ادعى أرضا على نهر شربها منه فشهدوا له بالأرض قضى بها وبحصتها من الشرب ; لأن الأرض لا تنفك عن الشرب ، ولو ادعى الشرب وحده فشهدوا له لا يقضى بشيء من الأرض .

قال : ( ويورث ويوصي بمنفعته دون رقبته ) ; لأنه حق مالي فيجري فيه الإرث ، وجهالة الموصى به لا تمنع الوصية ; لأن الوصية من أوسع العقود حتى جازت للمعدوم وبالمعدوم .

[ ص: 95 ] قال : ( ولا يباع ولا يوهب ، ولا يتصدق به ) للجهالة الفاحشة وعدم تصور القبض ، ولأنه ليس بمتقوم حتى لو سقى به غيره لا يضمن ( ولا يصلح مهرا ) لما بينا ويجب مهر المثل ( ولا بدلا في الخلع ) حتى ترد ما قبضت من المهر ( ولا بدلا في الصلح ) عن دعوى المال ( ولا في القصاص ) ، ويسقط القصاص وتجب الدية .

( والمياه أنواع ) : الأول ( ماء البحر ، وهو عام لجميع الخلق الانتفاع به بالشفة وسقي الأراضي وشق الأنهار ) لا يمنع أحد من شيء من ذلك كالانتفاع بالشمس والهواء .

( و ) الثاني : ( الأودية والأنهار العظام كجيحون وسيحون والنيل والفرات ودجلة ، فالناس مشتركون فيه في الشفة وسقي الأراضي ونصب الأرحية ) والدوالي إذا لم يضر بالعامة ، وذلك بأن يحيي مواتا ويشق نهرا لسقيها ليس في ملك أحد ; لأنه مباح في الأصل ، وغلبة الماء تمنع قهر غيره واستيلاءه عليه ، وإن كان يضر بالعامة فليس له ذلك ; لأن دفع الضرر عنهم واجب ، وذلك بأن يكسر ضفته فيميل الماء إلى جانبها فيغرق الأراضي والقرى ، وكذا شق الساقية للرحى والدالية .

( و ) الثالث : ( ما يجري في نهر خاص لقرية فلغيرهم فيه شركة في الشفة ) وهو الشرب والسقي للدواب ، ولهم أخذ الماء للوضوء وغسل الثياب والخبز والطبخ لا غير ، وإن أتى على الماء كله . روي أنه وردت على أبي حنيفة مسائل من خراسان فدفعها إلى زفر ليكتب فيها منها : رجل له ماء يجري إلى مزارعه فيجيء رجل فيسقي إبله ودوابه منه حتى ينفذه كله هل له ذلك ؟ فكتب زفر : ليس له ذلك ، فعرضها على أبي حنيفة فغلطه وقال : لصاحب الإبل ذلك لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " الناس شركاء في ثلاث " الحديث ، والحديث يشمل الشرب والشرب ، إلا [ ص: 96 ] أن الشرب خص في النهر الخاص دفعا للضرر عن أهله ، وبقي حق الشفة للضرورة إما لشدة الحاجة ، أو لأنه لا يقدر على استصحاب الماء في كل مكان . والبئر والحوض حكمهما حكم النهر الخاص .

( و ) الرابع : ( ما أحرز في جب ونحوه فليس لأحد أن يأخذ منه شيئا بدون إذن صاحبه وله بيعه ) ; لأنه ملكه بالإحراز وصار كالصيد والحشيش إلا أنه لا يقطع في سرقته لقيام شبهة الشركة فيه بالحديث .

قال : ( ولو كانت البئر أو العين أو النهر في ملك رجل له منع من يريد الشفة من الدخول في ملكه إن كان يجد غيره بقربه في أرض مباحة ، فإن لم يجد فإما أن يتركه يأخذ بنفسه ) بشرط أن لا يكسر ضفته ( أو يخرج الماء إليه ، فإن منعه وهو يخاف العطش على نفسه أو مطيته قاتله بالسلاح ) لما روي أن قوما وردوا ماء فسألوا أهله أن يدلوهم على البئر فأبوا ، فسألوهم أن يعطوهم دلوا فأبوا ، فقالوا لهم : إن أعناقنا وأعناق مطايانا قد كادت تنقطع فأبوا أن يعطوهم ، فذكروا ذلك لعمر - رضي الله عنه - فقال : هلا وضعتم فيهم السلاح ؟ ولأنه منع المضطر عن حقه ; لأن حقه ثابت في الشفة فكان له أن يقاتله بالسلاح .

( وفي المحرز بالإناء يقاتله بغير سلاح ) ; لأنه ملكه بالإحراز حتى كان له تضمينه ، إلا أنه مأمور أن يدفع إليه قدر حاجته فبالمنع خالف الأمر فيؤدبه ( والطعام حالة المخمصة كالماء المحرز بالإناء ) في الإباحة والمقاتلة والضمان لما بينا ، ولو كان النهر أو البئر في موات قد أحياه فليس له أن يمنع صاحب الشفة من الدخول إذا كان لا يكسر المسناة ; لأن الموات كان مشتركا والإحياء لحق مشترك فلا يقطع حق الشفة .

والأصل في ذلك قوله - عليه الصلاة والسلام - : " المسلمون " وفي رواية : " الناس مشتركون [ ص: 97 ] في ثلاث : في الماء والكلأ والنار " ، أثبت الشركة فيها للناس كافة ، المسلمون والكفار فيه سواء ، فحكم الماء ما ذكرنا .

وأما الكلأ إن كان في أرض مباحة فالناس فيه شركاء في الاحتشاش والرعي كاشتراكهم في ماء البحر ، وإن كان في أرض مملوكة وقد نبت بنفسه فهو كالنهر في أرضه لا يمنع عنه وله المنع من الدخول في ملكه ، وإن لم يجد غيره فعلى التفصيل الذي ذكرنا في الماء ، وإن أنبته في أرضه فهو مملوك له ، والكلأ ما انبسط على الأرض ولا ساق له كالإذخر ونحوه ، أما ما له ساق فهو شجر وهو ملك لصاحب الأرض ; لأنه - عليه الصلاة والسلام - إنما أثبت الشركة في الكلأ لا في الشجر ، والعوسج من الشجر .

وأما النار فلو أوقد نارا في مفازة فالجمر ملكه وليس له أن يمنع أحدا من الاستضاءة والاصطلاء وأن يتخذ منها سراجا ; لأن الجمر من الحطب وأنه ملكه ، والنور جوهر الجمر ، ولأنا لو أطلقنا الناس في أخذ الجمر لم يبق له ما يصطلي به ولا ما يخبز ويطبخ به ، وإن أوقد النار في ملكه فله أن يمنع غيره من الدخول في ملكه لا من النار كما مر في الماء والكلأ .

التالي السابق


الخدمات العلمية