صفحة جزء
[ ص: 100 ] كتاب المزارعة

وهي عقد على الزرع ببعض الخارج ، وهي جائزة عند أبي يوسف ومحمد ، وعند أبي حنيفة هي فاسدة ، والفتوى على قولهما ، ولا بد فيها من التأقيت ، ومن صلاحية الأرض للزراعة ، ومن معرفة مقدار البذر ، ومعرفة جنسه ، ونصيب الآخر ، والتخلية بين الأرض والعامل ، وأن يكون الخارج مشتركا بينهما حتى لو شرطا لأحدهما قفزانا معلومة ، أو ما على السواقي ، أو أن يأخذ رب البذر بذره ، أو الخراج فسدت ، وإن شرط رفع العشر جاز ، وإذا كانت الأرض والبذر لواحد ، والعمل والبقر لآخر ، أو كانت الأرض لواحد والباقي لآخر ، أو كان العمل من واحد والباقي لآخر فهي صحيحة وإذا صحت المزارعة فالخارج على الشرط ، فإن لم يخرج شيء فلا شيء للعامل وما عدا هذه الوجوه فاسدة ، وإذا فسدت فالخارج لصاحب البذر ، وللآخر أجر عمله أو أجر أرضه لا يزاد على قدر المسمى ( م ) ، ولو شرطا التبن لرب البذر صح ، وإن شرطاه للآخر لا يصح ، وإن عقداها فامتنع صاحب البذر لم يجبر ، وإن امتنع الآخر أجبر إلا أن يكون عذر تفسخ به الإجارة فتفسخ به المزارعة ، وليس للعامل أن يطالبه بأجرة الكراب وحفر الأنهار ، وأجرة الحصاد والرفاع والدياس والتذرية عليهما بالحصص ، ولو شرطا ذلك على العامل لا يجوز ; وعن أبي يوسف جوازه وعليه الفتوى ، وإذا مات أحد المتعاقدين بطلت ، وإذا انقضت المدة ولم يدرك الزرع فعلى المزارع أجرة نصيبه من الأرض حتى يستحصد ، ونفقة الزرع عليهما حتى يستحصد .


[ ص: 100 ] كتاب المزارعة

( وهي ) مفاعلة من الزراعة وهي الحرث والفلاحة ، وتسمى مخابرة ، مشتقة من خيبر " فإنه - صلى الله عليه وسلم - دفع خيبر مزارعة " فسميت المزارعة مخابرة لذلك ، أو من الخبير وهو الأكار ، أو من الخبرة بالضم : النصيب ، أو من الخبار : الأرض اللينة ، وتسمى المحاقلة مشتقة من الحقل وهو الزرع إذا تشعب قبل أن يغلظ سوقه ، وقيل الحقل : الأرض الطيبة الخالصة من شائبة السبخ الصالحة للزراعة وتسميه أهل العراق القراح .

وفي الشرع ( عقد على الزرع ببعض الخارج ، وهي جائزة عند أبي يوسف ومحمد ) لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " عامل أهل خيبر على نصف ما يخرج من ثمر وزرع ) ، ولأن الحاجة ماسة إليها لأن صاحب الأرض قد لا يقدر على العمل بنفسه ولا يجد ما يستأجر به والقادر على العمل لا يجد أرضا ولا ما يعمل به ، فدعت الحاجة إلى جوازها دفعا للحاجة كالمضاربة .

( وعند أبي حنيفة هي فاسدة ) لما روى رافع بن خديج قال : " نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أمر كان لنا نافعا ، نهانا إذا كان لأحدنا أرض أن نعطيها ببعض الخارج ثلثه أو نصفه ، وقال : " من [ ص: 101 ] كانت له أرض فليزرعها أو يمنحها أخاه " ، وهذا متأخر عما كانوا يعتقدونه من الإباحة ويعملونه فاقتضى نسخه .

وعن زيد بن ثابت قال : " نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المخابرة قال : قلت وما المخابرة ؟ قال : أن تأخذ أرضا بثلث أو نصف أو ربع " ، وعن ابن عمر قال : كنا نخابر ولا نرى بذلك بأسا حتى ذكر رافع بن خديج : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المخابرة " فتركناه من أجل قوله ، ولأنه استئجار بأجرة مجهولة معدومة وذلك مفسد ، ولأنه استئجار ببعض ما يحصل من عمله فلا يجوز كقفيز الطحان ، وحديث خيبر محمول على أنه خراج مقاسمة ، فإنه - عليه الصلاة والسلام - لما فتح خيبر عنوة ترك خيبر على أهلها بوظيفة وظفها عليهم ، وهي نصف ما يخرج من نخيلهم وأراضيهم . ( والفتوى على قولهما ) لحاجة الناس ، وقد تعامل بها السلف فصارت شريعة متوارثة وقضية متعارفة . قال الحصيري : وأبو حنيفة هو الذي فرع هذه المسائل على أصوله لعلمه أن الناس لا يأخذون بقوله .

قال : ( ولا بد فيها من التأقيت ) ; لأنها تنعقد إجارة ابتداء وشركة انتهاء ، ولأنها ترد على منفعة الأرض والعامل فلا بد من تعيين المدة كالإجارة . قال : ( ومن صلاحية الأرض للزراعة ) ليحصل المقصود إذ هي المحل .

قال : ( ومن معرفة مقدار البذر ) قطعا للمنازعة ( ومعرفة جنسه ) ; لأنه الأجرة ( ونصيب الآخر ) لأنه يستحقه عوضا بالشرط ، ولا بد أن يكون العوض معلوما .

قال : ( والتخلية بين الأرض والعامل ) لما مر في المضاربة ( وأن يكون الخارج مشتركا بينهما ) لما مر في المضاربة فكل شرط يؤدي إلى قطع الشركة يفسدها ( حتى لو شرطا لأحدهما قفزانا معلومة ، أو ما على السواقي ، أو أن يأخذ رب البذر بذره ، أو الخراج فسدت ) ; لأنه يؤدي إلى قطع الشركة ، وقد مر في المضاربة . قال : ( وإن شرط رفع العشر جاز ) لأنه لا يؤدي إلى [ ص: 102 ] قطع الشركة لأنه لا بد أن يبقى بعده تسعة أعشار فتبقى الشركة فيه ، بخلاف الخراج والبذر ; لأنه قد لا يخرج إلا ذلك القدر أو أقل منه ، فيؤدي إلى قطع الشركة فيبطل .

قال : ( وإذا كانت الأرض والبذر لواحد والعمل والبقر لآخر ، أو كانت الأرض لواحد والباقي لآخر ، أو كان العمل من واحد والباقي لآخر فهي صحيحة ) ; لأنه استئجار للأرض أو للعامل . أما الأول فلأنه استئجار للعامل ، والبقر آلة العمل فكانت تابعة له لا يقابلها أجرة كإبرة الخياط . وأما الثاني فهو استئجار الأرض ببعض معلوم فصار كالدراهم المعلومة . وأما الثالث فهو استئجار للعامل ليعمل بآلة المستعمل كما إذا شرط على الخياط أن يخيط بإبرة صاحب الثوب .

( وإذا صحت المزارعة فالخارج على الشرط ) عملا بالتزامهما ، قال - عليه الصلاة والسلام - : " المؤمنون عند شروطهم " .

( فإن لم يخرج شيء فلا شيء للعامل ) ; لأنها شركة في الخارج ولا خارج وصار كالمضارب إذا لم يربح ، وإن كانت إجارة فقد عين الأجرة فلا يستحق غيرها ، بخلاف الفاسدة ; لأن أجر المثل يتعلق بالذمة فلا يفوت بفوات الخارج .

قال : ( وما عدا هذه الوجوه فاسدة ) وهي ثلاثة أيضا : وهي أن يكون البقر والآلات من رب الأرض والبذر من العامل ، أو يكون البذر من أحدهما والباقي من الآخر ، أو تكون الأرض من واحد والبقر من آخر والبذر من آخر والعمل من آخر .

[ ص: 103 ] أما الأول فمذكور رواية الأصل . وروي عن أبي يوسف - رحمه الله - جوازه لأنه استئجار الأرض ببعض الخارج فيجوز ويجعل البقر تبعا للأرض كما تجعل تبعا للعامل . وجه الظاهر أن منفعة البقر من جنس منفعة العامل ; لأن الكل عمل فأمكن جعلها تبعا للعامل وليست من جنس منفعة الأرض ; لأن منفعة الأرض قوة في طبعها بخلق الله - تعالى - يحصل بها النماء فلا يمكن جعلها تبعا . وأما الثاني فلأنه شركة بين البذر والعمل ولم يرد به الشرع . وأما الثالث فلما روي أن أربعة اشتركوا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قبل أحدهم الأرض ، ومن قبل الآخر البذر ، ومن قبل الآخر البقر ، ومن قبل الآخر العمل فأبطلها - عليه الصلاة والسلام - . قال أبو جعفر الطحاوي - رحمه الله - في شرح الآثار : فزرعوا ثم حصدوا ثم أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - : " فجعل الزرع لصاحب البذر ، وجعل لصاحب العمل أجرا معلوما ، وجعل لصاحب الفدان كل يوم درهما ، وألغى الأرض في ذلك " . ووجه آخر فاسد أيضا ، وهو أن يكون البذر والبقر من جانب والعمل والأرض من جانب ، لما مر في الوجه الثاني .

قال : ( وإذا فسدت فالخارج لصاحب البذر ) ; لأنه نماء ملكه ، والآخر إنما يستحقه بالتسمية وقد فسدت ( وللآخر أجر عمله ) إن كان البذر من رب الأرض ( أو أجر أرضه ) إن كان البذر من قبل العامل ( لا يزاد على قدر المسمى ) ; لأنه رضي بقدر المسمى .

وقال محمد - رحمه الله - : تجب بالغة ما بلغ ، وقد سبق في الإجارة . وإذا كان البذر لرب الأرض في المزارعة الفاسدة طاب له جميعه لأنه نماء بذره في أرضه ، وإن كان من العامل طاب له قدر بذره وقدر أجر الأرض ، وتصدق بالفضل لأنه حصل من بذره لكن في أرض مملوكة للغير بعقد فاسد أوجب خبثا ، فما كان عوض ماله طاب له وتصدق بالفضل ، وإن شرطا عملهما جميعا فهي فاسدة ; لأن البذر إن كان من صاحب الأرض وقد شرط عمله لم توجد التخلية بين الأرض والعامل ، وقد بينا أنها شرط ، وإن كان من العامل فالعامل قد استأجر الأرض ، فإذا شرط عمل صاحبها لم يسلم له ما استأجر فيبطل ، ولو شرطا الخارج كله لأحدهما والبذر من صاحب الأرض جاز ، فإن شرطاه له يكون مستعينا بالعامل ليزرع أرضه ، وإن شرطاه للعامل يكون إجارة للأرض وإقراضا للبذر منه ، وإن كان البذر من العامل فإن شرطاه لرب الأرض فسدت ، والخارج لرب البذر وعليه مثل أجر الأرض لأنه يصير مستأجرا للأرض بجميع [ ص: 104 ] الخارج وأنه يقطع الشركة ، وإن شرطاه للعامل جاز ويكون معيرا أرضه منه .

قال : ( ولو شرطا التبن لرب البذر صح ) معناه بعد شرط الحب بينهما ; لأنه حكم العقد لأن التبن من البذر ( وإن شرطاه للآخر لا يصح ; لأنه ربما لا يخرج إلا التبن ، وهو إنما يستحقه بالشرط ، ولو شرطا الحب نصفين ولم يتعرضا للتبن صحت الشركة في المقصود ، والتبن لرب البذر لأنه نماء بذره ، وقيل بينهما تبعا للحب ، ولو شرطا التبن لأحدهما والحب للآخر فهي فاسدة ; لأنه ربما يصيبه آفة فلا ينعقد الحب .

قال : ( وإن عقداها فامتنع صاحب البذر لم يجبر ) ولا شيء عليه من عمل الكراب في القضاء ، ويلزمه ديانة أن يرضيه لأنه غره ، والأصل فيه أن المزارعة غير لازمة في حق صاحب البذر ; لأنه لا يمكنه الوفاء بالعقد إلا بإتلاف ماله وهو البذر ، وهي لازمة في حق الآخر ; لأن منفعة العامل أو منفعة الأرض صارت مستحقة للآخر فيجب عليه تسليمها .

قال : ( وإن امتنع الآخر أجبر ) ; لأن العقد لازم كالإجارة ولا ضرر عليه في الوفاء به ( إلا أن يكون عذر تفسخ به الإجارة فتفسخ به المزارعة ) ; لأنها في معنى الإجارة ، وإذا لزم رب الأرض دين واحتاج إلى بيعها فيه باعها الحاكم كما في الإجارة .

( وليس للعامل أن يطالبه بأجرة الكراب وحفر الأنهار ) ; لأن المنافع إنما تتقوم بالعقد وإنما قومت بالخارج وقد انعدم ، ولو نبت الزرع ولم يحصد لاتباع الأرض حتى يستحصد لما فيه من إبطال حق المزارع ، وتأخير حق رب الدين أهون ، ولا يحبسه القاضي لأنه ليس بظالم والحبس جزاء الظلم .

قال : ( وأجرة الحصاد والرفاع والدياس والتذرية عليهما بالحصص ) ; لأن العقد انتهى بانتهاء الزرع لحصول المقصود ، فبقي مالا مشتركا بينهما بغير عقد فتكون مئونته عليهما ، فإن أنفق أحدهما بغير إذن الآخر ولا أمر القاضي فهو متبرع ، إذ لا ولاية له عليه .

( ولو شرطا ذلك على العامل لا يجوز ) ، وأصله أنه متى شرط في المزارعة ما ليس من [ ص: 105 ] أعمالها فسدت ; لأنه شرط لا يقتضيه العقد وفيه نفع لأحدهما فصار كاشتراط الحمل عليه .

( وعن أبي يوسف جوازه ، وعليه الفتوى ) للتعامل كالاستصناع ، ولو شرطا ذلك على رب الأرض لا يجوز بالإجماع لعدم التعارف ، وإن شرطا ما هو من أعمال الزراعة لا يفسدها ، وهو كل عمل ينبت ويزيد في الخارج ، وما لا ينبت ولا يزيد ليس من عملها ، وكل شرط ينتفع به رب الأرض بعد انقضاء المدة يفسدها ، ككري الأنهار ، وطرح السرقين في الأرض ، وبناء الحائط ، وتثنية الكراب ; وقيل إن كانت المزارعة سنتين لا تفسد في التثنية ; لأن منفعته لا تبقى ، وقيل إن كان في الخضرة لا تفسد أيضا ; لأن منفعته لا تبقى بعدها ، فإنه لو كرب مرارا لا تبقى منفعته بسقي واحد ، ولو بقيت فسدت .

واختلفوا في التثنية ، قيل هو أن يكربها مرتين وهو المشهور وفيه الكلام ، وقيل أن يكربها بعد الحصاد ويسلم الأرض مكروبة ، وهذا فاسد بكل حال ، فكل عمل قبل الإدراك مما يحصل به الخارج كالحفظ والسقي على العامل ; لأن رأس المال العمل ، وما بعد الإدراك قبل القسمة عليهما على ما ذكرنا كالحصاد وإخوته ، وما بعد القسمة كالحمل والطحن عليهما بالإجماع ، ولو أراد فصل الزرع قصيلا أو جذاذ الثمرة بسرا أو التقاط الرطب فهو عليهما ; لأنهما أنهيا العقد بعزمهما فصار كما بعد الإدراك .

قال : ( وإذا مات أحد المتعاقدين بطلت ) لما مر في الإجارة ، ولو مات رب الأرض والزرع لم يستحصد ترك حتى يحصد مراعاة للحقين ، وينتقض فيما بقي إن كان العقد على أكثر من سنة ; لأن بقاءه في السنة الأولى لما بينا من العذر ، وقد زال ولا ضرر فيه على العامل لما تقدم ، ولو مات بعد ما كرب وحفر انتقضت ، ولا شيء للعامل في مقابلة عمله ، وقد مر .

قال : ( وإذا انقضت المدة ولم يدرك الزرع فعلى المزارع أجرة نصيبه من الأرض حتى يستحصد ) ; لأن إبقاء الزرع بأجرة المثل نظرا للجانبين .

قال : ( ونفقة الزرع عليهما حتى يستحصد ) لانتهاء العقد فصار عملا في مال مشترك فيكون عليهما ، ولو مات رب الأرض والزرع بقل ، فالعمل على العامل لبقاء العقد ببقاء مدته .

[ ص: 106 ] فصل

[ التعدي بالسقي ]

ومن سقى أرضه فسال من مائه إلى أرض غيره فغرقها أو نزت إليها فلا ضمان عليه . معناه : إذا سقاه سقيا معتادا ، أما إذا كان غير معتاد ضمن لأنه متعد ; لأنه تسبب لتغريق أرض الغير غالبا ، ولو كان في أرضه جحر فأرة فخرج منه الماء إلى أرض جاره فغرقت إن لم يعلم به لم يضمن لعدم التعدي ، وإن علم ضمن للتعدي ، وعلى هذا إذا فتح رأس نهره فسال إلى أرض جاره فغرقت إن كان معتادا لا يضمن وإلا ضمن ; وكذا لو أحرق الكلأ والحصائد في أرضه فذهبت النار فأحرقت شيئا لغيره إن كان إيقادا معتادا لا يضمن وإلا ضمن ، وقيل إن كان يوم ريح وعلم أن النار تتعدى ضمن .

التالي السابق


الخدمات العلمية